المنشورات
بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا
جرت العادة بأن يقولوا: بأبي فلان وهم يريدون أنه مفدي به, ورفع الشموس وما جرى مجراها يقع على وجهين: أحدهما أن تكون مبتدأ كأنه قال: الشموس بأبي مفديات, والآخر أن يكون الخبر قوله (16/ب) الشموس, ويكون المبتدأ محذوفًا كأنه قال: المفديات هي الشموس, ويجوز وجه ثالث, وهو أن تكون الشموس مرفوعةً؛ لأنها اسم ما لم يسم فاعله كأنه قال: تفدى بأبي الشموس, ويجوز أن ينصب على معنى قوله: أفدي بأبي الشموس, ومثل هذا قوله: بنفسي فلان, إذا أرادوا معنى الفداء. والجانحات المائلات, يقال: جنحت الشمس للغروب, وجنحت النجوم إذا مالت للمغيب. قال عبد الله بن عنمة الضبي: [الوافر]
نقسم نهبه فينا وندعو ... أبا الصهباء إن جنح الأصيل
أراد إذا مالت شمس الأصيل. والجلابب: أراد الجلابيب, فحذف الياء, والجلابيب القمص, وربما قيل: الأردية, وحذف هذه الياء مثل قول الراجز: [الرجز]
وغير سفعٍ مثلٍ يحامم أراد يحاميم, وأجازوا في الميم الأولى الإخفاء, وهو شيء يشبه الادغام, وليس به, لأن الادغام هاهنا يكسر, وليس الإخفاء بكسر؛ لأن الحرف المخفي باقي الحركة, وكذلك يجوز في الجلابب كما جاز في اليحامم
وقوله:
المنهبات عيوننا وقلوبنا ... وجناتهن الناهبات الناهبا
الوجنة: عظم الخد وما عليه من اللحم, وحكى يعقوب بن السكيت فتح الواو, وهو الوجه, وضمها وكسرها. فمن ضم الواو جاز أن يهمز فيقول: أجنة, كما تقول في وجوهٍ أجوه. ومن كسر الواو ومن رأيه أن الواو المكسورة إذا كانت في أول الاسم جاز همزه جوازًا مطردًا فإنه يقول: إجنة, وهذا رأي المازني, وكان الجرمي يذهب إلى أنه مسموع, وقد قالوا: وشاح وإشاح, ووعاء وإعاء, قال الهذلي: [الوافر]
هواء مثل بعلك مستميت ... على ما في إعائك كالخيال
وقوله:
حاولن تفديتي وخفن مراقبًا ... فوضعن أيديهن فوق ترائبا
الترائب: مجال القلادة, وهي عظام الصدر, واحدها تريبة.
وقوله:
ويسمن عن بردٍ خشيت أذيبه ... من حر أنفاسي فكنت الذائبا
شبهوا الثغر بالبرد, ثم حذفوا التشبيه, ومثل ذلك في الكلام كثير. قال النابغة: [الكامل]
تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ ... بردًا أسف لثاته بالإثمد
وقوله: خشيت أذيبه حذف أن, ومثله كثير, وحذفها إذا كانت وما بعدها في موضع المفعول أحسن من حذفها إذا كانت هي وما يليها في معنى الفاعل؛ فقولك: أريد أقوم أحسن من قولك: آن لزيدٍ يقوم؛ لأن المفعول فضلةٌ, والفاعل لا يجوز تركه كما يجوز ترك المفعول, ومما حذفت فيه أن وهو في موضع رفع قول ذي الرمة: [الوافر]
لحق لمن أبو موسى أبوه ... يوفقه الذي رفع الجبالا
أراد: أن يوفقه.
وقوله:
يا حبذا المتحملون وحبذا ... وادٍ لثمت به الغزالة كاعبًا
حب وذا عندهم كالشيء الواحد, وقال بعضهم: هي سادة مسد الابتداء, ولم يقولوا: حب ذه. وكان القياس أن يقولوه إذا جاؤوا بالمؤنث, فقالوا: حبذا هند, وذا هاهنا واقع على الشيء, وذا مرفوع بحب, والاسم الثاني بدل من ذا, فربما كان معرفةً وربما كان نكرةً؛ فقوله: المتحملون بدل معرفة من معرفة, وقوله حبذا وادٍ بدل نكرة من معرفة, وتأول حبذا على هذا الوجه أحسن من تأولها على أنها سادة مسد المبتدأ.
والغزالة: ارتفاع الضحى, ثم كثر حتى سموا الشمس غزالة, وهي في هذا البيت الشمس بعينها. قال ذو الرمة: [الوافر]
فأشرفت الغزالة رأس حوضى ... أراقبهم فما أغني قبالًا
والكاعب: التي قد كعب ثديها فصار مثل الكعب, يقال: كعبت تكعب وتكعب وكعبت تكعيبًا.
وقوله:
كيف الرجاء من الخطوب تخلصًا ... من بعد إذ أنشبن في مخالبا
يجوز أن تقع في هذا الموضع أن وما وإذ, والاستعمال في إذ أقل منه في الأخريين, وفي الكتاب العزيز: {بعد إذ نجانا الله منها}. واستعار المخالب للخطوب؛ لأنه جعلها كالأسود.
وقوله:
أظمتني الدنيا فلما جئتها ... مستسقيًا مطرت علي مصائبا
أراد أظمأتني فخفف الهمزة, وإنما يحمل ذلك على أن يقال: أظمأ في الوقف فتسكن الهمزة, فإذا سكنت وقبلها فتحة جاز أن تجعل ألفًا, كما فعلوا ذلك في رأسٍ وبأسٍ, فإذا صارت إلى ذلك حذفت مع تاء التأنيث, ومنهم من يرى ذلك مطردًا, ومنهم من يجعله مسموعًا, ومنه قول ابن أبي ربيعة: [الطويل]
فقالت وقد لانت وأفرخ روعها ... كلاك بحفظٍ ربك المتكبر
يريد: كلأك, وحكي مصايب ومصاوب, ولا يجوز همزه؛ لأن الياء فيه أصلية, وإن كانت منقلبة من الواو, وهو جارٍ مجرى معايش.
وقوله:
وحبيت من خوص الركاب بأسودٍ ... من دارشٍ فغدوت أمشي راكبا
الدارش: كلمة معربة وهو الأديم المحبب, وإنما يعني خفا أو شمشكًا, وخوص الركاب: التي قد غارت عيونها. والركاب: الإبل خاصةً. يقول: جعل حظي من خوص الركاب هذا الحذاء الذي أمشي به, وقد كرر أبو الطيب هذا (17/أ) المعنى في النعل كما قال: [المنسرح]
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
وقد سبق الناس إلى هذا المعنى ومنه قول القائل:
................... ... إليك امتطينا الأرحبي الملسنا
يعني نعلًا ملسنةً.
وقوله:
يستصغر الخطر الكبير لوفده ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا
إذا رويت الخطر, بكسر الطاء, فهو على حذف الياء من الخطير. يقال: شيء خطير؛ أي: له قيمة عظيمة, وقل ما يحذف منه الياء, وإذا رويت الخطر فهو يؤدي معنى الخطير إلا أنه في الكلام. وقوله ليس تكفي, الأحسن أن تكون ليس في معنى لا, فلا يكون فيها ضمير؛ لأنه إذا جعلها التي تحتاج إلى اسمٍ وخبرٍ لزمه أن يكون فيها ضمير يرجع إلى دجلة؛ فيكون قد ذكر المؤنث, فكأنه قال: الشمس ليس طالعةً. ولو كان الكلام منثورًا لوجب أن يقال: ليست تكفي شاربًا.
وقوله:
سل عن شجاعته وزره مسالمًا ... وحذار ثم حذار منه محاربا
حذار: كلمة مبنية على الكسر, وهي في معنى الأمر, وتكون متعدية وغير متعديةٍ؛ كما تقول: حذرت وأحذر, فلا تذكر مفعولًا, ويجوز أن تقول احذر من كذا, فتعدي الحذر بحرف الخفض, واحذر كذا, فتسقط الخافض, وكذلك تقول: حذار وحذار من فلان, وحذار فلانًا.
وقوله:
إن تلقه لا تلق إلا جحفلًا ... أو قسطلًا أو طاعنًا أو ضاربا
الجحفل: العسكر العظيم, وقال قوم: لا يقال له جحفل حتى يكون فيه دواب ذوات جحافل؛ لأن الجحفلة لذوات الحافر مثل الشفة للإنسان, وقد اتسعوا في هذه الكلمة, قالوا: رجحل جحفل إذا كان عظيم الشأن, ومنه قول أوس بن حجرٍ: [الطويل]
عبيد لذي المال الكثير يرونه ... وإن كان عبدًا سيد الأمر جحفلا
وربما استعملوا الجحفلة للإنسان إذا وصفوه بالغلظ كأنهم يشبهونه بالبهائم. قال الشاعر: [الوافر]
وقلصت الجحافل فاستقلت ... فويق لثاتها والقوم روق
وقال النابغة الذبياني: [الوافر]
ألا من مبلغ عني لبيدًا ... أبا الدرداء جحفلة الأتان
أي: أنه عظيم الشفة كأن شفته جحفلة أتانٍ. ونحو من هذا قول الفرزدق: [الطويل]
تركنا جريرًا وهو في السوق حابس ... عطية هل يلقى به من يبادله
فقالوا له رد الحمار فإنه ... أبوك لئيم رأسه وجحافله
والقسطل: الغبار.
وقوله:
وإذا نظرت إلى الجبال رأيتها ... فوق السهول عواسلًا وقواضبا
العواسل: جمع عاسل, والعسلان اضطراب في وسط الرمح وطرفيه, توصف به الرماح والذئاب, قال ساعدة بن جوية يصف الرمح: [الكامل]
لذ بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
وقال الهلالي في صفة الذئب: [الطويل]
ترى جانبيه يعسلان كلاهما ... كما اهتز عود الاسم المتتابع
وقوله:
وعجاجةً ترك الحديد سوادها ... زنجًا تبسم أو قذالًا شائبًا
شبه العجاجة بالزنج, وجعل الحديد فيها كالتبسم؛ لأن الأسنان بيض فهي تضاهي ما أبيض من الحديد في هذه الكتيبة. والقذال: مؤخر الرأس, وقيل: هو ما بين النقرة إلى الأذن, وقيل: هو حيث يحجم الحجام. وهذه أقوال متقاربة, يقال: قذلة الحاجم قذلًا إذا حجمه في ذلك الموضع, وقال ابن قيس الرقيات: [الخفيف]
إن تريني تغير اللون مني ... وعلا الشيب مفرقي وقذالي
ويقال في الجمع القليل: أقذلة, والكثير: قذل.
وقوله:
في رتبةٍ حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا
حذف التنوين في قوله: علي الحاجبا, وإثباته أحسن, وقد جاء مثله كثيرًا, وقرأ بعضهم: {قل هو الله أحد * الله الصمد} , بحذف التنوين من أحدٍ, وقال الراجز:
لقد أكون بالأمير برا ... وبالقناة مدعسًا مكرا
إذا غطيف السلمي فرا
وهذا البيت ينشد على حذف التنوين.
كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
أراد: عن خدامٍ العقيلة العذراء, ومنهم من ينشد:
وتبدي عن خدامٍ عقيلة عذراء
وحذف التنوين في قوله: «أحد الله» أحسن من حذفه في هذه المواضع؛ لأن التنوين إذا ثبت في أحد وجب أن يحرك الالتقاء الساكنين, وقبل أحد الهاء التي في اسم الله سبحانه, فلو جيء بالتنوين لاجتمعت خمس متحركات, وذلك ثقيل جدًا.
وقوله:
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبا
أي: مضيئًا. يقال: ثقبت النار ثقوبًا, والذي يطرح عليها لتقد يقال له: الثقوب. قال الشاعر, ويقال: إنه لأبي الأسود الدؤلي: (17/ب) [الطويل]
أشاد به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
وقيل: حسب ثاقب: استعاروه من النار والنجم, يريدون أن الآباء فيه مشهورون. قال قيس ابن الخطيم: [الطويل]
ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفنا ... إلى نسبٍ في جذم غسان ثاقب
والنجم الثاقب: قيل: المضيء, وقيل: المرتفع.
وقوله:
كالشمس في كبد السماء وضوؤها ... يغشى البلاد مشارقًا ومغاربا
كبد السماء: وسطها, وكذلك وسط كل شيء, وقالوا: رجل أكبد إذا كان عظيم الوسط. وإنما أصل ذلك أن تكون كبده عظيمة, وقالوا: صخرة كبداء؛ أي: عظيمة, وأصل ذلك فيما له كبد. وقالوا: بلغ كبيدات السماء. قال الشاعر: [الطويل]
وأي أناسٍ لا أبحت بغارةٍ ... يساوي كبيدات السماء عمودها
يعني بعمودها غبارها.
وقوله:
شادوا مناقبهم وشدت مناقبًا ... وجدت مناقبهم بهن مثالبا
يقال: شاد البناء وشيده, وقال بعض الناس: هما واحد, إلا أن شيد للتكثير. وقيل: شاده إذا طلاه بالشيد وهو الجص, وشيده إذا رفعه, والأشبه أن يكون الأصل واحدًا, وأن يكون المراد أنه عمل بالشيد وقد استعملته العرب قديمًا. قال الشماخ: [البسيط]
لا تسحبني وإن كنت امرأً غمرًا ... كحية الماء بين الطي والشيد
وقوله:
تدبير ذي حنكٍ يفكر في غدٍ ... وهجوم غر لا يخاف عواقبا
الحنك: جمع حنكة. يقال: رجل ذو حنكةٍ إذا كان قد أسن وجرب, ويقولون: قد حنكته التجارب؛ أي: قد ذاق شدائد الزمان, وبلغت حنكه فعرف حلوها ومرها. واحتنك الرجل إذا صار كذلك.
وقوله:
خذ بن ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمني في الثناء الواجبا
كان ابن سعدٍ راوية أبي الطيب يحكي عنه حكايةً, معناها أنه قال: ليس في شعري قصر ممدود إلا في هذا الموضع, يعني قوله: خذ من ثناي, وإنما كان يذكر ذلك؛ لأنه كان يحكي أنه رأى القصيدة «الكافية» التي في عضد الدولة, وبخط أبي الفتح بن جني, وقد ضبط قوله: وقد فارقت دارك واصطفاكا وقد كسر الطاء كأنه أراد: واصطفاءك. وليس هذا بحجةٍ على ابن جني؛ لأن أبا الطيب يجوز أن يكون قصر الممدود, بعد أنقال ذلك القول. والثناء أكثر ما يستعمل في الخير, وحكى ابن الأعرابي أنه يستعمل في الشر, وأنشد: [الكامل]
أثني علي بما علمت فإنني ... أثني عليك بمثل ريح الجورب
وقوله:
فلقد دهشت لما فعلت ودونه ... ما يدهش الملك الحفيظ الكاتبا
أصل الملك ملاك, ويدل على ذلك قولهم: الملائكة, ووزنه: مفعل, فإذا حذفت الهمزة فقد ذهبت العين فوزنه مفل, وعندهم أنه مأخوذ من الألوكة وهي الرسالة فكأنه مقلوب؛ لأنه كان ينبغي أن يقال مالك فأخرت الهمزة, وربما جاء في أشعار المحدثين: الأملاك يريدون به جمع ملكٍ؛ وذلك غلط, إنما جمع ملكٍ ملائك وملائكة.
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
19 أبريل 2024
تعليقات (0)