المنشورات
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
وهي من الطويل الثني عند الخليل, ومن السحل الأول عند غيره, وقافيتها من المتدارك. يريد والشوق أغلب مني؛ أي: أني لا أطيقه.
وذهب أبو الفتح بن جني - رحمه الله - إلى أن أغلب هاهنا من قولهم: أسد أغلب؛ أي: غليظ العنق, يصف الشوق بالشدة, ويزعم أنه يغالبه, وهو كالليث الأغلب, وهذا المعنى قريب من الأول, إلا أن الذي ذهب إليه أبو الفتح لا يكون فيه إقرار من أبي الطيب أنه مغلوب, وهذا أشبه بمذهبه.
والوجه الثاني فيه إقرار للشوق بالغلبة. وقد أنكر بعض الناس قول أبي الفتح, وليس بمنكرٍ.
وقوله:
ولله سيري ما أقل تئيةً ... عشية شرقي الحدالي وغرب
الحدالي: في موضع رفع بالابتداء, وموضع شرقي نصب على الظرف, وحذف ياء الإضافة من شرقي لالتقاء الساكنين, ويحوز أن يكون الحدالي خبرًا وشرقيّ مبتدأً؛ لأن شرقيّ يجوز أن يكون ظرفًا وغير ظرف. قال جرير:
هبت جنوبًا فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التي شرقي حورانا
فالوجه النصب في (شرقي) حوران, والرفع جائز على أن يكون التقدير: عند الصفاة التي هي شرقي حوران, والحدالي وغرب جبلان, وغرب مذكور في الشعر القديم. قال الشاعر:
ازجر حمارك إنه مستنفر ... في إثر أحمرةٍ عمدان لغرب
فأما الحدالي فليس بمتردد الذكر, والحدالي: جمع حدلاء, والحدلاء أنثى الأحدل, وهو الذي في عنقه تطامن على صدره, وقيل: الأحدل الذي أحد جانبيه أعظم من الآخر. وقيل للقوس: محدلة للانحناء الذي فيها. قال ساعدة بن جوية:
دلى يديه له قصرًا بمحدلةٍ ... جشءٍ وزرقٍ نواحيهن كالسحم
الجشء: القوس الغليظة الخفيفة المحمل, وقيل: هي التي لها صوت عن الرمي, كأنه مأخوذ من قولهم: تجشأ الرجل. وإذا جمعوا مثل حدلاء جاز أن يقولوا: حدالٍ مثل صحارٍ, وحدالى مثل صحارى, وذلك كله مردود إلى السماع. وقوله:
وكم لظلام الليل عندك من يدٍ ... تخبر أن المانوية تكذب
المانوية: منسوبة إلى ماني, وهو رجل يعظمه أهل مذهبه, ويقال: إن طائفةٍ من الترك عظيمةً يرون رأيه, وأن أهل الصين على مذهبه, وأن لأصحابه كتبًا ومناظراتٍ, ويزعمون أنهم يقولون باثنين: رب يفعل الخير لا غير, وهو في بعض الألسنة الذي يسمى يزدان, وضده يفعل الشر, ويسمونه أهرمز, ويذكر عنهم أنهم يقولون: إن الخير من النهار, والشر من الليل.
وقوله:
له فضلة في جسمه عن إهابه ... تجيء على صدرٍ رحيبٍ وتذهب
يحمد من الفرس أن يكون جلد صدره واسعًا. والإهاب: الجلد, يقال في جمعه: أهب وأهب وأهب على غير قياس, وقالوا في الجمع القليل: آهبة.
فأما قولهم في الرجل: أهبان, فيجوز أن يكون جمع إهابٍ؛ لأن فعالًا يشارك فعيلًا وفعالًا في أنه يجمع على فعلانٍ, ولم يصرفوا الفعل من الإهاب, لم يقولوا: أهب يأهب.
وقوله:
ألا ليت شعرى هل أقول قصيدةً ... فلا اشتكي فيها ولا أتعتب
(26/أ) القصيدة يحتمل أن تكون من قولهم: قصد الشيء يقصده؛ إذا اعتمده, كأن الشاعر يقصدها بالإنشاء, ويجوز أن تكون فعيلةً في معنى فاعلةٍ, كما يقال: عليمة في معنى عالمةٍ كأنها تقصد الممدوح أو المهجو أو من قيلت فيه على سبيل الغزل أو سواه, ويحتمل أن تكون القصيدة من قولهم: قصدت العود من الشجرة؛ إذا قطعته منها, كأن الشاعر يقطعها من كلامه أو من خاطره, ويجوز أن تكون مأخوذةً من القصيد, وهو مخ السمين؛ أي: كأنها سمينة, والسمن محمود. وأجاز بعض العلماء المتقدمين أن تسمى الأبيات الثلاثة قصيدة, والغالب على كلامهم أن تكون القصيدة أبياتًا كثيرةً, قال المسيب ابن علس: [الكامل]
فلأرسلن مع الرياح قصيدةً ... مني مغلغلةً إلى القعقاع
وقصيدته هذه تقارب الثلاثين بيتًا, وقال عدي بن الرقاع: [الكامل]
وقصيدةٍ قد بت أجمع شملها ... حتى أقوم ميلها وسنادها
فهذا يدل على أنهم لا يسمون قصيدةً إلا ما كان كثيرًا من الأبيات. وحكي سعيد بن مسعدة أنه سمع بعض العرب يقول: الشعر ثلاثة: القصيد والرجز والرمل, فالقصيد ما كان طويل الوزن, والرجز هو الذي يجيء كأنصاف الأبيات, والرمل زعم سعيد بن مسعدة في حكايته أنه كل شعرٍ مهزولٍ غير مؤلف الأجزاء ومثله بقول عبيدٍ: [مخلع البسيط]
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب
وبقول الآخر: [مجزوء الوافر]
ألا لله قوم و ... لدت أخته بني سهم
هشام وأبو عبد ... منافٍ مدره الخصم
فأما قصيدة عبيد فتبنو عنها الغرائز, وأما الأبيات الميمية, وتنسب إلى ابن الزبعرى, فمستقيمة في الحس إلا أن وزنها أقصر.
وقوله:
وبي ما يذود الشعر عني أقله ... ولكن قلبي يابنة القوم قلب
يقال: رجل قلب؛ إذا كان جيد الحيلة, متصرفًا في الأمور, ويقال: إن معاوية قال لابنتيه وهما تقلبانه في المرض الذي مات فيه: إنكما لتقلبان قلبًا حولًا إن سلم من هول المطلع.
ويذوذ الشعر؛ أي: يصرفه. وفي كندة رجل يقال له: امرؤ القيس الذائد, وهو غير ابن حجرٍ. وهذا الشعر يروى له, ولابن حجرٍ: [المتقارب]
أذود القوافي عني ذيادا ... ذياد غلامٍ غوي جرادا
فأعزل مرجانها جانبًا ... وآخذ من درها المستجادا
وقوله:
إذا لم تنط بي ضيغةً أو ولايةً ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
قوله: تنط: من النوط, وهو التعليق ووصل الشيء بالشيء. يقول: إّا لم تصل بي ضيعةً تقطعني إياها فجودك يكسوني, وشغلك عني يسلبني تلك الكسوة.
واصطلح الناء على أن يسموا القرية ضيعةً. والكلام القديم يدل على أن الضيعة هي كثرة الخير, واتساع الرجل فيما يملك, وهو اسم مستطرف الوضع, لأن الضياع هلاك الشيء؛ فيجوز أن يكونوا أرادوا أن المال إذا كثر أتعب صاحبه وأهمه, فكأنه يضيعه؛ لأن كثيرًا من العرب يصفون أنفسهم بالقيام على المال, والتطرح في طلبه.
ويحتمل أن يكون قولهم: ضيعةً على معنى العكس؛ أي: أنها غير ضيعةٍ, ويكون ذلك من جنس قولهم للديغ: سليم, إلا أن ذلك فأل, وهذا فيه تهزؤ. ومثاله أن يقال للرجل إذا كان غنيًا: أنت فقير لا شيء لك, أي: لست كذلك, ومثل هذا يجري في الكلام كثيرًا, فإذا قال أحد المتخاصمين للآخر: يا حر, ويا كريم, فإنما يريد ضد ما قال.
ويجوز أن تكون الضيعة من قولهم: ضاع الطيب؛ إذا انتشرت رائحته, وانضاع الفرخ إذا تحرك واضطرب, فيراد أن أمرها ينتشر, ويحوج إلى الاضطراب, ويكون أصلها ضيعةً فخففت كما قالوا: ميت, وهو من يموت, وتكون الضيعة من ذوات الواو؛ لأنها من ضاع يضوع.
والولاية إذا كانت في القرابة من قولهم: فلان ولي فلانٍ بفتح الواو وكسرها, فإذا أريد بها ولاية الشيء فأصلها كأصل الأولى, إلا أنهم يؤثرون فيها الكسر.
وقوله:
أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب
عنقاء مغرب تستعمل في المثل, ويقال: إنها كانت طائرًا عظيمًا, اختطفت صبيًا أو جارية فدعا عليها نبي أهل الرس, وهو حنظلة بن صفوان, فيما يزعمون, فغابت إلى اليوم, فقيل للشيء الذي يبعد: طارت به عنقاء مغرب. والعنقاء: الطويلة العنق, وأكثر ما يقولون: عتقاء مغرب, فينعتونها بمغرب. قال الشاعر: [الطويل] (26/ب)
فلولا سليمان الخليفة حلقت ... به من يد الحجاج عنقاء مغرب
وربما أضافوا عنقاء إلى مغربٍ, والأول أجود.
وقوله:
فإن لم يكن إلا أبو المسك أوهم ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذب
قال: أبو المسك, وهو يعني كافورًا, ويخاطبه, وقد يمكن, لو لم يبن المعنى والغرض, أن يعني بأبي المسك رجلًا آخر, كما تقول لرجل اسمه خالد: إذا كان خصمي خالدًا فأنت ممن لا أخالفه؛ أي: أنك يا خالد أنت خصمي. وبعض أهل العلم المتأخرين كان يسمي هذا الفن التجريد, ويجعل من ذلك قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} , وهو يعني نفسه, فهذا كما يقول في المثل الحجاج بن يوسف: إن الحجاج لا يترك أهل العراق وما يريدون, وهو يريد أني أنا الذي أمنعهم.
وقوله:
يريد بك الحساد ما الله دافع ... وسمر العوالي والحديد المذرب
ذربت الحديد فهو مذروب, وذربته فهو مذرب؛ إذا حددته وأرهفته, ويقال: لإلان ذرب اللسان؛ أي: حاده, ومنه قيل للداهية: ذربيًا؛ لحدتها. قال الشاعر: [الطويل]
رمتني بالآفات من كل جانبٍ ... وبالذربيا مرد فهرٍ وشيبها
وقوله:
ودون الذي يبغون ما لو تخلصوا ... إلى الشيب منه عشت والطفل أشيب
كأنه يومئ إلى أن الأعداء يريدون قتله, ودون الذي يبغون أهوال عظيمة, لا يتخلصون إلى الشيب منها؛ لأنك يا كافور تقتلهم قتلًا وحيا, ولا تمهلهم إلى أن يشيبوا, ولو تخلصوا إلى زمان الشيب لعشت أيها الممدوح والطفل أشيب؛ أي: أنهم لا يصلون لك إلى كيد, ويجوز أن يعني بشيب الطفل أنه يشيب من الخوف, ويحتمل أن يعني طول عمر كافور, وأنهم لو سلموا حتى يشيبوا لعاش الممدوح إلى أن يشيب الطفل بعلو السن.
وقوله:
وأنت الذي ربيت ذا الملك مرضعًا ... وليس له أم سواك ولا أب
في هذا البيت حمل على المعنى, ولو أنه في كلام منثورٍ لوجب أن يقال: وأنت الذي ربى ذا الملك. والذي في البيت لا عائد عليه إلا في المعنى, ومثل ذلك قوله في موضع آخر:
[البسيط]
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
إنما الواجب أن يقال إلى أدبه, وأسمعت كلماته. وقد استعملت العرب مثل هذا كثيرًا, قال مهلهل: [الكامل]
وأنا الذي قتلت بكرًا بالقنا ... وتركت تغلب غير ذات سنام
كان ينبغي: وأنا الذي قتل بكرًا. وقال الراجز: [الرجز]
يا مرة بن واقعٍ يا أنتا ... أنت الذي طلقت عام جعتا
أراد: أنت الذي طلق عام جاع, فحمل الكلام على معناه.
وقوله:
وما عدم اللاقوك بأسًا وشدةً ... ولكن من لاقوا أشد وأنجب
الكاف في اللاقوك يختلف في موضعها النحويون, وكذلك في كل ما كان في التثنية أو في الجمع السالم, مثل قولك: الضارباك, والضاربوك, وكذلك الهاء في قولك: الضارباه والضاربوه, فقال قوم: هي في موضع خفضٍ, وقال آخرون: بل هي في موضع نصبٍ, وأجاز المازني والجرمي الوجهين, وكذلك يجب أن يكون اختلافهم في الياء إذا قلت: الضارباي والضاربي.
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
19 أبريل 2024
تعليقات (0)