المنشورات

ذكر منازل القمر

ولما رأيت العرب وهم أعلم الناس بهذه المنازل وأنوائها؛ لأنها سقف بيوتهم، وسبب معايشهم وانتجاعهم غلطوا فيها فقال أحدهم: من الأنجم العزل والرامحة.. وقال امرؤ القيس.
إذا ما الثريا في السماء تعرضت فأتى بتعرض الجوزاء، ورأيت كل من عني بالنجوم من المحدثين واستوفى جميع المنازل مخطئاً، لا شك في خلافه؛ لأنه إنما يصف نجوم ليلة سهرها، والنجوم كلها لا تظهر في ليلة واحدة، ولذلك قلت أنا احتياطاً في الليل من نسيب قصيدة مدحت بها السيد أبا الحسن أدام الله عزه:
قد طال حتى خلته ... من كل ناحية وسط
وتكررت فيه المنا ... زل منه لا مني الغلط
وجب أن أذكر هذه المنازل وأنواءها، واختلاف الناس فيها، وعولت في ذلك على ما ذكره أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، مجتهداً فيما استطعت من البيان والاختصار، إن شاء الله تعالى. 
السنة أربعة أجزاء، لكل جزء منها سبعة أنواء، لكل نوء ثلاثة عشر يوماً، إلا نوء الجبهة فإنه أربعة عشر يوماً، زيد فيه يوم لتكمل السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وهو المقدار الذي تقطع الشمس فيه بروج الفلك الاثنى عشر، لكل برج منزلتان وثلث منزلة، وكلما نزلت الشمس منزلة من هذه المنازل سترته؛ لأنها تستر ثلاثين درجة: خمسة عشر من خلفها، ومثلها من أمامها، فإذا انتقلت عنها ظهرت، هكذا قال الزجاجي.
وإذا اتفق أن تطلع منزلة من هذه المنازل بالغداة ويغرب رقيبه فذلك النوء لا يتفق لكل منزلة إلا مرة واحدة في السنة، وهو مأخوذ من ناء ينوء إذا نهض متثاقلاً، والعرب تجعل النوء للغارب؛ لأنه ينهض للغروب متثاقلاً، وعلى ذلك أكثر أشعارها، وتفسير بعض العلماء في قوله تعالى: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة " أي: تميل بهم الأرض، وهذا التفسير أوجه من قول من جعل الكلمة من المقلوب، قال: وبعضهم يجعله للطالع، وهذا هو مذهب المنجمين؛ لأن الطالع له التاثير والقوة، والغارب ساقط لا قوة له ولا تأثير. قال المبرد: النوء على الحقيقة للطالع من الكوكبين، لا الغارب، وهذه المنازل كلها يطلع بها الفلك من المشرق، ويغرب في المغرب، كل يوم وليلة، وتلك دورة من دوراته.
الربع الأول من السنة، وابتداؤه من سبعة عشر يوماً من آذار، وبعضهم يجعله في عشرين يوماً منه، فيستوي حينئذ الليل والنهار منه، ويطلع مع الغداة فرع الدلو الأسفل، وهو المؤخر، ويسقط العواء، وإليها ينسب النوء، وهي تمد وتقصر وصفتها خمسة كواكب كأنها ألف معطوفة الذنب إلى اليسار، وبذلك سميت، وتقول العرب: عويت الشيء، إذا عطفته، وقال آخرون: بل هي كأنها خمسة أكلب تعوي خلف الأسد، قال ابن دريد: هي دبر الأسد، والعواء في كلامهم الدبر.
النوء الثاني: السماك، وهما سماكان: أحدهما السماك الأعزل، نجم وفاد، شبهوه بالأعزل من الرجال، وهو الذي لا سلاح معه، وهو منزل القمر، والآخر: كوكب تقدمه آخر، شبهوه بالرمح، وهما ساقا الأسد، وسمي سماكاً لعلوه، ولا يقال لغيره إذا علا سماك، هكذا قال سيبويه مما حكى الزجاجي عن أبي إسحاق الزجاج، غير أنه قال في الأعزل: وقيل إنما سمي أعزل لأن القمر لا ينزل به.
وأنا أقول: القول الآخر خلاف ما عليه جميع الناس، ورؤية العين تدركه على غير ما يزعم الزاعم.
النوء الثالث: الغفر، وهو ثلاثة كواكب غير زهر، وبذلك سميت، من قولك: غفرت الشيء، إذا غطيته، ومنه سميت الغفارة التي تلبس، وقيل: إنما سمي غفراً من الغفرة، وهي الشعر الذي طرف ذنب الأسد، وقال أبو عبيدة: الغفر كل شعر صغير دون الكثير، وكذلك هو في الريش، وقال قوم: هو من النكس في المرض، يقال: أغفر المريض، إذا نكس، كأن النكس غطاء العافية.
النوء الرابع: الزبانان، كوكبان مفترقان، وهما قرنا العقرب، وقيل: يداها، وسميا زبانين لبعد كل واحد منهما عن صاحبه، من قولهم: زبنت كذا، إذا دفعته لتبعده عن نفسك، ومنه اشتقاق الزبانية؛ لأنهم يدفعون أهل النار إليها.
النوء الخامس: الإكليل، ثلاثة كواكب على رأس العقرب، وبذلك سميت إكليلاً.
النوء السادس: القلب، كوكب أحمر وقاد: جعلوه للعقرب قلباً، على معنى التشبيه.
النوء السابع: الشولة، كوكبان أحدهما أخفى من الآخر، وهما ذنبا العقرب،وذنب العقرب شائل أبداً، فشبه به، هذا قول بعضهم، وبعضهم يجعل الشولة الإبرة التي في ذنب العقرب، وهم أهل الحجاز، وهو أصح على مذهب من زعم أنهما كوكبان فقط.
الربع الثاني: الصيف، أول أنوائه " النعائم " وهي ثمانية كواكب نيرة: أربعة منها في المجرة تسمى الواردة، وأربعة خارجة منها تسمى الصادرة، وشبهت بالخشبات التي تكون على البئر يعلق بها البكرة والدلاء.
الثاني من الصيف " البلدة " وهي فرجة لطيفة لا شيء فيها، لكن بجوارها كواكب تسمى القلادة، وإنما قيل لتلك الفرجة البلدة تشبيها بالفرحة التي بين الحاجبين، إذا لم يكونا مقرونين، يقال منه: رجل أبلد، ويقال: بل شبهت بالبلدة، وهي باطن الراحة كلها، وقيل: باطن ما بين السبابة والإبهام.
الثالث منه " سعد الذابح " وهما نجمان صغيران: أحدهما مرتفع في الشمال معه كوكب آخر يقال هو شاته التي تذبح، والآخر هابط في الجنوب.
الرابع منه " سعد بلع " وهما كوكبان صغيران مستويان في المجرة، شبها بفم مفتوح، يريد أن يبتلع شيئاً، وقيل: إنما قيل بلع كأنه بلع شاته، وبلع غير مصروف؛ لأنه معدول من بالع، مثل زفر وقثم، وسعد مضاف إليه.
الخامس منه " سعد السعود " وهما كوكبان: أحدهما أنور من الآخر، سمي بذلك لأن وقت طلوعه ابتداء كمال الزرع وما يعيش به الحيوان من النبات.
السادس منه " سعد الأخبية " وهما كوكبان عن شمال الخباء، والأخبية أربعة كواكب: واحد منها في وسطها يسمى الخباء؛ لأنها على صورة الخباء، وزعم ابن قتيبة أنه سمي بذلك لطلوعه وقت انتشار الحيات والهوام، وخروج ما كان مختبئاً.
السابع: فرع الدلو الأعلى، وهو المقدم، وبعضهم يسميه العرقوة العليا تشبيهاً بعرقوة الدلو، وهما كوكبان مفترقان نيران، وقيل له " دلو " لأنه تأتي فيه الأمطار العظيمة، ويقال: بل سميا بذلك لأنهما مثل صليب الدلو الذي يفرغ منه الماء.
الربع الثالث: الخريف، أول أنوائه " فرع الدلو الأسفل " وصورته كوكبان مضيئان بينهما بعد صالح يتتبعان العرقوة العليا.
ثم الحوت، وهو كوكب أزهر نير في وسط السمكة.
ثم الشرطان، وهما مفترقان مع الشمال، منهما كوكب دونه في القدر، وسميا شرطين لأن سقوطهما علامة ابتداء المطر واتصاله، وكل من جعل لنفسه علامة فقد شرطها، ومنه سمي الشرط؛ لأن لهم علامة عرفوا بها.
ثم البطين: وهو ثلاثة كواكب طمس خفيات، وهو بطن الحمل، إلا أنه قد صغر.
ثم الثريا، ثم الثريا، وهو النجم، وصورتها ستة كواكب متقاربة حتى كادت تتلاصق، وأكثر الناس يجعلها سبعة، وقد جاء الشعر بالقولين جميعاً، سميت بهذا لأن مطرها عنه تكون الثروة وكثرة العدد والغنى، وهي تصغير ثروي، ولم ينطق بها إلا مصغرة.
ثم الدبران، كوكب وقاد على أثر نجوم تسمى القلاص، وقيل له " دبران " لأنه دبر الثريا، أي: جاء خلفها، ويقال له أيضاً " الراعي " و " التالي " و " التابع " و " الحادي " على التشبيه.
ثم الهقعة، سميت بهذا تشبيها بالدائرة التي تكون عند عقب الفارس في جنب الفرس، وصورتها ثلاثة أنجم صغار متقاربة كآثار رءوس أصابع ثلاث في ثرى إذا جمعت الوسطى والسبابة والإبهام، وهي رأس الجوزاء.
الرابع: الشتاء، وهو آخر أرباع السنة، وأول أنوائه " الهنعة " سميت بذلك لأنها كوكبان مقترنان كل واحد منهما منعطف على صاحبه، من قولك: هنعه، إذا عطف بعضه على بعض، واقترانهما في المجرة بين الجوزاء والذراع المقبوضة.
ثم الذراعان، وهي ذراع الأسد المبسوطة والمقبوضة: كوكبان نيران بينهما كواكب صغار تسمى الأظفار.
ثم النثرة، وهي لطخة لطيفة بين كوكبين، وهي عندهم ما بين فم الأسد وأنفه، ومن الإنسان فرجة ما بين الشاربين حيال وترة الأنف، وقيل: إنما سميت نثرة لأنها كقطعة سحاب نثرت.
ثم الطرف، عينا الأسد، وهما كوكبان صغيران بينهما نحو قامة في مرأى العين.
ثم الجبهة، أربعة كواكب معوجة، في اليماني منها بريق، وهي جبهة الأسد عندهم.
ثم الزبرة، نجمان يرى أحدهما أكبر من الآخر، ويقال لهما " الخرتان " كأنهما نفذا إلى جوف الأسد، والعيان يبطل ذلك، كما قال الزجاجي.
ثم الصرفة، كوكب وقاد عنده كواكب طمس، سمى بذلك لانصراف البرد لسقوطه.
فهذه عدة المنازل وصفاتها، وإنما أضيفت إلى القمر دون الشمس، وحظهما فيه واحد؛ لظهورها معه، وتسمى نجوم الأخذ، كأن الأرض تأخذ عنها بركات المطر، وقيل: لأخذ الشمس والقمر سمتهما في سيرها.








مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید