المنشورات

ما أشكل من المدح والهجاء

أنشدنا أبو عبد الله محمد بن جعفر النحوي، عن أبي علي الحسين بن إبراهيم الآمدي، لرجل من بني عبد شمس بن سعد بن تميم:
تضيفني وهنا، فقلت: أسابقي ... إلى الزاد؟ شلت من يدي الأصابع
ولم تلق للسعدي ضيفاً بقفرة ... من الأرض إلا وهو عريان جائع
لم يرد أنه يسبق ضيفه إلى الزاد فيكون قد هجا نفسه، ولكنه وصف ذئباً لقيه ليلاً، فقال: أتسبقني أنت إلى الأكل؟ أي: تأكلني، شلت إذاً أصابعي إن لم أرمك فأقتلك فآكل من لحمك!! ثم قال على جهة المثل: لم تلق للسعدي يعني نفسه ضيفاً بقفزة لا مستعتب فيها يعني الذئب إلا وهو جائع، يقول: فهو لا يبقي علي لأني بغيته.
ومن أناشيدهم:
أبوك الذي نبئت يحبس خيله ... غداة الندى حتى يجف لها البقل
قالوا: إذا أخذ مطر الصيف الأرض أنبتت بقلاً في أصول بقل قد يبس فذلك الأخضر هو النشر، وهو الغمير، فتأكله الإبل، فيأخذها السهام، ولا سهام في الخيل؛ فعابه بالجهل بالخيل.
وقال الأصمعي: هذا القول خطأ، بل مدحه بمعرفة الخيل؛ لأن النشر مؤذٍ لكل من يأكله وإن لم يكن ثم سهام.
وقال سليمان بن قنة في رثاء الحسين بن علي رضي الله عنهما، وذكر آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروي للفرزدق:
أولئك قوم لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت
أراد لم يغمدوا سيوفهم إلا بعد أن كثرت بها القتلى، كما تقول: لم أضربك ولم تجن علي إلا بعد أن جنيت علي؛ وقال آخرون: أراد لم يسلوا سيوفهم إلا وقد كثرت بها القتلى، كما تقول: لم ألقك ولم أحسن إليك إلا وقد أحسنت إليك، والقولان جميعاً صحيحان؛ لأنه من الأضداد.
وينشدون قول الآخر:
هجمنا عليه وهو يكعم كلبه ... دع الكلب ينبح إنما الكلب نابح
ويروى:
دفعت إليه وهو يخنق كلبه ... ألا كل كلب لا أبا لك نابح
قالوا: فالمدح أن يكون إنما يكعمه لئلا يعقر الضيوف، والذم أن يكون ذلك لئلا ينبح فيدل عليه الضيف، وأنا أعرف هذا البيت في هجاء محض للراعي هجا به الحطيئة، وهو:
ألا قبح الله الحطيئة؛ إنه ... على كل من وافى من الناس سالح
ويروى: على كل ضيف ضافه فهو سالح
هجمنا عليه وهو يكعم كلبه ... دع الكلب ينبح إنما الكلب نابح
بكيت على مذق خبيث قريته ... ألا كل عبسي على الزاد نائح
وأنشدنا أبو عبد الله:
تجنبك الجيوش أبا خبيب ... وجاد على منازلك السحاب
ويروى: أبا ربيب قال: إن دعا له فإنما أراد أن يعافي من الجيوش، وأن يجوده السحاب فتخصب أرضه، وإن دعا عليه قال: لا بقي لك خير تطمع فيه الجيوش، فهي تتجنب ديارك لعلمهم بقلة الخير عندك، ويدعو على محلته بأن تدرسها الأمطار.
وقال غيره: معناه جاد على محلتك السحاب فأخصبت ولا ماشية لك، فذلك أشد لهمك وغمك، ويكون المعنى حينئذ كقول الآخر:
وخيفاء ألقى الغيث فيها ذراعه ... فسرت وساءت كل ماش ومصرم
أي: فسرت كل ماشية، وساءت كل فقير.
وأنشد أبو عبد الله أيضاً:
إني على كل إيسار ومعسرة ... أدعو حبيشاً كما تدعى ابنة الجبل
وروى المبرد: أدعو حنيفاً يريد أنه يجيب بسرعة كالصدى، وهو ابنة الجبل، وقيل: ابنة الجبل الصخرة المنحدرة من أعلاه، وزاد أبو زيد في روايته بيتاً، وهو:
إن تدعه موهناً يعجل بجابته ... عاري الأشاجع يسعى غير مشتمل
فهذا مدح لا محالة، ومنهم من حمله على قول الآخر:
كأني إذ دعوت بني حنيف ... دعوت بدعوتي لهم الجبالا
ورواه قوم: بني سليم فمن مدح جعله كالأول في سرعة الإجابة، ومن ذم نسبهم إلى الثقل عن إجابته مثل الجبال.
ومن الدعاء الذي يدخل في هذا الباب قول الآخر:
تفرقت غنمي يوماً فقلت لها: ... يا رب سلط عليها الذئب والضبعا
قيل: إنهما إذا اجتمعا لم يؤذيا، وشغل كل واحد منهما الآخر، وإذا تفرقا آذيا، وقيل: إن معناه في الدعاء عليها قتل الذئب الأحياء عيثاً، وأكل الضبع الأموات، فلم يبق منها بقية.
ومن لطيف ما وقع في هذا الباب قول النابغة الذبياني:
يصد الشاعر الثنيان عني ... صدود البكر عن قرم هجان
لم يرد أنه يغلب الثنيان ولا يغلب الفحل، لكن أراد التصغير بالذي هجاه، فجعله ثانياً، وقال الآخر:
ومن يفخر بمثل أبي وجدي ... يجئ قبل السوابق وهو ثاني
أراد وهو ثان من عنانه؛ لأنه يسبق متمهلاً.
وقال ابن مقبل:
إن الرفاق أناخوا حول منزله ... حلوا بذي فجرات زنده واري
قال ابن السكيت " بذي فجرات " أي: يتفجر بالسخاء والعطاء، ويدل على ما قال ابن السكيت أن لصيق هذا البيت:
جم المخارج، أخلاق الكريم له، ... صلت الجبين، كريم الخال مغوار
ومما يمدح به ويذم قولهم " هو بيضة البلد " فمن مدح أراد بها أصل الطائر، ومن ذم أراد أنها لا أصل لها، قالت أخت عمرو بن عبدود في علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قتل أخاها:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... لقد بكيت عليه آخر الأبد
لكن قاتله من لا يعاب به ... وكان يدعى قديماً بيضة البلد
فهذا مدح كما تراه.
وقال الراعي النميري يهجو عدي بن الرقاع العاملي:
لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يا ابن الرقاع، ولكن لست من أحد
تأبى قضاعة ن ترضى لكم نسباً ... وابنا نزار؛ فأنتم بيضة البلد
وأنشد بعض العلماء:
وإني لظلام لأشعث بائس ... عرانا، ومقرور بري ماله الدهر
وجار قريب الدار، أو ذي جناية ... غريب بعيد الدار ليس له وفر
يظنه السامع هجا نفسه بظلم هؤلاء الذين ذكر، إنما مدحها بأنه يظلم الناقة فينحر فصيلها من غير علة ولا داء، إلا لضيافة هذا الأشعث، والجار وأشباههما.








مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید