المنشورات
ضروب الناس عشاق ضروبًا ... فأعذرهم أشفهم حبيبا
الوزن من الوافر, والقافية من المتواتر.
ضروبًا منصوبة بوقوع الفعل عليها, وهو العشق؛ أي: فنون الناس يعشقون فنونًا, فهذا الوجه الذي لا ينبغي أن يعدل عنه, وقد يمكن أن يقال: هي منصوبة على الحال, كأنه قال: الناس عشاق مختلفين في عشقه.
وقوله: أعذرهم لا يجب أن يكون مأخوذًا من قولك عذرت الرجل, فهو معذور؛ لأنه إذا حمل على ذلك كان أفعل الذي للتفضيل قد بني من فعل ما لم يسم فاعله, وذلك ممتنع, ولكنه مأخوذ من قولهم: عذر الرجل وأعذر إذا أتى بعذر يقال عذر من نفسه, وأعذر إذا بين عذره أو فعل فعلًا يعذر به من أساء إليه. يقال: عذر من نفسه وأعذر إذا بين عذره.
وأشفهم: أي أفضلهم مأخوذ من الشف, وهو الفضل والربح. قال الشاعر: [الطويل]
فلا أعرفن ذا الشف يطلب شفه ... ليستاد منكم بالأديم المسلم
والشف عندهم من الأضداد, يكون في معنى الزيادة ومعنى النقص.
وقوله:
تظل الطير منها في حديثٍ ... ترد به الصراصر والنعيبا
الطير: جمع طائر, مثل: راكبٍ وركبٍ, وصاحبٍ وصحبٍ, وإنما استعمال الطير للواحد؛ وذلك قليل رديء, قال الشاعر: [الوافر]
فلا يحزنك من زمنٍ تولى ... تذكره ولا طير أرنا
ولما قالوا للواحد: طير, قالوا في الجمع: طيور, كما قالوا: شيخ وشيوخ, وعيب وعيوب. قال الشاعر: [الوافر]
بطيرٍ من طيور الغش يأوي ... صدورهم فعشش ثم باضا
والصراصر: جمع صرصرةٍ, قال: صرصر البازي والصقر إذا صاح, والنعيب مخصوص به الغربان, يريد أن الجوارح والغربان من الطير التي تقع على الجيف المقتولة يجري بينها حديث لما هي فيه من الخضب والرغد فتكثر الصراصر والنعيب كأنه جعل ذلك حديثًا.
وقوله:
وقد لبست دماؤهم عليهم ... حدادًا لم تشق لها جيوبا
الحداد: يراد به الثوب الذي يلبسه الحزين, وجعل الطير لوقوعها على هؤلاء القتلى وأكلها لحومهم قد اختضبت بدمائهم, فكأنها لابسة حدادًا لم تشق جيوبه؛ لأن الدم قد عم جميع شخوصها, فليس منها شيء بالظاهر, وذلك ضد ما يجب إذ كانت مسرورةً بقتلهم, والحداد إنما يلبسه الحزين. وادعى أن دماءهم سود, والدم قد يكون أحمر وأسود.
قال الشاعر: [الكامل]
فكسا منا سمها النجيع الأسود
ويجوز في تشق فتح القاف وضمها وكسرها, والفتح أجود الوجوه.
وقوله:
فمرت غير نافرةٍ عليهم ... تدوس بنا الجماجم والتريبا
التريب: جمع تريبةٍ, وهو جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء, كما قالواة: هامة وهام, وجمجمة وجمجم قال رؤبة: [الرجز]
وهو إذا النطح تفأى جمجمه جمع جمجمةً على جمجمٍ, وتريب في جمع تريبةٍ قليل في الاستعمال, ولعل أبا الطيب جمعه قياسًا أو سمعه في بعض الشواذ.
وقوله:
يقدمها وقد خضبت شواها ... فتى ترمي الحروب به الحروبا
الشوى: القوائم هاهنا؛ فلذلك أنثها, ولو أنه في غير الشعر لكان قوله: خضب شواها أحسن؛ لأن الجمع الذي بينه وبين واحده الهاء يجوز تذكيره وتأنيثه, إلا أن بعضه يؤلف فيه التذكير, ومنه ما تجري العادة فيه بالتأنيث, وواحد الشوى شواة, ويقال للجلد كله شوى وشواة, وبيت الأعشى ينشد على وجهين: [مجزوء الكامل]
قالت قتيلة ماله ... قد جللت شيبًا شواته؟
ويروى سراته. ومعنى سراته: أعلاه, ومعنى شواته: جلدة رأسه, فأما قول أبي ذؤيب: [الطويل]
إذا هي قامت تقشعر شواتها ... ويشرق بين الليت منها إلى الصقل
فيقال: إنه أراد بالشواة الجلد أجمع, وإنما قالوا للرامي: أشوى إذا أخطأ؛ لأنهم أرادوا أنه أصاب الشوى؛ أي: القوائم, وليست موضع مقتلٍ, ثم كثر ذلك حتى قالوا: أشوى الرامي, إذا لم يصب مقتلًا ولا غيره.
(20/ا) ويقول القائل للرزء إذا أصابه: هذا شوى؛ أي: يهون علي. قال الهذلي: [الطويل]
وكنت إذا ما الدهر أحدث نكبةً ... أقول شوى ما لم يصبن صميمي
وإن رويت خضبت شواها, بفتح الخاء, كان أحسن في حكم النظم, وسلم البيت من تأنيث الشوى, ويجعل الخضب للجياد, كما جعل الطعن لها في بعض المواضع:
وقوله:
........................ ... ترمي الحروب به الحروبا
أي: يخرج من حرب إلى حرب.
وقوله:
شديد الخنزوانة لا يبالي ... أصاب إذا تنمر أم أصيبا
الخنزوانة: الكبر. وقوله: تنمر؛ أي: تغير وجهه للغضب, وأصل ذلك أنه يصير مثل النمر ظاهر الشر, فإذا وصفوا القوم بالتغير عن المودة قالوا: لبسوا لنا جلود النمر. وفي كلام يروي عن عبد الملك بن مروان في وصيته لابنه الوليد: «زر واتزر والبس جلد نمر» , زر من الزئير؛ أي: تنكر لأعدائك, قال قيس بن الخطيم: [الوافر]
متى تلقوا رجال الأوس تلقوا ... نيوب أساودٍ وجلود نمر
ومن روى: أم أصيبا, فلابد له أن يعتقد حذف ألف الاستفهام, كما قال الشاعر: [الطويل]
فوالله ما أدري وإن كنت داريًا ... بسبعٍ رميت القوم أم بثمان
أراد: أبسبعٍ. ومن روى: أو أصيبا فيجوز أن لا يذهب إلى الاستفهام, ويجعل الماضي واقعًا موقع الحال, كأنه يقول: لا أبالي في حال إصابته عدوه, ولا في حال إصابة عدوه إياه.
وقوله:
كأن الفجر حب مستزار ... يراعي من دجنته رقيبا
الفجر: أول الصبح, وهما فجران: الفجر المستدق, وهو المستطيل الذي يقال له: ذنب السرحان, والفجر المستطير, وهو المعترض الذي يجب معه إمساك الصائم عن الأكل والشرب والجماع, وروي عن ابن عباسٍ في قوله: {والفجر * وليالٍ عشر} , أنه يريد بالفجر المحرم؛ لأنه أول السنة, وإنما حسن ذلك؛ لأنه جاء مع عشر ذي الحجة. ودجنة الليل: ظلمته, وربما قالوا: الدجنة: ظلمة مع غيمٍ, كأنه مشتق من الدجن, ولم يقولوا: دجن الليل, وقالوا: دجنت السماء وأدجنت؛ إذا لبسها الغيم
وقوله:
كأن نجومه حلي عليه ... وقد حذيت قوائمه الجبوبا
الجبوب: الأرض. وربما قالوا: الأرض الصلبة. وقال قوم: الجبوب الطين اليابس.
والذي يوجبه الاشتقاق أن يكون الجبوب الأرض كلها, لا يخص صلبها بذلك دون سهلها.
وأصل الجب القطع, فيجوز أن تكون الأرض سميت جبوبًا؛ لأنها مجبوبة في معنى مفعولةٍ, كما قالوا لما يركب: ركوب, ولما يحلب: حلوب, ويكون المراد أنها تقطع بالسير أو تحفر فيها الآبار, وتقطع صخورها للبناء, ويحتمل أن تكون سميت جبوبًا؛ لأنها تجب الناس بدفنهم فيها؛ أي: تقطعهم من الأحياء, وقد زعموا أنه يقال: جبهم إذا سبقهم, فيجوز أن يراد أنه سبقت الناس الذين هم فيها؛ لأنها خلقت قبلهم.
وحذيت: من الحذاء, والمعنى أن الليل قد عم الأرض, فكأنها حذاء لقوائمه.
وقوله:
كأن الجو قاسى ما أقاسي ... فصار سواده فيه شحوبا
الجو: ما بين السماء والأرض. قال ذو الرمة: [البسيط]
وظل للأعيس المزجي نواهضه ... في نفنف الجو تصويب وتصعيد
ويقال للوادي: جو. والشحوب: تغير اللون من سفرٍ أو تعبٍ, وربما سمي الهزال شحوبًا, قال الشاعر: [الطويل]
فقلت لها ليس الشحوب على الفتى ... بعارٍ ولا خير الرجال سمينها
وقوله:
عرفت نوائب الحدثان حتى ... لو انتسبت لكنت لها نقيبا
الحدثان: ما يحدث من خطوب الدهر, فيقال للحرب: حدثان, وكذلك للموت, قال صخر بن عمرو بن الشريد: [الطويل]
وما كنت أخشى أن أكون جنازةً ... عليك ومن يغتر بالحدثان
فهذا اسم جامع لما يحدث من الأمور, وقال عمرو بن معد يكرب فخص الحرب: [مجزوء الكامل]
أعددت للحدثان سا ... بغةً وعداء علندى
فهذا يريد الحرب, وأنشد أبو عمرو الشيباني بيتًا فيه ذكر الحدثان, وقيل: إن المراد به الفأس, والبيت: [الوافر]
وجونًا يزلق الحدثان عنه ... إذا أجراؤه نحطوا أجابا
جعل الفأس حدثانًا؛ لأنها تحدث كسرًا فيما يضرب بها.
ونقيب القوم: الذي يعرف أسماءهم.
وقوله:
وترتع دون نبت الأرض فينا ... فما فارقتها إلا جديبا
(20/ب) لما جعل الخطوب مطايا زعم أنها لا تذل لمن ركبها, وفي هذا مدح لنفسه؛ لأنه ادعى ركوبها, وأن ذلك لا يبغيه أحد, وجعلها ترتع في ركبانها دون النبت, والرتوع: هو تردد الراعية في المرعى, فجعلها تفنيهم وتؤثر فيهما كما تؤثر الماشية في النبات, فقد تركته جديبًا مثل المكان المرعي.
وقوله:
إذا نكبت كنائنه استبنا ... بأنصلها لأنصلها ندوبا
الكنائن: جمع كنانة, وهي التي تكن بها السهام؛ أي: تستر. ومن أمثالهم: «قيل الرماء تملأ الكنائن»؛ أي: قبل كون الأمر يستعد له. ويقال: نكبت الكنانة إذا فرغت ما فيها من السهام, وكذلك نكبت ما في الوعاء من زاد ونحوه.
والندوب: جمع ندبٍ, وهو الأثر.
وفي هذا البيت إفراط وادعاء لما لا يجوز أن يكون, كأنه يرمي السهم ثم يتبعه بالآخر فيصيب فوق السهم الذي قبله, وينحدر السهم الثاني حتى يبلغ إلى نصل السهم الأول فيؤثر فيه, والشعراء تستحسن هذه المبالغة, وهي مستحيلة.
وقوله:
يريك النزع بين القوس منه ... وبين رمية الهدف اللهيبا
الهدف: ما ينصبه الرماة ليتعمدوه إذا كانوا متعلمين للرمي أو متناضلين, لينظروا أيهم أكثر إصابةً, وإنما يجعلون في الهدف شيئًا يقصدونه بالرمي؛ لأن الهدف يكون مشرفًا مرتفعًا.
ويقال لما أشرف من الرمل: هدف. ومن ذلك: أخذ هدف الرمي, وقالوا للرجل العظيم الشخص مع فخامةٍ وقلة مضاءٍ: هدف؛ كأنهم شبهوه بهدف الرمل. قال أبو ذؤيب:
إذا الهدف المعزاب صوب رأسه ... وأعجبه ضفو من الثلة الخطل
وقوله:
فآجر الإله على عليلٍ ... بعثت إلى المسيح به طبيبا
يقال: أجره الله وآجره؛ أي: أثابه. والمسيح يقال: إنه سمي بذلك؛ لأنه ولد ممسوحًا بالدهن, وقيل: لأنه كان إذا مسح عليلًا برأ, فهو على هذا فعيل في معنى فاعلٍ, وقيل سمي مسيحًا؛ لأنه كان يمسح الأرض؛ أي: يسيح فيها, وقيل: سمي بذلك؛ لأن الناس كانوا يتمسحون به يريدون البركة. وقيل: كان ممسوح القدم لا أخمص لرجله, وقيل: هو بالعبرانية مشيحاء, فلما عرب قيل: مسيح.
وقوله:
تيممني وكيلك مادحًا لي ... وأنشدني من الشعر الغريبا
يقال: تيممه وتأممه؛ إذا قصده, والياء في تيمم أكثر. فإذا قالوا: أممته, فالهمزة أكثر من الياء؛ لأنهم قل ما يقولون يممته. وقد أنشدوا هذا البيت: [الوافر]
فلم أجبن ولم أنكل ولكن ... يممت بها أبا عمرو بن عمرو
وقولهم: أنشدت الشعر: مأخوذ من قولهم: أنشدت الضالة إذا عرفتها؛ لأن الرجل ينشد الشعر والسامع لا يعلم من قائله, فإذا قيل له: لمن هذا الشعر نسبه إلى قائله, فشبه بالضالة المعرفة, ثم كثر الكلام بهذه اللفظة حتى سمى رفع الصوت بالشعر إنشادًا, وإن لم يسأل المنشد عن القائل. قال القطامي: [البسيط]
ما لي أرى الناس مزورا فحولهم ... عني إذا سمعوا صوتي وإنشادي
وقالوا: نشيد الشعر, كما قالوا: نشيد الضالة. قال الشاعر: [الوافر]
وأنا نعم أحلاس القوافي ... إذا استعر التنافر والنشيد
وقال عبد يغوت الحارثي: [الطويل]
أحقًا عباد الله أن لست سامعًا ... نشيد الرعاء المعزبين المتاليا
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
19 أبريل 2024
تعليقات (0)