المنشورات

باب من الزجر والعيافة

وعنهما يكون الفأل والطيرة، وبين الطيرة والفأل فرقان عند أهل النظر والمعرفة والحقائق؛ وذلك أن الفأل تقوية للعزيمة، وتحضيض على البغية، وإطماع في النية؛ والطيرة تكسر النية، وتصد عن الوجهة، وتثنى العزيمة، وفي ذلك ما يعطل الإحالة على المقادير.
وقد تفاءل النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عن الطيرة في قوله: " لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر " وقد تقدم ذكرها، وقيل في الهامة: إنها هده المعرفة.
والطيرة من أحد شيئين: مشتقة إما من الطيران، كأن الذي يرى ما يكره أو يسمع يطير، كما قال بعضهم:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير
وإما من الطير، وهو الأصل والمختار من الوجهين، هكذا ذكر الزجاجي.
وكانت العرب تزجر الطير والوحش؛ فمن قال بالقول الأول احتج بأن الوحش يطير بها، وزجرت مع الطير، ومن قال بالقول الثاني قال: إنما الأصل في الطير، ثم صار في الوحش، وقد يجوز أن يغلب أحد الشيئين على الآخر فيذكر دونه ويرادان جميعاً.
أنشد الجاحظ:
ما يعيف اليوم في الطير دوح ... من غراب البين أو تيسٍ برح
قال: فجعل التيس من الطير؛ إذ قدم ذكر الطير وجعله من الطير في معنى التطير، والعرب تتطير بأشياء كثيرة: منها العطاس، وسبب تطيرهم منه دابة يقال له العاطوس يكرهونها، والغراب أعظم ما يتطيرون به، والقول فيه أكثر من أن يطلب عليه شاهد، ويسمونه حاتماً؛ لأنه يحتم عندهم بالفراق، ويسمونه الأعور على جهة التطير بذلك؛ إذ كان أصح الطير بصراً، ويقال: سمي أعور لقولهم: " عورات الرجل عن حاجته " إذا رددته عنها، وقد اعتذر أبو الشيص للغراب وتطير بالإبل وإن كان غيره سبقه إلى المعنى فقال:
الناس يلحون غرا ... ب البين لما جهلوا
وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرحل
ولا إذا صاح غرا ... ب في الديار احتملوا
ما فرق الأحباب بع ... د الله إلا الإبل
وما غراب البين إ ... لا ناقة أو جمل
هكذا رويته، وبعضهم يجعل الشعر ما قرب الأحباب وبعده والناس يلحون.. بواو مكان الهمزة يعطف بها.
وقال آخر فملح وظرف:
زعموا بأن مطيهم عون النوى ... والمؤذنات بفرقة الأحباب
لو أنها حتفي لما أبغضتها ... ولهابهم سبب من الأسباب
ويتطيرون بالصرد، ومن أسمائه الأخيل، والأخطب، ويقال: الأخيل الشقراق، ويقال: بل طائر يشبهه، والولق أيضاً الصرد، قال زبان بن منظور الفزاري في حديث له كان مع نابغة بني ذبيان وقد تطير من جرادة سقطت عليه فرجع من الغزو ومضى زبان فظفر وغنم:
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير، وهي الثبور
بل شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا، وباطله كثير
يقولها في أبيات لا أقف على جملتها.
وقال شاعر قديم لزبان أيضاً:
لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم
لا، والتشاؤم بالعطا ... س ولا التيامن بالمقاسم
ولقد عدوت وكنت لا ... أعدو على واق وحاتم
وإذا الأشائم كالأيا ... من، والأيامن كالأشائم
قد خط ذلك في الزبو ... ر الأوليات القدائم
ويتشاءمون بالثور الأعضب، وهو المكسور القرن.
وقال الكميت ينفي الطير ويدفعها عن نفسه:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية ... أمر صحيح القرن أم مر أعضب
والبيت الأول من هذين يشبه بيت الأعشى الذي أنشده الجاحظ.
ومن أمثال العرب " فلان كبارح الأروى " وفيه قولان: أحدهما أن الأروى يتشاءم بها، فإذا كانت بارحاً فقد عظم الأمر، والآخر أنها إنما تكون في قرون الجبال، ولا تكاد تكون سانحة ولا بارحة.
وفي السانح والبارح اختلاف: قال عمرو بن العلاء: سأل يونس رؤبة عن السانح والبارح، فقال: السانح ما ولاك ميامنه، والبارح ما ولاك مياسره،قال ابن دريد: السانح يتيمن به أهل نجد ويتشاءمون بالبارح، ويخالفهم أهل العالية فيتشاءمون بالسانح ويتيمنون بالبارح.
قال الشاعر الهذلي يذكر امرأته:
زجرت لها طير السنيح فإن يكن ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها
قال: والسانح: الذي يلقاك وميامنه عن ميامنك، والبارح الذي يلقاك وشمائله عن شمائلك، والجابه والناطح: اللذان يستقبلانك، والقعيد: الذي يأتيك من ورائك.
قال صاحب الكتاب: الكارس الذي ينزل عليك من الجبل، حكاه الثعالبي، قال أبو جعفر النحاس: السنيح عند أهل الحجاز: ما أتى عن اليمين إلى اليسار، والبارح عندهم: ما أتى من اليسار إلى اليمين، وهم يتشاءمون بالسانح، ويتيمنون بالبارح، وأهل نجد بالضد من ذلك، والسانح عندهم هو البارح عند أهل الحجاز.
وقال المبرد: السانح: ما أراك مياسره فأمكن الصائد، والبارح: ما أراك ميامنه فلم يمكن الصائد إلا أن ينحرف له.
وقد يتطيرون من البازي والغراب وأشياء كثيرة من جهة التسمية، ويتيمن بها آخرون.
ومن مليح ما رأيت في الزجر والعيافة، قال الصولي: كان لأبي نواس إخوان لا يفارقهم، فاجتمعوا يوماً في موضع أخفوه عنه، ووجهوا إليه برسول معه ظهر قرطاس لم يكتبوا فيه شيئاً، وحزموه بزير وختموه بقار، وتقدموا إلى رسولهم أن يرمى بالكتاب من وراء الباب، فرمى به، فلما رآه استعلم خبرهم فعلم أنه من فعلهم وتعرف موضعهم وأتاهم فأنشدهم:
زجرت كتابكم لما أتاني ... كزجر سولنح الطير الجواري 
نظرت إليه مخزوماً بزير ... على ظهر، ومختوماً بقار
فقلت: الزير ملهية ومله ... وقلت: القار من دن العقار
وقلت: الظهر أهيف ذو جمال ... تركب صدغه فوق العذار
فجئت إليكم طرباً وشوقاً ... فما أخطأت دراكم بداري
فكيف ترونني وترون زجري ... ألست من الفلاسفة الكبار؟!







مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید