المنشورات

أقوال القدماء في فن لبيد بن ربيعة

ومما يستجاد له قوله5:
فاقطع لبانة من تعرَّض وصله ... ولخير واصل خُلَّة صَرَّامُهَا6
ويستجاد له قوله أيضًا7:
واكذب النفس إذا حدثتها ... إنَّ صدق النفس يُزري بالأمل
ومما يعاب له في هذه القصيدة:
ومقام ضيق فرَّجته ... بمقامي ولساني وجدلْ
لو يقوم الفيل أو فيّالُهُ ... زَلّ عن مثل مقامي وزَحَلْ
وقالوا: ليس للفيال من الخطابة والبيان، ولا من القوة ما يجعله مثلًا لنفسه! وإنما ذهب إلى أن الفيل أقوى البهائم، فظن أن فياله أقوى الناس1!.
رتب ابن سلام لبيدًا في الطبقة الثالثة من الشعر2.
وجاء في طبقات الشعراء: وكان لبيد بن ربيعة عذب المنطق، رقيق حواشي الكلام، وكان مسلمًا رجل صدق، وكان في الجاهلية خير شاعر لقومه يمدحهم ويرثيهم، ويعد أيامهم ووقائعهم وفرسانهم3.
وشعر لبيد من أجود أشعار البدو، واختار حماد قصيدة منه في المعلقات. ولبيد قدير على صياغة موضوعات البداوة صياغة ساحرة، ومما يزيد شعره نفاسة ما يتردد فيه من نغمات دينية. على أن الأدباء لم يتفقوا في تقويم شعر لبيد، فمنهم من رآه سهل المنطق، رقيق الحواشي، ومنهم من عده مثالًا لخشونة الكلام وصعوبته، وكلّ من هذين الفريقين ينظر إلى شعره من زاوية معينة، فأما الذين وصفوه بالرقة والسهولة فقد نظروا إلى أشعاره ذات السمات الدينية، وأما الذين وصفوه بالخشونة فنظروا إلى شعره الذي يصور فيه مناظر الصحراء، ويفتخر فيه بأمجاد وأيام قبيلته. ولم يكن الأصمعي معجبًا بشعره فوصفه بأنه: "طيلسان طبراني" أي أنه محكم الأصل ولا رونق له، ولم يعده في الفحول، ووصفه بالصلاح تهرُّبًا من أن يحكم على شعره الديني؛ لأن الأصمعي كان يرى أن الشعر إذا دخل في باب الخير لانَ، أي أصابه ضعف. وقال أبو عمرو بن العلاء: "ما أحد أحبّ إليّ شعرًا من لبيد بن ربيعة لذكره الله عز وجل، ولإسلامه، ولذكره الدين والخير، ولكن شعره رحى بَزر4".
ومما سبق إليه فأُخذ منه قوله1:
كعقر الهاجري إذا بناه ... بأشباه حُذِينَ على مثال
أخذه الطِّرِمَّاح فقال:
حرجًا كمِجدل هاجريّ لزَّه ... بذوات طبخ أطيمة لا تَخْمُدُ
قُدِرَتْ على مُثلٍ فهن توائم ... شَتَّى يلائم بينهن القرمد2
ومن ذلك قوله وذَكَرَ نُوقًا:
لها حَجَلٌ قد قرعت من رءوسه ... لها فوقه مما تحلبُ واشل
أخذ النابغة الجعدي فقال:
لها حجل قرع الرءوس تَحَلَّبَتْ ... على هامة بالصيف حتى تَمَوَّرَا
يعني بالحجل أولادها الصغار3:
ويستجاد له قوله في النعمان، يصف نظره وشرَّته:
فانتضلنا، وابن سلمى قاعد ... كعتيق الطير يغضي ويجل4
والهبانيق5 قيام، معهم ... كل محجوم6 إذا صُب همل
تخسر7 الديباج عن أذرعهم ... عند ذي تاج إذا قال فعل
فَتَوَلَّوا فاترًا مشيهم ... كَرَوَايَا8 الطِّبْعِ هَمَّتْ بالوَحَل9
ولبيد أول من شبه الأباريق بالبط، فأُخذ منه ذلك، قال يذكر الخمر:
تُضَمَّن بِيضًا كالإِوَزِّ ظُرُفهَا ... إذَا أَتْاقوا أعناقها والحواصلا
فأخذه بعض الضَّبِّيين فقال:
ويوم كظِلَّ الرمح قصر طوله ... دم الزّقّ عنا واصطفاف المزاهر
كأن أباريق الشَّمول عشية ... إوز بأعلى الطف عوج المناقر1
قال الذين قدّموا لبيد بن ربيعة: هو أفضلهم في الجاهلية والإسلام، وأقلهم لغوًا في شعره. وقد قيل عن عائشة، رضي الله عنها، إنها قالت، رحم الله لبيدًا ما أشعره في قوله:
ذَهَبَ الذينَ يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلق كجلد الأجرب
لا ينفعون، ولا يرجّى خيرهم، ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب2.
ثم قالت: كيف لو رأى لبيد خلفنا هذا! ويقول الشعبي: كيف لو رأت أم المؤمنين خلفنا هذا3!.
وكان لبيد إذا سئل عن أعظم الشعراء حسب تقديره بدأ بامرئ القيس ثم ثنى بطرفة ثم ذكر نفسه. قيل: مرّ لبيد بالكوفة على مجلس بني نهد وهو يتوكأ على محجن له، فبعثوا إليه رسولًا يسأله عن أشعر العرب فسأله فقال: الملك الضليل ذو القروح، فرجع فأخبرهم، فقالوا: هذا امرؤ القيس، ثم رجع إليه فسأله: ثم من؟ فقال له: الغلام المقتول من بني بكر، فرجع فأخبرهم، فقالوا: هذا طرفة، ارجع فاسأله ثم من؛ فسأله، فقال: ثم صاحب المحجن حيث يقول:
إنّ تَقْوَى ربنا خير نَفَل ... وبإذن الله ريثي وعجل
أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
يعني نفسه1.
قال عبد الله بن قتادة المحاربي: كنت مع النابغة بباب النعمان بن المنذر، فقال لي النابغة: هل رأيتَ لبيد بن ربيعة فيمن حضر؟ قلت: نعم، قال: أيهم هو؟ قلت: الفتى الذي رأيت من حاله كيت وكيت. فقال: اجلس بنا حتى يخرج إلينا. قال: فجلسنا، فلما خرج قال له النابغة: إلى يابن أخي، فأتاه، فقال: أنشدني، فأنشده قوله:
ألم تلمم على الدِّمَن الخوالي ... لسلمي بالمذانب فالقفال
فقال له: أنت أشعر بني عامر، زدني فأنشده قوله:
طلل لخولة بالرسيس قديم ... فبعاقل فالأنعمين رسوم
فقال له: أنت أشعر هوازن، زدني فأنشده قوله.
عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها
فقال له النابغة: اذهب فأنت أشعر العرب2.
قال ابن البوّاب: جلس المعتصم يومًا للشراب فغناه بعض المغنين قوله:
وبنو العباس لا يأتون لا ... وعلى ألسنهم خفت نعم
زينت أحلامهم أحسابهم ... وكذاك الحلم زين للكرم
فقال: ما أعرف هذا الشعر، فلمن هو؟ قيل: للبيد فقال: وما للبيد وبني العباس؟ فقال المغني: إنما قال:
وبنو الدّيان لا يأتون لا
فجعلته: وبنو العباس. فاستحسن فعله ووصله. وكان يُعْجَب بشعر لبيد، فقال: من منكم يروي قوله:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع قال بعض الجلساء: أنا، فقال: أنشدنيها فأنشد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وقد كنت في أكناف جار مضنة ... ففارقني جار بأربد نافع
فبكى المعتصم حتى جرت دموعه وترحم على المأمون وقال: هكذا كان رحمة الله عليه ينشدها لي، ثم اندفع ينشد هو باقيها ... وقال: فوالله لعجبنا من حسن ألفاظه، وصحة إنشاده، وفصاحته، وجودة اختياره1.
عندما سمع الفرزدق قول لبيد:
وخلا السيول عن الطلول كأنها ... زبر2 تجد متونها3 أقلامها
فسجد الفرزدق، فقيل له: ما هذا يا أبا فراس؟ فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن وأنا أعرف سجدة الشعر4.
ولقد أتيح للقسم الأكبر من شعره، لما فيه من ذخيرة كبيرة من اللغة النجدية، أن يكون صالِحًا للاستشهاد في كتب اللغة، وهذا الأمر قد ساعد كثيرًا على ترديد بعض شعره. وكان البدو الكلابيون، ممن كان العلماء يأخذون برأيهم في اللغة والغريب، ذوي أثر في تقريب شعره إلى الأفهام.










مصادر و المراجع :

١- شرح المعلقات السبع

المؤلف: حسين بن أحمد بن حسين الزَّوْزَني، أبو عبد الله (المتوفى: 486هـ)

الناشر: دار احياء التراث العربي

الطبعة: الأولى 1423هـ - 2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید