المنشورات

باب الإيغال

وهو ضرب من المبالغة كما قدمت، إلا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها، والحاتمي وأصحابه يسمونه التبليغ، وهو تفعيل من بلوغ الغاية، وذلك يشهد بصحة ما قلته، ويدل على ما رتبته.
وحكى الحاتمي عن عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد المبرد قال: حدثني التوزي قال: قلت للأصمعي: من أشعر الناس؟ قال: الذي يجعل المعنى الخسيس بلفظه كبيراً، أو يأتي إلى المعنى الكبير فيجعله خسيساً، أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى، قال: قلت: نحو من؟ قال: نحو الأعشى إذ يقول:
كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
فقد تم المثل بقوله: وأوهى قرنه، فلما احتاج إلى القافية قال " الوعل " قال: قلت: وكيف صار الوعل مفضلا على كل ما ينطح؟ قال: لأنه ينحط من قنة الجبل على قرنه فلا يضيره، قال: قلت: ثم نحو من؟ قال: نحو ذي الرمة بقوله:
قف العيس في أطلال مية واسأل ... رسوماً كأخلاق الرداء المسلسل
فتمم كلامه، ثم احتاج إلى القافية فقال " المسلسل " فزاد شيئاً، وقوله:
أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعاً كتبديد الجمان المفصل
فتمم كلامه، ثم احتاج إلى القافية فقال " المفلل " فزاد شيئاً أيضاً.
وليس بين الناس اختلاف أن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى بقوله يصف الفرس:
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثأب
فبالغ في صفته، وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شأوين ويبتل عطفه بالعرق، ثم زاد إيغالاً في صفته بذكر الأثأب، وهو شجر للريح في أضعاف أغصانه حفيف عظيم وشدة صوت، ومثل ذلك قوله:
كأن عيون الطير حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
فقوله " لم يثقب " إيغال في التشبيه، وأتبعه زهير فقال:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
فأوغل في التشبيه إيغالاً بتشبيهه ما يتناثر من فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم؛ لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن، فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض البتة، وكان خالص الحمرة، وتبعهما الأعشى فقال يصف امرأة:
غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
فأوغل بقوله " الوحل " بعد أن قال " الوجى " وكذلك قوله " الوعل " وكان الرشيد كثير العجب بقول صريع الغواني:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت به مشى المقيد في الوحل
ويقول: قاتله الله! ما كفاه أن جعله مقيداً حتى جعله في وحل، وأنا اقول: إنه بيت الأعشى بعينه.
ومن الإيغال قول الطرماح العقيلي يصف فرساً بسعة المنخر:
لا يكتم الربو إلا ريث يخرجه ... من منخر كوجار الثعلب الخرب
فكونه كوجار الثعلب غاية في المبالغة، فكيف إذا كان خرابا؟.
ومن الإيغال الحسن قول الخنساء:
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فبالغت في الوصف أشد مبالغة، وأوغلت إيغالاً شديداً بقولها " في رأسه نار " بعد أن جعلته علماً، وهو الجبل العظيم.
وأنشد الجاحظ:
ألوي حيازيمي بهن صبابة ... كما تتلوى الحية المتشرق
فقوله " الحية المتشرق " إيغال؛ لأنه أشد لتلويه.
وكذلك قول جرير:
بات الفرزدق عائراً وكأنه ... قعو تعاوره السقاة معار
وإذا كان معاراً كان أشد لاستعماله وأقل للتحفظ عليه.
وقال النجاشي يذكر عبد الرحمن بن حسان:
لما أتاني ما يقول ودونه ... مسيرة شهر للمطى المفرد
فأوغل بقوله " المفرد " إيغالاً عجيباً؛ لأنه أسير من المحمل.
وقال جميل:
إني لأكتم حبها إذ بعضهم ... فيمن يحب كناشد الأغفال
" الناشد " طالب الضالة، وإذا كانت غفلاً ليس فيها سمة كان أشد للبحث عليها، وأكثر للسؤال والذكر.
ومن أحسن إيغال المحدثين قول مروان بن أبي حفصة:
هم القوم: إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
فقوله " وأجزلوا " قد أتى به في نهاية الحسن.
وكذلك قول بشار بن برد:
وغيران من دون النساء كأنه ... أسامة ذو الشبلين حين يجوع
فقوله " حين يجوع " إيغال حسن.
وقال ابن المعتز:
وداع دعا والليل بيني وبينه ... فكنت مكان الظن منه وأعجلا
فقوله " وأعجل " زيادة وصف، وإيغال ظاهر.
وقال أبو الطيب في رثاء أم سيف الدولة:
مشى الأمراء حوليها حفاة ... كأن المرو من زف الرئال
" فالزف ": أصغر الريش وألينه، ولا سيما النعام، ولم يرض بذلك حتى جعله زف الرئال، شبه به المرو وهو ما صغر من الحصى وحد فهذا فوق كل مبالغة وإيغال.
ومن هذا نوع يسمى الاستظهار، وهو قول ابن المعتز لابن طباطبا العلوي أو غيره:
فأنتم بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمه المسلم
فقوله " المسلم " استظهار؛ لأن العلوية من بني عم النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً أعني أبا طالب ومات جاهلياً، فكأن ابن المعتز أشار بحذقه إلى ميراث الخلافة.
وليس بين الإيغال والتتميم كبير فرق؛ إلا أن هذا في القافية لا يعدوها، وذلك في حشو البيت.
واشتقاق الإيغال من الإبعاد، يقال: أوغل في الأرض، إذا أبعد، فيما حكاه ابن دريد، وقال: وكل داخل في شيء دخول مستعجل فقد أوغل فيه وقال الأصمعي في شرح قول ذي الرمة:
كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج
الإيغال: سرعة الدخول في الشيء، يقال: أوغل في الأمر، إذا دخل فيه بسرعة، فعلى القول الأول كأن الشاعر أبعد في المبالغة وذهب فيها كل الذهاب، وعلى القول الثاني كأنه أسرع الخول في المبالغة بمبادرته هذه القافية.
وكلما أكثرت من الشواهد في باب فإنما أريد بذلك تأنيس المتعلم وتجسيره على الأشياء الزائعة. ولأريه كيف تصرف الناس في ذلك الفن، وقلبوا تلك المعاني والألفاظ.










مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید