المنشورات

امرئ القيس و تأهبه للأخذ بالثأر:

ثم أخذ يُعِدُّ العدد ويجهز الأسلحة لمحاربة بني أسد. فبلغ بني أسد ما يعدُّه فأوفدوا عليه رجالًا من قبائلهم كهولًا وشبانًا، فيهم المهاجر بن خداش ابن عم عبيد بن الأبرص وقبيصة بن نعيم، وكان في بني أسد مقيمًا، وكان ذا بصيرة بمواقع الأمور وِردًا وإصدارًا، يعرف ذلك له من كان محيطًا بأكناف بلده من العرب. فلما علم امرؤ القيس بمكانهم أمر بإنزالهم وتقدم بإكرامهم والإفضال عليهم واحتجب عنهم ثلاثًا. فسألوا من حضرهم من رجال كندة. فقال: هو في شغل بإخراج ما في خزائن أبيه حجر من السلاح والعدة.
فقالوا: اللهم غفرًا. إنما قدمنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف، ونستدرك به ما فرط فليبلغ ذلك عنا.
فخرج عليهم في قباء7، وخفّ وعمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتم بالسواد إلا في الترات1. فلما نظروا إليه قاموا له وبدر إليه قبيصة: إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرُّف الدهر، وما تحدثه أيامه، وتتنقل به أحواله، بحيث لا تحتاج إلى تبصير واعظ، ولا تذكرة مجرّب، ولك من سؤدد منصبك وشرف أعراقك، وكرم أصلك في العرب محتمل يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة ورجوع عن هفوة. ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك. فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح في الذي كان من الخطب الجليل، الذي عمَّت رَزيَّته نزارًا واليمن، ولم تخصص كندة بذلك دوننا، للشرف البارع.
كان لحجر التاج والعمَّة فوق الجبين الكريم، وإخاء الحمد وطيب الشيم، ولو كان يُفدى هالك بالأنفس بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك ولفديناه منه. ولكن مضى به سبيل لا يرجع أولاه على أخراه، ولا يلحق أقصاه أدناه، إمَّا أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتًا وأعلاها في بناء المكرمات صوتًا، فَقُدناه إليك بنسعِهِ2 يذهب مع شفرات حسامك فيقال: رجل امتُحن بهلك عزيز، فلم تستل سخيمته3 إلا بتمكينه من الانتقام، أو فداء بما يروح من بني أسد من نَعَمها، فهي ألوف تجاوز الحسبة، فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها4، لم يردده تسليط الإحَن على البُراء5، وإما أن توادعنا حتى تضع الحوامل فنسدل الأزرَ، ونعقد الخمُر فوق الرايات.
فبكى امرؤ القيس ساعة ثم رفع رأسه فقال: لقد علمت العرب أن لا كفءَ لحجر في دم، وإني لن أعتاض به جملًا أو ناقة، فأكتسب بذلك سبَّة الأبد وفتَّ العضد. وأما النظرة، فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سبَبًا، وستعرفون طلائع كندة، من بعد ذلك، تحمل القلوب حنُقًا، وفوق الأسنة علقًا6.
إذا جالت الخيل في مأزق ... تُدافعُ فيه المنايا النفوسا
أتقيمون أم تنصرفون؟ قالوا: بل ننصرف بأسوأ الاختيار، وأبلى الاجترار1، لمكروه وأذية وحرب وبلية، ثم نهضوا عنه وقبيصة يقول متمثلاً:
لعلك أن تستوخم الموت، إن غدت ... كتائبنا في مأزق الموت، تمطر2
فقال امرؤ القيس: لا والله لا استوخمه، فرويدًا ينكشف لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير، ولقد كان ذكر غير هذا أولى بي إذ كنت نازلًا بربعي، ولكنك قلت، فأجبت.
فقال قبيصة: ما نتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب.
قال امرؤ القيس: فهو ذاك.










مصادر و المراجع :

١- شرح المعلقات السبع

المؤلف: حسين بن أحمد بن حسين الزَّوْزَني، أبو عبد الله (المتوفى: 486هـ)

الناشر: دار احياء التراث العربي

الطبعة: الأولى 1423هـ - 2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید