المنشورات

في أشعار الكتاب

والكتاب أرق الناس في الشعر طبعاً، وأملحهم تصنيعاً، وأحلاهم ألفاظاً، وألطفهم معاني، وأقدرهم على تصرف، وأبعدهم من تكلف.
وقد قيل: الكتاب دهاقين الكلام، وما نزيدك على قول إبراهيم بن العباس الصولي بين يدي المتوكل حين أحضر لمناظرته أحمد بن المدبر فقال ارتجالاً:
صد عني وصدق عني الأقوالا ... وأطاع الوشاة والعذالا
أتراه يكون شهر صدود ... وعلى وجهه رأيت الهلالا
فطرب له المتوكل واهتز ووصله، وخلع عليه وحمله، وجدد له ولاية. وقيل له في التلطف والاستعطاف أكثر من هذا، وأي مدح أبرع وأبدع من قوله في الفضل بن سهل:
لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل
فباطنها للندى ... وظاهرها للقبل
ونائلها للغنى ... وسطوتها للأجل
أليس هذا الماء الزلال، والسحر الحلال؟؟ ولقد أجاد ابن الرومي في تناوله هذا المعنى حين قال:
مفبل ظهر الكف، وهاب بطنها ... له راحة فيها الحطيم وزمزم
فظاهرها للناس ركن مقبل ... وباطنها عين من الجود عيلم
إلا أن الأول أخف وزناً، وأرشق لفظاً ومعنى. وهذان البيتان وإن كانت فيهما زيادة فإنما هما بإزاء البيت الأوسط من أبيات إبراهيم فقط..
ومن تغزل إبراهيم قوله:
أراك فلا أرد الطرف كيلا ... يكون حجاب رؤيتك الجفون
ولو أني نظرت بكل عين ... لما استقصت محاسنك العيون
فهذا وأبيك البيان، والخبر الذي كأنه العيان.
وما أجد كل حلاوة وحسن طلاوة، إلا دون قوله:
ابتداء بالتجني ... واقتضاء بالتظني
واشتفاء بتجني ... ك لأعدائك مني
بأبي قل لي لكي أع ... لم لم أعرضت عني
قد تمنى ذاك أعدا ... ئي، فقد نالوا التمني
وأما الهجاء فقد بلغ فيه أبعد الغايات بقوله في محمد بن عبد الملك الزيات:
فكن كيف شئت وقل ما تشاء ... وأرعد يميناً وأبرق شمالاً
نجا بك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقاذيره أن ينالا
ومن شعر محمد بن عبد الملك الزيات قوله لأحمد بن أبي دؤاد، وقد أمر الواثق أن يقوم جميع الناس لابن الزيات، ولم يجعل في ذلك رخصة لأحد، وكان ابن أبي دؤاد يشتغل بصلاة الضحى إذا أحس بقدومه أنفةً من القيام إليه في دار السلطان، وامتثالاً للأمر، فصنع ابن الزيات:
صلى الضحى لما استفاد عداوتي ... وأراه ينسك بعدها ويصوم
لا تعد من عداوة مشئومة ... تركتك تقعد تارةً وتقوم
ومن تغزله قوله، وهو في غاية العذوبة:
قام بقلبي وقعد ... لما نفى عني الجلد
يا صاحب القصر الذي ... أسهر عيني ورقد
واعطشي إلى فمٍ ... يمج خمراً من برد
إن قسم الناس فحس ... بي بك من كل أحد
وقال يرثي جاريته سلوانة، وهي أم ولده عمر الأصغر:
يقول لي الخلان: لو زرت قبرها ... فقلت: وهل غير الفؤاد لها قبر؟
على حين لم أحدث فأجهل قدرها ... ولم أبلغ السن التي معها الصبر
وقال أيضاً وأحسن ما شاء:
مالي إذا غبت لم أذكر بواحدة ... وإن مرضت فطال السقم لم أعد
ما أعجب شيء ترجوه فتحرمه ... قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي
ومن شعره في هذا الباب مقطعات متفرقة تغني عن الإكثار منه ههنا.
وأما الحسن بن وهب فمن قوله:
لم تنم مقلتي لطول بكاها ... ولما جال فوقها من قذاها
فالقذى كحلها إلى أن ترى وج ... هـ سليمى، وكيف لي أن تراها؟!
أسعدت مقلتي بإدمانها الدم ... ع وهجرانها الكرى مقلتاها
فلعيني في كل حين دموع ... إنما تستدرها عيناها
وقدم إليه كانون، ومعه قينة كان يهواها، فأمرت بإبعاد الكانون، فصنع:
بأبي كرهت النار حتى أبعدت ... فعرفت ما معناك في إبعادها
هي ضرة لك بالتماع شعاعها ... وبحسن صورتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك بالقلوب صنيعها ... بأراكها وسيالها وعرادها
شركتك في كل الجهات بحسنها ... وضيائها وصلاحها وفسادها
ومن مليح الشعر قوله يمدح محمد بن عبد الله بن ظاهر غب مطر:
هطلتنا السماء هطلا دراكا ... جاوز المزربان فيه السماكا
قلت للبرق إذ تألق فيه: ... يا زناد السماء من أوراكا
أحبيباً أحببته فجفاكا؟ ... فعسى ذاك أن يعود كذاكا
أم تشبهت بالأمير أبي العب ... اس في جوده؟ فلست هناكا
وهذا هو الكلام الكتابي، السهل، المرسل، الحسن الطلاوة، والظاهر الحلاوة.
ومن قوله يرثى حبيباً الطائي، وكان صديقاً له جداً:
سقى بالموصل القبر الغريبا ... سحائب ينتحبن به نحيبا
إذا أظللنه أطلقن فيه ... شعيب المزن يتبعها شعيبا
ولطمت البروق له خدوداً ... وشققت الرعود له جيوبا
فإن تراب ذاك القبر يحوي ... حبيباً كان يدعى لي حبيبا
وهي قصيدة كاملة أتيت بهذا منها معرضاً.
ومن شعراء الكتاب سعيد بن حميد الكاتب، وهو القائل في طول الليل:
يا ليل، بل يا أبد ... أنائم عنك غد؟
يا ليل، لو تلقى الذي ... ألقى بها أو أجد
قصر من طولك أو ... أضعف منك الجلد
ورواه قوم أنحل من منك الجسد والأول عندي أصوب، وعلى كل حال فمنه أخذ أبو الطيب قوله:
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي ... فتظهر فيه رقة ونحول
وليس يلزم الكاتب أن يجاري الشاعر في أحكام صنعة الشعر؛ لرغبة الكتاب في حلاوة الألفاظ وطيرانها، وقلة الكلفة، والإتيان بما يخف على النفس منها؛ وأيضاً فإن أكثر أشعارهم إنما يأتي تظرفاً، لا عن رغبة ولا رهبة، فهم مطلقون مخلون في شهواتهم، مسامحون في مذاهبهم؛ إذ كانوا إنما يصنعون الشعر تخيراً واستظرافاً، كما قال كشاجم الكاتب:
ولئن شعرت فما تع ... مدت الهجاء ولا المديحه
لكن رأيت الشعر لل ... آداب ترجمة فصيحه
وعلى هذا النمط يجري الحكم في أشعار الخلفاء، والأمراء، والمترفين من أهل الأقدار: لا يحاسبون فيها محاسبة الشاعر المبرز الذي الشعر صناعته، والمديح بضاعته.
وقد أعرب أبو الفتح بن العميد وأغرب في قوله:
فإن كان مرضياً فقل: شعر كاتب ... وإن كان مسخوطاً فقل: شعر كاتب
ولو حاولت أن أذكر من علمت من شعراء الكتاب سوى من ذكرت لبعد الأمد، وطالت الشقة، واحتجت إلى أن أقيم لهذا الفن ديواناً مفرداً؛ لكني عولت على ابن الزيات، وابن وهب؛ لإحالة الجاحظ في الفضل عليهما، وآنستهما باثنين ليسا بدونهما، ولو لم آت بهذا الباب إلا بما بنيته عليه من ذكر أشعار السيد الرئيس أبي الحسن أيده الله لكان ذلك فوق الرضا والكفاية.
فمن ذلك قوله:
باكر الراح ودع عنك العدل ... واسع في الصحة من قبل العلل
واغتنم لذة يوم زائل ... فالمنايا ضاحكات بالأمل
ما ترى الساقي كشمس طلعت ... تحمل المريخ في برج الحمل
مائساً كالغصن في دعص نقاً ... فاتن المقلة زينت بالكحل
وقوله أيضاً يتغزل:
مر بنا يهتز في مشيه ... مثل اهتزاز الغصن الرطب
فمقلتي ترتع في حسنه ... ومقلتاه أحرقت قلبي
قوله " أحرقت " وهما مقلتان كقول بعضهم، وأنشده أبو الجراح في طبقات الشعراء:
أشركت عيناه ظالمة ... في دمي يا عظم ما جنت
فقال " ظالمة " وقال " جنت " لأن التثنية جمع في الحقيقة، والجماعة تخبر عنها كما تخبر عن الواحد: لمكان التأنيث، والشاهد من قول القدماء قول أحدهم:
لمن زحلوقة زل ... بها العينان تنهل
فقال " تنهل " وكان حقه أن يقول " تنهلان " لكن العلة ما قدمت.
ومن الموعظة الحسنة البالغة قوله:
أمن الزمان زمانة العقل ... فاخش الإله وحل عن الجهل
واعلم بأنك في الحساب غداً ... تجزى بما قدمت من فعل
ومن تشكي أحوال الناس وقلة ثقتهم وإنصافهم قوله:
أيا رب، إن الناس لا ينصفونني ... ولم يحسنوا قرضي على حسناتي
إذا ما رأوني في رخاء ترددوا ... إلي، وأعدائي لدى الأزمات
ومهما أكن في نعمة حزنوا لها ... ذوو أنفس في شدة جذلات
ثقاتي ما دامت صلاتي لديهم ... وإن عنهم أخرتها فعداتي
سأمنع قلبي أن يحن إليهم ... وأصرف عنهم قالياً لحظاتي
وألزم نفسي الصبر دأبا لعلني ... أعاين ما أملت قبل مماتي
ألا إنما الدنيا كفاف وصحة ... وأمن، ثلاث هن طيب حياتي
قوله " ثلاث " يعني ثلاث خصال أو ثلاث أحوال، كما قال طرفة:
فلولا ثلاث هن من لذة الفتى ثم فسرهن فقال: فمنهن سبق العاذلات بشربة وكرى إذا نادى المضاف مجنباً وتقصير يوم الدجن والسبق والتقصير والكر كلها مذكرة، لكن أراد ما قدمت.
ومن أحسن الأشعار قوله:
خليلي، إن لم تسعداني فأقصرا ... فليس يداوي بالعتاب المتيم
تريدان مني النسك في غير حينه ... وغصني ريان ورأسي أسحم
وقوله في قصيدة طويلة:
غراء واضحة ينوس بقرطها ... جيد حكى جيد الغزال الأعنق
صدت فأغرت بالسجوم مدامعي ... والعين تذرف بالدموع السبق
تشكو البعاد إذا بعدت تصبراً ... وإن ارتجعت إلى الزيارة تفرق
ولقد يبيت أخو المودة لائمي ... في حبها لوم الشفيق المشفق
حتى إذا طلعت فأبصر شخصها ... أخزى جهالة لائمي المستحمق
كم قد قطعت بوصلها من ليلة ... وبشرب صافية كلون الزئبق
يسعى بها كالبدر ليلة تمه ... سحار ألحاظ رخيم المنطق
آليت أترك ذا وتلك وهذه ... حتى يفارقني سواد المفرق
فلله سلامة هذا الطبع واندفاعه، وقرب هذا اللفظ واتساعه، ولله رقة معانيه وإرهافها، وظهورها مع ذلك وانكشافها، ولطف مواقعها من القلوب، وسرعة تأثيرها في النفوس، وسيرد من شعره فيما بعد ما لاق بالمواضع التي يذكر فيها، إن شاء الله تعالى.









مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید