المنشورات

التصرف ونقد الشعر

يجب للشاعر أن يكون متصرفاً في أنواع الشعر: من جد وهزل، وحلو وجزل، وأن لا يكون في النسيب أبرع منه في الرثاء، ولا في المديح أنفذ منه في الهجاء، ولا في الافتخار أبلغ منه في الاعتذار، ولا في واحد مما ذكرت أبعد منه صوتاً في سائرها؛ فإنه متى كان كذلك حكم له بالتقدم، وحاز قصب السبق، كما حازها بشار بن برد، وأبو نواس بعده.
حكى الصاحب بن عبادة في صدر رسالة صنعها على أبي الطيب، قال: حدثني محمد بن يوسف الحمادي، قال: حضرت بمجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وقد حضره البحتري، فقال: يا أبا عبادة، أمسلم أشعر أم أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس؛ لأنه يتصرف في كل طريق، ويبرع في كل مذهب: إن شاء جد، وإن شاء هزل، ومسلم، ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ولا يتحقق بمذهب لا يتخطاه فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: أيها الأمير، ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله؛ فإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه، فقال: وريت بك زنادي يا أبا عبادة، إن حكمك في عميك أبي نواس ومسلم وافق حكم أبي نواس في عميه جرير والفرزدق؛ فإنه سئل عنهما ففضل جريراً، فقيل: إن أبا عبادة لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا من علم أبي عبيدة؛ فإنما يعرفه من دفع إلى مضايق الشعر، وقد خالف البحتري أبا نواس في الحكم بين جرير والفرزدق، فقدم الفرزدق، قيل له: كيف تقدمه وجرير أشبه طبعاً بك منه؟ فقال: إنما يزعم هذا من لا علم له بالشعر، جرير لا يعدو في هجائه الفرزدق ذكر القين وجعثن وقتل الزبير، والفرزدق يرميه في كل قصيدة بآبدة، حكى ذلك غير واحد من المؤلفين.
فإذا كان هذا فقد حكم له بالتصرف، وبهذا أقول أنا، وإياه أعتقد فيهما، وإذا لم يكن شعر الشاعر نمطاً واحداً لم يمله السامع، حتى إن حبيباً ادعى ذلك لنفسه في القصيدة الواحدة فقال:
الجد والهزل في توشيع لحمتها ... والنبل والسخف، والأشجان والطرب
وقد كان إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية:
لا يصلح النفس إذ كانت مصرفة ... إلا التصرف من حال إلى حال
وأنشد الصاحب لأبي أحمد يحيى بن علي المنجم في نقد الشعر:
رب شعر نقدته مثل ما ين ... قد رأس الصيارف الدينارا
ثم أرسلته فكانت معاني ... هـ وألفاظه معاً أبكارا
لو تأتى لقالة الشعر ما أس ... قط منه الحلو به الأشعارا
إن خير الكلام ما يستعير النا ... س منه ولم يكن مستعارا
وقال الجاحظ:
طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار، وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب: كالحسن بن وهب، ومحمد بن عبد الملك الزيات.
قال الصاحب على أثر هذه الحكاية: فلله أبو عثمان، فلقد غاص على سر الشعر، واستخرج أرق من السحر.
وسأذكر بعد هذا الباب قطعة من أشعار الكتاب يظهر فيها مرماهم، ويستدل به على مغزاهم، ويعرف حسن اختيار الجاحظ فيما ذهب إليه من تفضيلهم، ويشهد لي بجودة الميز، وفرط التثبت والإنصاف، إن شاء الله تعالى.









مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید