المنشورات

بعض أخبار لبيد بن ربيعة

من مواقف لبيد الأولى مشاركته لقومه بني جعفر في الارتحال عن ديارهم قاصدين أرض نجران؛ لأن جوّاب بن عوف زعيم بني أبي بكر بن كلاب حكم عليهم بالنفي، وفي هذه الحادثة نسمع ليبدًا يتهكم بجوّاب ويسخر من حكمه، ويستغرب نفي بني جعفر:
أَبَنِي كلابٍ كيف تُنْفَى جَعْفَرٌ ... وَبَنُو ضبينةَ حاضِرُو الأحبَابِ
قال الأصمعي: وفدَ عامر بن مالك مُلاعبُ الأسنة -وكان يكنّي أبا البراء- في رهط من بني جعفر ومعه لبيد بن ربيعة ومالك بن جعفر، وعامر بن مالك عمّ لبيد، على النعمان، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي -وأمّه فاطمة بنت الْخُرْشُبِ الأنمارية- وكان الربيع نديْمًا للنعمان مع رجل من تجار أهل الشام يقال له: زرجون بن توفيل وكان حَرِيفًا للنعمان يبايعه، وكان أديبًا حسن الحديث والنَدام، واستخفّه النعمان فكان إذا أراد أن يخلوَ على شرابه بعث إليه، وإلى النطاسي، مُتَطَبِّبٍ كان له، وإلى الربيع بن زياد، فخلا بهم، فلمّا قدم الجعفريون كان يَحْضُرُون النعمان لحاجتهم فإذا خرجوا من عنده خلا بهم الربيع فطعن فيهم، وذكر معايبهم، وكانوا بنو جعفر له أعداء، فلم يزل بالنعمان حتى صده عنهم، فدخلوا عليه يومًا فرأوا منه جفاء، وقد كان يكرمهم ويقرّبهم، فخرجوا غضابًا ولبيد متخلف في رحالهم يحفظ متاعهم ويغدو بإبلهم كل صباح فيرعاها فإذا أمسى انصرف بالإبل، فأتاهم ذات ليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فسألهم عنه فكتموه، فقال: والله لا حفظت لكم متاعًا ولا سرحت لكم بعيرًا أو تخبروني فيمَ أنتمْ، وكانت أمّ لبيد يتيمة في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الْمَلِك وصد عنا وجهه، قال لبيد: فهل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه فأزجره عنكم بقول مُمِضٍّ مؤلم لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدًا؟ قالوا: وهل عندك شيء؟ قال: نعم، قالوا: فإنا نبلوك، قال: وما ذاك؟ قالوا: تشتم هذه البقلة، وقدَّامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة فرعًا، بالأرض تُدعى التَّرَبَة، فقال: هذه التَّرَبَةُ التي لا تذكي نارًا، ولا تؤهل دارًا، ولا تسّر جارًا، عودها ضئيل، وفرعها كليل، وخيرها قليل، أقبح البقول مَرعَى، وأقصرها فرعًا، وأشدّها قلعًا، بلدها شاسع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، فأَلْقَوْا بي أخا عَبْس، أرده عنكم بتَعْس، وأتركه من أمره في لَبْس. قالوا: نصبح ونرى رأينا في أمرك، فقال عامر: انظروا إلى غلامكم هذا، يعني لبيدًا، فإن رأيتموه نائمًا فليس أمره بشيء إنما هو يتكلم بما جاء على لسانه، وإن رأيتموه ساهرًا فهو صاحبه. فرمقوه فوجدوه قد ركب رحلًا وهو يكدم وسطه حتّى أصبح، فقالوا: أنت والله صاحبه، فعمدوا إليه فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابته وألبسوه حُلَّة، ثم غدا معهم وأدخلوه على النعمان، فوجدوه يتغدّى ومعه الربيع بن زياد وهما يأكلان لا ثالث لهما، والدار والمجالس مملوءة من الوفود، فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، وقد كان أمرهم تقارب، فذكروا الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع بن زياد في كلامهم، فقال لبيد:
أكل يوم هامتي مقزَّعه1 ... يا رب هيجا هي خير من دعه
نحن بنو أم البنين الأربعه ... سيوف جن وجفان مترعه
نحن خيار عامر بن صعصعه ... الضاربون الهام تحت الخيضعه
والمطعمون الجفنة المدعدعه2 ... مهلًا أبيت اللعن لا تأكل معه
إن استه من برص ملمَّعه ... وإنه يدخل فيه إصبعَه
يدخلها حتى يواري أشجعه ... كأنه يطلب شيئًا ضيعه
فرفع النعمان يده عن الطعام وقال: خبَّثت والله يا غلام عليّ طعامي، وما رأيت كاليوم قط، فأقبل الرّبيع على النعمان فقال: كذبَ والله ابنُ الفاعلة. ولقد فعلت بأمّه كذا وكذا. فقال له لبيد: مثلك فعل ذلك بربيبة بيته والقريبة من أهله، وإنّ أمي من نساء لم يكن فواعل ما ذكرْتَ.
وقضى النعمان للجعفريين الحوائج من وقتهم وصرفهم. ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته. فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه وأمره بالانصراف إلى أهله، فكتب إليه الربيع: إني قد عرفت أنه قد وقع في نفس الملك ما قال لبيد. وإني لست بارحًا حتى تبعث إلي من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال. فأرسل إليه: إنك لست صانعًا باتقائك مما قال لبيد شيئًا. ولا قادرًا على ما زلت به الألسن فالحق بأهلك. فلحق بأهله ثم أرسل إلى النعمان بأبيات شعر قالها وهي:
لئن رحلت جمالي لا إلى سعة ... ما مثلها سعة عرضًا ولا طولا
بحيث لو وردت لَخْمٌ بأجمعها ... لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا1
ترعى الروائم أحرار البقول بها ... لا مثل رعيكم ملحًا وغسويلا2
فاثبت بأرضك بعدي واخل متكئًا ... مع النطاسي طورًا وابن توفيلا
فأجابه النعمان بقوله:
شَرِّد برحلك عنِّي حيث شئت ولا ... تكثر عليّ ودع عنك الأباطيلا
فقد ذكرت بشيء لست ناسيه ... ما جاورت مصر أهل الشام والنيلا
فما اتقاؤك منه بعدما جزعت3 ... هوج المطي به نحو ابن سمويلا
قد قيل ذلك إنْ حقًّا وإن كذبًا ... فما اعتذَاركَ من قول إذا قيلا
فالحق بحيث رأيت الأرض واسعة ... فانشر بها الطرف إنْ عرضًا وإنْ طولا
قال: وقال لبيد يهجو الربيع بن زياد، ويزعمون أنها مصنوعة:
ربيع لا يسقك نحوي سائق4 ... فتطلب الأذحال5 والحنائق6
ويعلم الْمُعْيَا به7 والسابق ... ما أنت إن ضمَّ عليك المازِقُ
إلا كشيء عاقَه العوائق ... إنك حاسٍ8 حسوة فذائق
لابد أن يغمز منك الفائق9 ... غمزًا ترى أنك منه نازق
إنك شيخ خائن منافق ... بالمخزيات ماهر مطابق1، 2
ويقال إنّ بني عامر أقاموا في منفاهم حولًا، ويدلّ شعر لبيد على أن بعض المشكلات في ذلك المنفى كادت تفرق بينهم، وأنه كان له الفضل في توحيد الكلمة قال:
ويوم منعت الحي أن يتفرقوا ... بنجران فقري ذلك اليوم فاقر3
وكان زعيم الجعفريين في أيام المنفى هو عمّ لبيد أبو براء عامر بن مالك مُلاعب الأسنّة، وقد أبى هذا الزعيم أن يقبل بمصاهرة بني الحارث بن كعب، وأمر قومه بلبس السلاح وركوب الخيل، ثم قال لهم: "سيروا حتى تقطعوا ثنية القهر -وهي ثنية باليمن- فإذا قطعتموها فانزلوا". ففعلوا ما أمرهم به، ثم لحق بهم عند الثنية وقال لهم: "هل أخذت لكم دية أو أبتكم على خسف قط؟ قالوا: لا. قال: والله لتطيعنني أو لأتكئنّ على سيفي حتى يخرج من ظهري. أتدرون ما أراد القوم؟ أرادوا أن يرتبطوكم فتكونوا فيم أذنابًا، ويستعينوا بكم على العرب وأنتم سادة هوزان ورؤساؤهم". ونصحهم أبو براء بالعودة إلى أوطانهم ومصالحة أقربائهم. فعادوا ونزلوا على حكم جوّاب، وفي هذه المرة كانت نفس لبيد قد هدأت نحو جوّاب، ولم يشأ وهو ابن القبيلة أن يخرج على روح الصلح والوئام. وأخذ يتحدّث إلى بني أبي بكر بأن المحافظة على علاقات الود والقربى أجدى على الفريقين من الخصام قال:
فأبلغ بني بكر إذا ما لقيتها ... على خير ما يلقى به من تَزَغَّما4
أبونا أبوكم والأواصر بيننا ... قريب، ولم نأمر منيعًا5 ليأثََمَا
فإن تقبلوا المعروف نصبر لحقِّكم. ... ولن يعدم المعروف خُفًّا ومَنْسِمًا6
وكلّ هذا يدل على أن لبيدًا كان قد أصبح لسان قومه، وأن نجمه في خدمة القبيلة كان في صعود مستمر حتى أصبح اسمه لامعًا في مجال الشعر.
كان لبيد من أجواد العرب، وكان قد آلى في الجاهلية أن لا تهب صبًا إلا أطعم، وكانت له جفنتان يغدو بهما ويروح في كل يوم على مسجد قومه فيطعمهم.
فهبت الصَّبا يومًا ووليد بن عقبة على الكوفة، فصعد الوليد المنبر فخطب الناس ثم قال: إنّ أخاكم لبيد بن ربيعة قد نذر في الجاهلية، أن لا تهب صبًا إلا أطعم، وهذا يوم من أيامه وقد هبت صبًا فأعينوه وأنا أول من يفعل، ثم نزل عن المنبر فأرسل إليه بمائة بَكْرَةٍ وكتب إليه بأبيات قالها:
أرى الجزَّارَ يشحذ شفرتيه ... إذا هبَّت رياح أبي عقيل
أشم الأنف أصيد عامري ... طويل الباع كالسيف الصقيل
وَفَى ابن الجعفري بحلفتيه ... على العلات والمال القليل
بنحر الكُوم1 إذ سحبت عليه ... ذيول صبًا تجاوب بالأصيل
فلما بلغت أبياته لبيدًا قال لابنته: أجيبيه فلعمري لقد عشت برهة وما أعيا بجواب شاعر: فقالت ابنته:
إذَا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبَّتِها الوليدا
أشم الأنف، أروع عبشميًّا ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركبا ... عليها من بني حام قُعُودا
أبا وهب جزاك الله خيرًا ... نحرناها فأطعمنا الثريدا
فعد إنَّ الكريم له معاد ... وظني لا أبا لك أن تعودا
فقال له لبيد: قد أحسنت لولا أنك استطعمته، فقالت: إن الملوك لا يُسْتَحْيَا من مسألتهم، فقال: وأنت يا بنية في هذه أشعر2.
قيل: وكان لبيد أحد المعمرين، وهو القائل لما بلغ تسعين حجة:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة ... خلعت بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يُرْمَى، وليس برامي
ولو أنني أرمي بسهم رأيتها ... ولكنَّني أُرمى بغير سهام
وقال حين بلغ عشرين ومائة:
وغنيت دهرًا قبل مجرى داحس، ... لو كان للنفس اللجوج خلود
وقال حين بلغ أربعين ومائة:
ولقد سئمت من الحياة وطولها، ... وسؤال هذا الناس كيف لبيدُ؟
غلب الزمان، وكان غير مغلَّب ... دهر طويل دائم ممدود
يوم إذا يأتي علي، وليلة ... وكلاهما بعد انقضاه1 يعود
ثم أسلم، وحسن إسلامه، وجمع القرآن وترك قول الشعر2 قال أبو عبيدة: لم يقل لبيد في الإسلام إلا بيتًا واحدًا وهو:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سِرْبَالا3.
كتب عمر بن الخطاب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة: أن استنشد من قبلك، من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام، فأرسل إلى الأغلب الراجز العِجْلِيِّ فقال له: أنشدني فقال:
أرجزًا تريد أم قصيدًا ... لقد طلبت هينًا موجودَا
ثم أرسل إلى لبيد فقال: أنشدني. فقال: إن شئت ما عُفِيَ عنه، يعني الجاهلية، فقال: لا أنشدني ما قلتَ في الإسلام، فانطلق فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها وقال: أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر فكتب بذلك المغيرة إلى عمر فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد، فكان عطاؤه ألفين فجعله ألفين وخمسائة، فكتب الأغلب إلى أمير المؤمنين: أتنقص عطائي أن أطعتك؟ فرد عليه خمسمائة وأقر عطاء لبيد على ألفين وخمسمائة. فلمّا كان في زمن معاوية، قال له معاوية: هذا الفودان1 يعني الألفين، فما بال العلاوة؟ يعني الخمسمائة فقال له لبيد: إنما أنا هامة اليوم أو غد، فأعرني اسمها فلعلي لا أقبضها أبدًا، فتبقى لك العلاوة والفودان. فرقّ له وترك عطاءه على حاله فمات لم يقبضه2.
وأربد بن قبس الذي أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- غادرًا هو أخو لبيد لأُمِّه، وكان قدم عليه مع عامر بن الطفيل، فدعا الله عليه، فأصابته بعد منصرفه صاعقة فأحرقته، قال لبيد:
أخشى على أربد الحتوف3 ولا ... أرهب نوء السّماك والأسد
فَجَّعني الرعد والصواعق بالـ ... ـفارس يوم الكريهة النَّجُد4










مصادر و المراجع :

١- شرح المعلقات السبع

المؤلف: حسين بن أحمد بن حسين الزَّوْزَني، أبو عبد الله (المتوفى: 486هـ)

الناشر: دار احياء التراث العربي

الطبعة: الأولى 1423هـ - 2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید