المنشورات

آخر ما الملك معزى به ... هذا الذي أثر في قلبه

وهي من السريع الثاني في رأي الخليل, ومن أول الطلق السابع في قول غيره, وقافيتها من المتواتر جعل التنوين في قوله معزى به بمنزلة الحروف الصحاح؛ لأنه موازٍ للام في قلبه, ولو وقع في موضعها اسم مؤنث لا ينصرف مثل حبلى وسكرى لجاز صرفه على الضرورة؛ وذلك لا يوجد في الشعر القديم إلا أنه جائز على القياس, ولا يعرف شعر جاءت فيه سلمى ونحوها مصروفةً, لأن ألف التأنيث في زنة التنوين فلا يحتاج إلى الصرف, ألا ترى أنه لا ضرورة تدعو إلى تنوين سلمى في قول الشاعر: [الوافر]
وكم من مهمهٍ من دون سلمى ... قليل الأهل ليس به كتيع
أي: أحد, فإن اتفق أن يجيء في الشعر سلمى ابنة فلان مثل عامرٍ أو مالك فقول النحويين أن صرف ما لا ينصرف جائز في الشعر يوجب أن يجيزوا تنوين سلمى, ثم يحركوا التنوين لالتقاء الساكنين, وإذا وقعت في مثل هذه القافية التي لأبي الطيب جاز تنوينها لتخرج من حال اللين إلى حال التنوين, وهو يقوم في هذا الموضع مقام ما صح من الحروف ولم يكن فيه لين.
وقوله: لو درت الدنيا بما عنده ... لاستحيت الأيام من عتبه
يقال: استحيا الرجل, وهي اللغة العالية, ويجوز: استحى, وقد روي عن ابن كثيرٍ أنه قرأ: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلًا ما} , وقال التغلبي: [الطويل]
ألا تستحي منا ملوك وتتقي ... مظالمنا لا يبؤ الدم بالدم
وقوله:
يموت راعي الظأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه
(30/أ) الظأن: مهموزة, يقال: ضأن وضأن, بالتحريك, وضئين على مثال فعيلٍ, وضئين بكسر الضاد؛ لأن ما كان على فعيل وفعل إذا كان ثانيه حرفًا من حروف الحلق كسر بعض العرب أوله فإذا وقع الضأن في قوافٍ مثل الزبن والخزن همز لا غير, كقول الراجز:
تعلمن يا زيد يا بن زبن ... لشربتان من عكي الضأن
ألين مسا في حوايا البطن ... من يثربياتٍ خفافٍ خشن
يرمي بها أرمى من ابن تقين
وإذا وقع الضأن مع قواف ملينةٍ مثل دانٍ وجانٍ لم يكن بد من تليين الهمز, كقول أبي خراش:
إليك أم ذبان ... قد صرحت بجلدان
طعنًا كإيزاغ الضان فإذا كان الضأن في غير القافية جاز الوجهان.
وأصل الطب العلم بالشيء, يقال: هو طب وطبيب, وكثر ذلك حتى سمي الداء طبا؛ لأنه يحتاج إلى طبيب, كأنهم يريدون الشيء الذي يفتقر إلى الطب. وحكي: إن كنت ذا طب وطب وطب فطب لنفسك وطب لنفسك. وسموا السحر طبا. وفي الحديث: «طب النبي صلى الله عليه وسلم». ويجوز أن يكون قولهم للرقعة التي في أسفل المزادة: طبابة وطباب مأخوذًا من الطب؛ أي: إنها تطبيب لدائها, قال جرير: [الوافر]
بلى فارفض دمعك غير نزرٍ ... كما عينت بالسرب الطبابا
وقوله:
وربما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه
يقال: هو آمن في سربه؛ أي: في نفسه, هكذا عبارة المتقدمين, وينبغي أن يكون أصله من السرب الذي هو جماعة النساء؛ أي: هو آمن على نفسه وحلائله وقرائبه, ثم اتسعوا في ذلك لما كان أمن هؤلاء مؤديًا أمنه, فجعلوا سربه كنايةً عن نفسه, والقياس يوجب أن يقال: هو آمن في سربه؛ لأن السرب المال الراعي. وقد زعم بعضهم أنه يقال له سرب في معنى سربٍ, إلا أن أكثر الاستعمال في المال فتح السين. قال الراجز:
ياثكلها قد فقدته أروعا ... أبلج يحمي السرب أن يفزعا
وقالوا: خل سربه؛ أي: طريقه, والمعنى: خل الطريق الذي يسرب فيه؛ لأنه يقال: سرب في النهار إذا سار, وفي الكتاب العزيز: {وسارب بالنهار} , وقال قيس بن الخطيم: [الكامل]
أني سريت وكنت غير سروب ... وتقرب الأحلام غير قريب
يقول: كيف سريت إلينا ليلًا وأنت لا تسربين بالنهار, وسرى الليل أشق وأصعب؟
وقوله: وكان من حدد إحسانه ... كأنه أسرف في سبه
من روى حدد فهو من: حددت الشيء؛ إذا فصلته من غيره, ومن روى عدد فهو من العدد. يقول: كان هذا الشخص من حدد إحسانه أو عدده, فكأنه ساب له؛ لأن فعله الأجمل كثير لا يدخل تحت العدد ولا الحدود. ويجوز أن يكون المعنى أن المذكور كان يكره أن يحمد لاحتقاره ما يسدي من الأيادي.
وأصل السب القطع, وإنما يقال: سببت الرجل؛ إذا شتمته؛ لأن الشتم يقطع ما بينكما من المودة. وقيل للشقة: سبيبة, لأنها تقطع عن النول, ومن ذلك قول الشاعر:
[المتقارب]
فما كان ذنب بني دارمٍ ... بأن سب منهم غلام فسب
بأبيض ذي شطبٍ باترٍ ... يقد العظم ويبري العصب
قوله: بأن سب منهم غلام؛ أي: شتم. وسب في القافية في معنى قطع, كذلك ذكر ابن دريد, وقد يجوز أن يكون سب في القافية في معنى الشتم, كأنه لما سب جعل جزاء سبه أن عقر إبله وأعلمهم أنهم لا يقدرون على مثل ما فعل؛ فكأنه شتمهم.
وقوله:
ويظهر التذكير في ذكره ... ويستر التأنيث في حجبه
بعض الملوك إذا ذكرت من أهله امرأة أخبر عنها كما يخبر عن الرجال؛ فإذا كانت له أخت قيل: أخو الملك أو الأمير يريد كذا, أو يسأل كذا, وربما فعلت العامة ذلك, فإذا سألوا الصديق عن أخته قالوا: ما فعل أخوك الذي في البيت؟ وهذا من جنس قول أبي الطيب:
يا أخت خير أخٍ يا بنت خير أبٍ
ولم يسمها. ونحو قوله:
كأن فعلة يريد خولة
ولعل عضد الدولة لما عزي بهذه المرأة جعلت (30/ب) عما, وأخبر عنها كما يخبر عن الملك أو الأمير.
وقوله:
فخرًا لدهرٍ بت من أهله ... ومنجبٍ أصبحت من عقبه
يكنى عن الولد بالعقب والعقب, وفي الكتاب العزيز: {وجعلها كلمةً باقيةٍ في عقبة}. وقد قرئت بسكون القاف. وكذلك يقولون: رجع على عقبه وعقبه, واستعملوا عقب الإنسان على الوجهين, والعقب من القدم هو الأصل؛ لأنه المؤخر عنها فشبه به ما يجيء بعد.
وقوله:
أيما لإبقاءٍ على فضله ... أيما لتسليمٍ إلى ربه
جاء إبدال الميم الأولى في إما وأما. قال ابن أبي ربيعة في إبدالها من المفتوحة:
رأت رجلًا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأيما بالعشي فيخصر
وإذا فعلوا ذلك بالمكسورة فتحوا أولها, قال الشاعر: [البسيط]
ياليت ما أمنا شالت نعامتها ... أيما إلى جنةٍ أيما إلى نار









مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید