المنشورات

باب المبالغة

وهي ضروب كثيرة. والناس فيها مختلفون: منهم من يؤثرها، ويقول بتفضيلها، ويراها الغاية القصوى في الجودة، وذلك مشهور من مذهب نابغة بني ذبيان، وهو القائل: أشعر الناس من استجيد كذبه، وضحك من رديئه، هكذا أعرفه، ورأيت بخط جماعة منهم عبد الكريم والباغي من استجيد جيده ومطابقه وضحك من رديئه. وروى قوم من حديث النابغة ومطالبته حسان ابن ثابت بالمبالغة ونسبته إياه إلى التقصير في قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ما هو مشهور عندهم مشهور في كتبهم، ومنهم من يعيبها وينكرها، ويراها عيباً وهجنة في الكلام، قال بعض الحذاق بنقد الشعر: المبالغة ربما أحالت المعنى، ولبسته على السامع؛ فليست لذلك من أحسن الكلام ولا أفخره، لأنها لا تقع موقع القبول كما يقع الاقتصاد وما قاربه؛ لأنه ينبغي أن يكون من أهم أغراض الشاعر والمتكلم أيضاً الإبانة والإفصاح، وتقريب المعنى على السامع؛ فإن العرب إنما فضلت بالبيان والفصاحة، وحلا منطقها في الصدور وقبلته النفوس لأساليب حسنة، وإشارات لطيفة، تكسبه بياناً وتصوره في القلوب تصويراً، ولو كان الشعر هو المبالغة لكانت الحاضرة والمحدثون أشعر من القدماء، وقد رأيناهم احتالوا للكلام حتى قربوه من فهم السامع بالاستعارات والمجازات التي استعملوها، وبالتشكك في الشبهين، كما قال ذو الرمة:
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا أنت أم أم سالم 
فلو أنه قال أنت أم سالم على نفي الشك بل لو قال " أنت أحسن من الظبية " لما حل من القلوب محل التشكك. وكما قال جرير:
فإنك لو رأيت عبيد نسيمٍ ... وتيماً قلت: أيهم العبيد
فلو قال " عبيدهم " أو " خير منهم " لما ظن به الصدق، فاحتال في تقريب المشابهة؛ لأن في قربها لطافة تقع في القلوب وتدعو إلى التصديق.
وكذلك قول أبي النجم يصف عرق الخيل:
كأنه من عرقٍ يسربله ... ككرسف النداف لولا بلله
فإنه لو قال " إنه الكرسف " لم يكن في حسن هذا؛ لأنه يشهد بتقارب الشبهين إلى أن وقع في الشك.. والمبالغة في صناعة الشعر كالاستراحة من الشاعر إذا أعياه إيراد معنى حسن بالغ فيشغل الأسماع بما هو محال، ويهول مع ذلك على السامعين، وإنما يقصدها من ليس بمتمكن من محاسن الكلام أن تمكنه، ولا يتعذر عليه، وتنجذب كلما أرادها إليه، انقضى كلامه.
وفيه كفاية وبلاغ، إلا أنه فيما يظهر من فحواه لم يرد إلا ما كان فيه بعد، وليس كل مبالغة كذلك، ألا ترى أن التتميم إذا طلبت حقيقته كان ضرباً من المبالغة وإن ظهر أنه من أنواع الحشو المستحسن، وقد مر ذكره. وكذلك ما ناسب قول ابن المعتز يصف خيلاً:
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... وطارت بها أيدٍ سراع وأرجل
وهذا عند جميع الناس من باب الحشو، وهو عندي مبالغة، وكذلك الإيغال، وسيرد في بابه إن شاء الله.
فمن أحسن المبالغة وأغربها عند الحذاق: التقصي، وهو بلوغ الشاعر أقصى ما يمكن من وصف الشيء، كقول عمرو بن الأيهم التغلبي:
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث كانا
فتقصى بما يمكن أن يقدر عليه فتعاطاه ووصف به قومه.
ومن أغربها أيضاً ترادف الصفات، وفي ذلك تهويل مع صحة لفظ لا تحيل معنى، كقول الله تعالى: " أو كظلمات في بحر لجىً يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعضٍ ".
فأما الغلو فهو الذي ينكره من ينكر المبالغة من سائر أنواعها، ويقع فيه الاختلاف لا ما سواه مما بينت، ولو بطلت المبالغة كلها وعيبت لبطل التشبيه وعيبت الاستعارة، إلى كثير من محاسن الكلام: فمن أبيات المبالغة قول امرئ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر المستحر
فوصف فاها بهذه الصفة سحراً عند تغيير الأفواه بعد النوم، فكيف تظنها في أول الليل؟! ومثل ذلك قوله يصف ناراً وإن كان فيه إغراق:
نظرت إليها، والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان، تشب لقفال
يقول: نظرت إلى نار هذه المرأة تشب لقفال والنجوم كأنها مصابيح رهبان، وقد قال:
تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
وبين المكانين بعد أيام، وإنما يرجع القفال إلى الغزو والغارات وجه الصباح؛ فإذا رأوها من مسافة أيام وجه الصباح وقد خمد سناها وكل موقدها فكيف كانت أول الليل؟!! وشبه النجوم بمصابيح الرهبان؛ لأنها في السحر يضعف نورها كما يضعف نور المصابيح الموقدة ليلها أجمع، لا سيما مصابيح الرهبان؛ لأنهم يكلون من سهر الليل فربما نعسوا ذلك الوقت، وهذا مما أورده شيخنا أبو عبد الله.
وقال أمرؤ القيس يصف فرساً:
لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر
أراد طوله؛ لأن العروس تجر ذيلها إما من الحياء وإما من الخيلاء.
وزعم الجاحظ أن قول غيلان ذي الرمة:
وليل كجلباب العروس ادرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد
أراد به سبوغه لا لونه، وأكثر الناس على خلاف قوله، وأنا أرى أن هذا كقول عوف بن عطية بن الخرع التيمي من تيم الرباب يصف خيلاً:
وجللن دمخاً قناع العرو ... س تدني على حاجبيها الخمار
دمخ جبل بعينه، فأراد أن الخيل كسونه قناعاً من الغبار هذه صفته.
ومن معجز المبالغة قول الله عز وجل: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار " فجعل من يسر القول كمن يجهر به، والمستخفي بالليل كالسارب بالنهار، وكل واحد منهما أشد مبالغة في معناه وأتم صفة.










مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید