المنشورات

التكسب بالشعر والأنفة منه

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنهاكم عن قيل وقال، وعن كثرة السؤال، وإضاعة المال، وعقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات ".
وكانت العرب لا تتكسب بالشعر، وإنما يصنع أحدهم ما يصنعه فكاهة أو مكافأة عن يد لا يستطيع أداء حقها إلا بالشكر إعظاماً لها، كما قال امرؤ القيس بن حجر يمدح بني تيم رهط المعلى:
أقر حشا امرئ القيس بن حجر ... بنو تيم مصابيح الظلام
لأن المعلى أحسن إليه وأجاره حين طلبه المنذر بن ماء السماء، لقتله بني أبيه الذين قتل بدير مرينا، فقيل لبني تيم " مصابيح الظلام " من ذلك اليوم لبيت امرئ القيس. وقال أيضاً لسعد بن الضباب:
سأجزيك الذي دافعت عني ... وما يجزيك عني غير شكري
فأخبره أن شكره هو الغاية في مجازاته كما قدمت.
حتى نشأ النابغة الذبياني؛ فمدح الملوك، وقبل الصلة على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر، وكان قادراً على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته أو من سار إليه من ملوك غسان، فسقطت منزلته، وتكسب مالاً جسيماً، حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك.
وتكسب زهير بن أبي سلمى بالشعر يسيراً مع هرم بن سنان.
فلما جاء الأعشى جعل الشعر متجراً يتجر به نحو البلدان، وقصد حتى ملك العجم فأثابه وأجزل عطيته علماً بقدر ما يقول عند العرب، واقتداء بهم فيه، على أن شعره لم يحسن عنده حين فسر له، بل استهجنه واستخف به، لكن احتذى فعل الملوك ملوك العرب.
وأكثر العلماء يقولون: إنه أول من سأل بشعره، وقد علمنا أن النابغة أسن منه وأقدم شعراً، وقد ذكر عنه من التكسب بالشعر مع النعمان بن المنذر مع ما فيه من قبح: من مجاعلة الحاجب، ودس الندماء على ذكره بين يديه، وما أشبه ذلك.
وذكر أن أبا عمرو بن العلاء سئل: لم خضع النابغة للنعمان؟ فقال: رغب في عطائه وعصافيره.
وأما زهير فما بلغه الطائي قط معرفة باجتداء من يمدحه، ويدلك على ذلك ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنة زهير حين سألها: ما فعلت حلل هرم بن سنان التي كساها أباك؟ قالت: أبلاها الدهر، قال: لكن ما كساه أبوك هرماً لم يبله الدهر، وقال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدني ما قال فيكم زهير، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، قال: يا أمير المؤمنين إنا كنا نعطيه فنجزل، قال عمر: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.
ثم إن الحطيئة أكثر من السؤال بالشعر، وانحطاط الهمة فيه، والإلحاف، حتى مقت وذل أهله وهلم جرا، إلى أن حرم السائل وعدم المسئول.
إلا بقايا من أناس بهم ... إلى سبيل المكرمات يهتدى
كالسيد أبي الحسن أحسن الله إلى الدنيا ببقائه. وأما أكثر من تقدم فالغالب على طباعهم الأنفة من السؤال بالشعر، وقلة التعرض به لما في أيدي الناس، إلا فيما لا يزرى بقدر ولا مروءة كالفلتة النادرة والمهمة العظيمة، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته.
ألا ترى أن لبيد بن ربيعة لما بعث إليه الوليد بن عقبة مائة من الإبل ينحرها كعادته عند هبوب الصبا، وقد أسن وأقل، وكان يطعم الناس ما هبت الصبا، قال لابنته: اشكري هذا الرجل فإني لا أجد نفسي تجيبني، ولقد أراني لا أعيا بجواب شاعر، فقالت هذه الأبيات:
إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليدا
أغر الوجه أبيض عبشمياً ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركباً ... عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيراً ... نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد إن الكريم له معاد ... وظني بابن أروى أن يعودا
وعرضتها عليه فقال: لقد أجدت لولا أنك استعدت، كراهية في قولها:
فعد إن الكريم له معاد ويروى: لولا أنك استزدت.
وقالوا: كان الشاعر في مبتدأ الأمر أرفع منزلة من الخطيب؛ لحاجتهم إلى الشعر في تخليد المآثر، وشدة العارضة، وحماية العشيرة، وتهيبهم عند شاعر غيرهم من القبائل؛ فلا يقدم عليهم خوفاً من شاعرهم على نفسه وقبيلته، فلما تكسبوا به وجعلوه طعمة وتولوا به الأعراض وتناولوها صارت الخطابة فوقه، وعلى هذا المنهاج كانوا حتى فشت فيهم الضراعة، وتطعموا أموال الناس، وجشعوا فخشعوا، واطمأنت بهم دار الذلة، إلا من وقر نفسه وقارها، وعرف لها مقدارها، حتى قبض تقي العرض مصون الوجه، ما لم يكن به اضطرار تحل به الميتة، فأما من وجد البلغة والكفاف فلا وجه لسؤاله بالشعر.
فقد حكى عن ابن ميادة أنه مدح أبا جعفر المنصور بكلمته التي يقول فيها:
فوجدت حين لقيت أيمن طائر ... ووليت حين وليت بالإصلاح
وعفوت عن كسر الجناح ولم يكن ... لتطير ناهضة بغير جناح
قوم إذا جلب الثناء إليهم ... بيع الثناء هناك بالأرباح
وأتاه راعي إبله بلبن فشرب ثم مسح على بطنه وقد عزم على الرحلة فقال: سبحان الله أأفد على أمير المؤمنين وهذه الشربة تكفيني؟!! وصرف وجهه عن قصده، فلم يفد عليه، هذا على أنه ساقة الشعراء، فأنت ترى كبر نفسه، وبعد همته.
على أن عبد الله بن عمر على جلالته، والحسن البصري، وعكرمة، ومالك بن أنس المدني وجملة من أهل العلم غير هؤلاء، كانوا يقبلون صلات الملوك.
وقد سئل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن مال السلطان، فقال: لحم طير زكي.
والشعراء في قبولها مال الملوك أعذر من المتورعين وأصحاب الفتيا؛ لما جرت به العادة قبل الإسلام وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أيام المنصور الذي أنف ابن ميادة أن يفد عليه.
وهكذا يروى عن جميل بن عبد الله بن معمر أنه ما مدح أحداً قط إلا ذويه وقراباته، وأنه صحب الوليد بن عبد الملك في سفر، فكلفه أن يرجز به، وظن أنه يمدحه فأنشأ يقول:
أنا جميل في السنام من معد ... في الذروة العلياء والركن الأشد
فقال له الوليد: اركب لا حملت.
وزعم محمد بن سلام الجمحي أنه مدح عبد العزيز بن مروان بقوله في شعره:
أبا مروان أنت فتى قريش ... وكهلهم إذا عد الكهول
توليه العشيرة ما عناها ... فلا ضيق الذراع ولا بخيل
كلا يوميه بالمعروف طلق ... وكل بلائه حسن جميل
وعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وكان يشبه به من المولدين العباس بن الأحنف، فإنه ممن أنف عن المدح تظرفاً، وقال فيه مصعب الزبيري: العباس عمر العراق، يريد أنه لأهل العراق كعمر بن أبي ربيعة لأهل الحجاز، استرسالاً في الكلام، وأنفة عن المدح والهجاء، واشتهر بذلك، فلم يكن يكلفه إياه أحد من الملوك ولا الوزراء، وقد أخذ صلة الرشيد وغيره على حسن التغزل ولطف المقاصد في التشبيب بالنساء.
وهذا باب قد احتذاه الكتاب في زماننا هذا إلا القليل، وقوم من شعراء وقتنا أنا ذاكرهم في كتاب غير هذا، إن شاء الله.
وعلى كل حال فإن الأخذ من الملوك كما فعل النابغة، ومن الرؤساء الجلة كما فعل زهير؛ سهل وخفيف.
فأما الحطيئة فقبح الله همته الساقطة على جلالة شعره وشرف بيته، وقد كانت الشعراء ترى الأخذ ممن دون الملوك عاراً، فضلاً عن العامة وأطراف الناس.
قال ذو الرمة يهجو مروان بن أبي حفصة بذلك، ويفتخر عليه بأنه لا يقبل إلا صلة الملك الأعظم وحده، هكذا رواه عبد الكريم وأنشده ابن عبد ربه أيضاً:
عطايا أمير المؤمنين ولم تكن ... مقسمة من هؤلا وأولائكا
وما نلت حتى شبت إلا عطية ... تقوم بها مصرورة في ردائكا
وأنشد له أو لغيره:
وما كان مالي من تراث ورثته ... ولا دية كانت، ولا كسب مأثم
ولكن عطاء الله من كل رحلة ... إلى كل محجوب السرادق خضرم
وقال صاحب الكتاب: والذي أعرف أن سلم بن عمرو الخاسر كتب إلى مروان بن أبي حفصة:
من مبلغ مروان عني رسالة ... مغلغلة لا تنثني عن لقائكا
حباني أمير المؤمنين بنفحة ... ثمانين ألفاً طأطأت من حبائكا
ثمانين ألفاً نلت من صلب ماله ... ولم تك قسماً من أولى وأولائكا
فأجابه مروان عن ذلك فقال:
أسلم بن عمرو قد تعاطيت خطة ... تقصر عنها بعد طول عنائكا
وإني لسباق إذا الخيل كلفت ... مدى مائة أو غاية فوق ذلكا
فدع سابقاً إن عاودتك عجاجة ... سنابكه أوهين منك سنابكا
رأيت أمرأ نال السها فحسدته ... فلم يبق إلا أن تموت بدائكا
طلبت من المهدي شطر حبائه ... فقال لك المهدي لست هنالكا
فما أعولت أم على ابن، ولا بكى ... على يوسف يعقوب مثل بكائكا
عضضت على كفيك حتى كأنما ... رزئت الذي أعطيت من صلب مالكا
حبيت بأوقار البغال، وإنما ... سراب الضحى ما تدعي من حبائكا
وما نلت حتى شبت إلا عطية ... تقوم بها مصرورة في ردائكا
وما عبت من قسم الملوك لشاعر ... به خص عفواً من أولى وأولائكا
وأقسم لولا ابن الربيع ورفده ... لما ابتلت الدلو التي في رشائكا
ومن قول مروان أيضاً:
قد حبيت بألف ألف لم تكن ... إلا بكف خليفة ووزير
ما زلت آنف أن أؤلف مدحة ... إلا لصاحب منبر وسرير
ما ضرني حسد اللئام، ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو التقصير
وقال آخر فيما يناسب هذا ويشاكله، ويشد على يد من تمذهب به أو اعتقده:
وإذا لم يكن من الذل بد ... فالق بالذل إن لقيت الكبارا
وافتخر بشار بن برد فقال:
وإني لنهاض اليدين إلى العلا ... قروع لأبواب الهمام المتوج
ويروى وإني لسوار اليدين أي: مرتفع.










مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید