المنشورات

سرب محاسنه حرمت ذواتها ... داني الصفات بعيد موصوفاتها

وهي من الضرب الأول من الكامل عند الخليل, ومن أول السحل الثالث عند غيره.
المحاسن: جمع لم يستعملوا واحده, ولو استعملوه لوجب أن يكون على محسنةٍ, مثل مطعمةٍ. ويمكن أن يستعمل على محسنة؛ لأن الفعل حسن يحسن, مثل: مكرمةٍ من كرم يكرم, وقد جاءت أشياء من هذا الباب تشترك فيها مفعلة ومفعلة, مثل: مزرعة ومزرعةٍ ومثلبةٍ ومثلبةٍ, وحكوا في واحد المآرب مأربة ومأربة ومأربة.
وقوله: ذواتها: في معنى صواحبها؛ لأن ذات أنثى قولهم: ذو مال, إلا أن ذو يكون في الرفع بواوٍ, وفي النصب بألفٍ, وفي الخفض بياءٍ, وذات لزمها الألف في كل حالٍ؛ وذلك لأن ما قبل هاء التأنيث لا يكون إلا مفتوحًا في أكثر الكلام إلا في مواضع شاذة كقولهم هذه وهذه وأختٍ وبنتٍ في أحد القولين, ولم يجئ عن العرب ذو في حال التوحيد مضافًا إلى ضمير. وإذا قووه بالجمع فقالوا: ذوو في الرفع وذوي في النصب والخفض, فربما أضافوه إلى المضمر. وذوات في الإضافة أقوى من (ذوو)؛ لأن حروفها أكثر من حروفه.
وقوله: داني الصفات بعيد موصوفاتها؛ أي: إنا نصفه بيننا فنقول: سرب حسن, وسرب جميل, فالصفات قريبة منا, والموصوفات بالحسن والجمال بعيدات منا لا يقدر عليهن.
وقوله:
أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي ... بشرًا رأيت أرق من عبراتها
أوفى: يستعمل في معنى أطل وأشرف, ولا يكون ذلك إلا من مكان عالٍ, يقال: أوفى الجبل إذا علاه, ولا يستعملون وفى في هذا الموضع. وقالوا: أوفى بالعهد ووفى. قال الصمة الأكبر: [الوافر]
وفاء ما معية من أبيه ... لمن أوفى بجارٍ أو بعقد
وقال السموأل: [الوافر]
وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوام وفيت
وقوله: رميت بمقلتي؛ أي: رميت بلحظها, فحذف المضاف, كما قال النابغة: [الطويل]
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعلٍ في ذي المطارة عاقل
أي: على مخافة وعلٍ. والعبرات: جمع عبرةٍ, ويقال: إن أصل العبرة تردد البكاء في العين. فأما هذا الشاعر فلم يرد إلا الدمع بعينه.
وقد يجوز أن يحمل على أنه أراد من ماء عبراتها فحذف, ووصف البشر بالرقة, وجعله أرق من عبرات عينه؛ لأن الدمع يوصف بالصفاء, فيقال في الماء: كأنه الدموع, يريدون صفاءه.
وقوله: يستاق عيسهم أنيني خلفها ... تتوهم الزفرات زجر حداتها
(32/ب) قد مضى ذكر العيس ويقال: تعيس البعير إذا كان يشبه ذلك الصنف من الإبل, ولم يكن بالخالص منه. قال المرار الفقعسي: [الكامل]
داو الهموم بكل معطي رأسه ... جونٍ مخالط صهبةٍ متعيس
وهذا كما يقال للرجل: تقيس؛ إذا أضاف نفسه إلى قيسٍ بانتسابٍ أو مجاورةٍ أو عصبيةٍ, وليس هو من الصميم.
يستاق: يفتعل من السوق, يريد أن الإبل تسير وهو يئن خلفها ويزفر؛ أي: يتنفس تنفسًا عاليًا, فتحسب العيس ذلك زجر حداةٍ يحدونها ويحثونها على السير.
وقوله:
وكأنها شجر لكنها ... شجر جنيت الموت من ثمراتها
الشعراء تشبه حمولة القوم بالشجر وبالسفين, وأكثر ما يشبهونها بالنخيل, وقد شبهها امرؤ القيس بالدوم, وإنما يجعلونها كالسفين والنخيل إذا رفعها الآل. قال: [الطويل]
فشبهتهم بالآل لما زهاهم ... عصائب دومٍ أو سفينًا مقيرا
أو المكرعات من نخيل ابن يامنٍ ... دوين الصفا اللائي يلين المشقرا
وقال النابغة: [الطويل]
فشبهتها في الصبح نخل ابن يامنٍ ... فلما طغت في الآل قلت سفائن
وقوله:
لا سرت من إبلٍ لو اني فوقها ... لمحت حرارة مدمعي سماتها
دعا بأن لا تسير الإبل خشيةً من أن يبعد من عليها. والسمات: جمع سمةٍ, وادعى أنه لو ركبها لمحت حرارة الماء الذي يسيل من مدمعيه وسومها الثابتة على ممر الأيام, وهذه نهاية في المبالغة؛ لأن الوسم لا يزول من البعير حتى يموت.
وقوله:
وحملت ما حملت من هذي المها ... وحملت ما حملت من حسراتها
يقول: لو أني فوقك يا إبل راكبًا لحملت اللواتي عليك من النساء المشبهات بالمها, وكان ذلك هينًا علي, وحملت ما حملت من حسراتها؛ أي: كنت أتولى حملها دونك فتلحقك لذلك حسرات فتحملين ما أنا حامل من الحسرات الموجبتها هذه المتحملات, وأضاف الحسرات إلى النساء؛ لأنها تكون من أجلهن.
والعرب تتسع في الإضافة فتضيف الشيء إلى ما بعد منه, مثل أن ترى رجلًا قد قتل آخر بنجدٍ وهو بالغور فتقول: هذا قاتل نجدٍ؛ أي: الذي قتل رجلًا في ذلك المكان.
وقوله:
إني على شعفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها
الشعف في الحب مثل اللهج به, وقيل: أصل الشعف الإحراق, كأنهم يريدون أنه قد احترق باللوعة. وقيل: شعفه الحب؛ إذا أخذ شعفة قلبه؛ أي: أعلاه.
والخمر: جمع خمارٍ. وكل كلمة فيها خاء وميم وراء على هذا الترتيب فهي مأخوذة من خمرت الشيء إذا سترته.
وسراويلات: جمع سراويل, وهو اسم أعجمي في الأصل معرب, وكلام سيبويه يدل على أنه مصروفٌ, وسعيد بن مسعدة يمتنع من صرفه, ويقول: هو جمع سروالةٍ, وينشد: [المتقارب]
عليه من اللؤم سروالة وأصحاب سيبويه يطعنون في قول ابن مقبلٍ: [الطويل]
يمشي بها ذب الرياد كأنه ... فتى فارسي سراويل رامح
وينشدونه بالخفض على إضافة سراويل إليه ينصرون بذلك قول سيبويه, ولا ريب أن قول ابن مسعدة في هذا أقوى.
وقوله:
وترى المروة والفتوة والأبو ... ة في كل مليحةٍ ضراتها
أصل المروة الهمز, ويجب أن يكون أبو الطيب خفف الهمزة ليضاهي بها الأبوة والفتوة. والمروة في الاشتقاق من قولهم: هذا امرؤ صالح, كأنهم يقولون: في فلان مروءة؛ أي: هو امرؤ محمود, كما يقولون: فيه إنسانية. وقد علم أن كل من ولده آدم لا يخلو من شبه بالإنس يحكم له بالإنسانية, ولكن هذا اللفظ حمل على الحذف, كما أنهم يقولون: فلان من أهل بيتٍ, يريدون بيتًا له شرف وكرم. وكل أحدٍ لا بد أن يأوي إلى بيتٍ أو إلى ما يقوم مقامه من الكن.
والضرة: التي يتزوجها الرجل بعد المرأة الأولى, ثم يقال لكل واحدةٍ منهما: ضروة, ويقال: تزوجت المرأة على ضر وضر, وامرأة مضر؛ أي لها ضرات. قال ابن أحمر:
كمرآة المضر غدت عليها ... إذا رامقعت فيها الطرف جالا
وقالوا في الجمع: ضرائر, وكأنه جمع ضريرةٍ؛ لأن الضرة والضريرة أخذتا من الضر, قال كثير: [الطويل]
وإني لأستأني ولولا طماعتي ... بعزة قد جمعت بين الضرائر
والمعنى أن المروءة والأبوة والفتوة تمنعني من وصال الملاح؛ فكل مليحة تعد هذه الخلال التي في ضراتٍ لها تمنعني من وصالها.
وقوله: (33/أ)
ومطالبٍ فيها الهلاك أتيتها ... ثبت الجنان كأنني لم آتها
يقال: رجل ثبت الجنان وثابت الجنان وثبيت الجنان, وقولهم: ثبت كأنه مصدر وصف به, قال طرفة: [المديد]
الهبيت لا فؤاد له ... والثبيت ثبته فهمه
كل من نقصت رتبته قيل له: هبيت, وهو وصف مذموم. هذا يدل على أن الثبت في هذا البيت مصدر. والجنان: القلب.
وقوله:
ومقانبٍ بمقانبٍ غادرتها ... أقوات وحشٍ كن من أقواتها
المقانب: جمع مقنبٍ, وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين, أكثر ما يستعمل ذلك في الخيل, وقيل: إنه يستعمل في الرجالة. وفي الحديث: «يكون في مقنبٍ من مقانبكم». وسليك المقانب هو: سليك بن السلكة, أضيف إلى المقانب لأنه كان كثير الغارات, وإنما لزمه هذا الاسم لقول القائل: [الطويل]
لزوار ليلى منكم آل برثنٍ ... على الهول أمضى من سليك المقانب
ويقال لكساء يجمع فيه الجراد: مقنب. قال الراجز:
أقسمت لا أجعل فيها عنظبا ... إلا دباساء توفي المقنبا
العنظب: ذكر الجراد, والدباساء: الأنثى.
يعني أنه قتلهم فأكلتهم الوحوش كالأسد والنمور والذئاب والضباع, وكأن هؤلاء القوم يصيدون هذه الوحوش فيأكلونها, كأنه يصفهم بالنجدة والشدة وأنهم كانوا يأكلون هذه الأجناس التي لم تجر العادة بأكلها.
وقوله:
الثابتين فروسةً كجلودها ... في ظهرها والطعن في لباتها
قوله: في ظهرها: وضع الواحد في موضع الجمع, وهو كقول الآخر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإن زمانكم زمن خميص
وقال علقمة: [الطويل]
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب
أي: جلودها, والمعنى أنه وصفهم بالثبات على ظهور الخيل وهي تطعن في لباتها.
واللبة: باطن العنق, وهو ما حول النحر, والذي يكون عليه الحلي من المرأة. قال امرؤ القيس:
كأن على لباتها جمر مصطلٍ ... أصاب غضًاغ جزلًا وكف بأجذال
وقوله:
العارفين بها كما عرفتهم ... والراكبين جدودهم أماتها
لو أن هذا الكلام منثور لكان الواجب أن يقال والراكب جدودهم على التوحيد؛ لأن اسم الفاعل إذا تقدم جرى مجرى الفعل, فيقال: مررت بالراكب الخيل جدوده, وجدودهم؛ لأن الألف واللام تنوب عن الذي واللذين والذين, وكذلك عن التي وتثنيتها وجمعها, فإذا جمعت أو ثنيت فهو على قول من قال: قمن النساء, وأكلوني البراغيث, وقامتا أختاك, ومنه قول الفرزدق:
ولكن ديافي أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط قاربه
ولو أنه في غير الشعر لكان الوجه تعصر السليط, وقال آخر, ويروى لأحيحة بن الجلاح:
يلومونني في اشتراء النخيـ ... ــل قومي وكلهم ألوم
ويروى: يعذل, وإنما الكلام يلومني قومي, وقال الآخر: [السريع]
ألفيتا عيناك عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقية
أكثر الاستعمال يجيء على أن يقال: أمات لغير الإنس, وأمهات لما يعقل. وربما استعمل كل واحدٍ من اللفظين في موضع الآخر.
وإنما قيل للأم أم لأنها تضم الولد وتشتمل عليه, وكل ما اشتمل على شيء فهو أم له؛ كأنهم يريدون أنها تؤم الولد؛ أي: تكون قدامه, أو تؤمه بالمنفعة؛ أي: تقصده, أو يؤمها لطلب الرضاع؛ أي: يقصدها.
وقولهم في اسم المرأة: أميمة, إنما هي تصغير أم, ويقولون في الواحد: أمهة, يظهرون الهاء التي كانت في أمهات, ومجيئها في الواحد قليل جدًا, وإنما أنشدوا رجزًا ينسبونه إلي قصي ابن كلابٍ جد هاشم بن عبد منافٍ, وهو: [الرمل]
إني لدى الحرب رخي لببي ... عند تداعيهم بهالٍ وهب
معتزم الصولة عالي النسب ... أمهتي خندف والياس أبي
وقال الهذلي في قولهم: أمهات لغير الإنس: [الطويل]
ألا هل أتى الأقوام أن خويلدًا ... يعطف أبكارًا على أمهاتها
(33/ب) وإذا وقع قبل أم وجمعها حرف مكسور أو ياء فبعض العرب يكسر الهمزة فيقول: مررت بإمه, وفلان حسن الرأي في إمك. وقد قرأ الكوفي بذلك: {في بطون إمهاتكم} بكسر الهمزة.
وقوله:
فكأنها نتجت قيامًا تحتهم ... وكأنهم ولدوا على صهواتها
صهوات: جمع صهوةٍ, وهي مقعد الفارس من الفرس, وصهوة معرفة اسم جبلٍ, قال المخبل السعدي: [الطويل]
ولما تزل عن رأس صهوة عصمها ... ولما يصر أعلى العضاه أسافله
وقوله:
عجبًا له حفظ العنان بأنملٍ ... ما حفظها الأشياء من عادتها
الأنمل: أطراف الأصابع, يستعمل في اليدين والرجلين. قال زهير: [الطويل]
وملجمنا ما إن ينال قذاله ... ولا قدماه الأرض إلا أنامله
وفي الأنملة لغات أعرفها: الأنملة والأنملة, وقد حكي أنملة وأنملة وإنملة وإنملة, حكى ذلك اللحياني.
وحكى بعضهم: رجل مؤنمل؛ إذا كان عظيم الأنامل, ويضعف هذا القول من قبل أن همزة أنملٍ زائدة, فلو قيل: مؤنمل لدل ذلك على أنها أصلية, إلا أن يجعل مثل قولهم: كساء مؤرنب. قالت الأخيلية: [الطويل]
تدلت على حص الرؤوس كأنها ... كراة غلامٍ في كساءٍ مؤرنب
وقد أثبتوا الزوائد في مواضع يجب أن تسقط فيهن كقولهم: تمدرع؛ إذا لبس المدرعة, وإنما القياس تدرع. وتمهجر؛ إذا تشبه بالمهاجرين, وإنما القياس تهجر.
وقوله:
لو مر يركض في سطور كتابه ... أحصى بحافر مهره ميماتها
يقال لولد الفرس حين ينتج: مهر, ثم يقال له ذلك إلى أن يركب. ويقال في المثل: «لا يعدم شقي مهرًا» , وبعضهم يقول: مهيرًا.
وهذا الكلام يحتمل وجهين:
أحدهما أن يكون المعنى أن الشقي لا يعدم أن يكون له مهر يقوم به فيزيد ذلك في شقائه, ويشبه هذا قولهم: [البسيط]
إن الشقاء على الأشقين مصبوب
والآخر أن يكون الغرض أن الإنسان وإن كان شقيًا لا يعدم أن يرزق مهرًا كما يقال: لا يعدم فقير زادًا؛ أي: أن الله يرزقه كما يرزق غيره.
وقال عمرو بن معد يكرب: [الوافر]
فإما كنت سائلتي بمهرٍ ... فمهري إن سألت به الرفيع
فهذا يدل على أن المهر هاهنا مركوب, والمهرة جارية مجرى المهر. يقال لها مهرة عند النتاج, ثم تبقى عليها السمة إلى أن تركب, قال حاتم الطائي: [الطويل]
شهدت ودعوانا أميمة أننا ... بنو الحرب نصلاها إذا شب نورها
على مهرةٍ جرداء كبداء ضامرٍ ... أمينٍ شظاها مطمئن نسورها
جمع نارٍ, وربما استعملوا المهر في ولد حمار الوحش, قال عدي بن زيدٍ, وذكر الحمار:
في مصاب الغاديات له ... لقح لم تفل أمهارا
وقال الأخطل وذكر الحمار والأتن:
موكل بتواليهن لا ضرع ... مهر ولا ثلب أفناه تعويد
وجعل الممدوح لو ركض في سطور كتابةٍ أحصى بحافر مهر الميمات, وهذا من مبالغة الشعراء التي تستحسن, وهي مستحيلة لا يمكن أن تكون. ويقال: إنه خص الميمات لأن الحافر يشبه بالميم, ولأن حافر المهر لم يعظم فيشبهه بغيرها من الحروف.
وقوله:
يضع السنان بحيث شاء مجاولًا ... حتى من الآذان في أخراتها
الأخرات: جمع خرتٍ, وهو ثقب الأذن, ويقال: خرت بالفتح. والآذان: جمع لم ينطق بغيره للأذن, فهو جارٍ مجرى عنق وأعناق, ولم يجمعوه على غير هذا المثال.
والمجاول: الذي يجول مع عدوه, يقال: جاوله مجاولةً, وإنما أخذ هذا الفعل من الجال والجول, وهو جانب البئر والقبر ونحوهما, فيقال: جال الفرس؛ إذا أخذ ف يجانبٍ, وجاول الفارس الآخر؛ إذا أخذ كل واحدٍ منهما في جانب صاحبه, وقيل لثوب يخاط أحد جانبيه: مجول, وهو من لباس الفتيات والشواب؛ كأنه يخاط أحد جانبيه, وهو جاله. وقيل: إنما سمي بذلك لأن اللابسة له تجول فيه, قال الشاعر: [الكامل]
وعلي سابغة كأن قتيرها ... حدق الجنادب لونها كالمجول
وقيل: إن المجول هاهنا الغدير؛ لأنه يجول في الريح. وقيل: المجول في البيت الفضة, فإن صح ذلك (34/أ) فإنما يراد أنها تجول في البلاد؛ أي: تسير, كما قالوا في صفة الدرهم: أبيض قرقوف في كل أرضٍ يطوف:
وقوله:
تكبو وارءك يابن أحمد قرح ... ليست قوائمهن من آلاتها
تكبو: تعثر, والقرح: جمع قارحٍ, وهو من ذوات الحافر الذي قد نبت قارحه. والهاء في آلاتها راجعة على وراء؛ لأنها مؤنثةً, وكذلك قدام وأمام.
وقوله:
رعد الفوارس منك في أبدانها ... أجرى من العسلان في قنواتها
الرعد: جمع رعدة, وهو اضطراب الجسد من الفرق والبرد, يقال: أرعد فهو مرعد, فهذه اللغة الفصيحة. وقد قالوا: رعد فهو مرعود. وقد مر ذكر العسلان. ومن الرعدة قيل للجبان: رعديد.
وإذا قيل للنساء رعاديد فإنما يراد أنهن كاللواتي يرعدن من نعمتهن؛ أي: تضطرب أجسامهن. ورعد السحاب من هذا مأخوذ؛ لأنه اضطراب في السحاب وحركة, وقد وصفوا الفالوذ بالرعديد, وإنما ذلك للينه ونعمته وأنه يضطرب في اليد.
وقوله:
لا خلق أسمح منك إلا عارف ... بك رآء نفسك لم يقل لك هاتها
يقال: رآء, وهو مقلوب عن رأى, قال الشاعر: [الوافر]
عليل رآء رؤيا فهو يهذي ... بما قد رأء منها في المنام
وهات: كلمة تستعمل في الأمر, وهي على فاعل في الماضي, يقال: هاتى يهاتي فهو مهات, والمصدر المهاتاة مثل مواتاةٍ, فيقال للرجل: هات, كما يقال له: غاد؛ إذا أمر من غاديت, ولاثنين: هاتيا, مثل غاديا, وللجميع: هاتوا, وللمرأة: هاتي بإثبات الياء, قال طرفة: [الطويل]
إذا قيل هاتي أسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطروقةً لم تشدد
وللمرأتين: هاتيا, وللنساء: هاتين مثل غادين, وليست الياء في (هاتي) بالياء التي كانت في هاتيت, ولكنها ياء التأنيث التي تلحق في مثل قولك: اضربي, وكأن أصلها هاتيي, فاستثقلت الكسرة على الياء الأولى, فلما سكنت وبعدها ياء ساكنة حذفت لالتقاء الساكنين وبقيت العلامة, فأما الياء في هاتين فمن نفس الكلمة, وليست للتأنيث, وإنما هي كباء ضاربن ولام قاتلن.
وقوله:
غلت الذي حسب العشور بآيةٍ ... ترتيلك السورات من آياتها
ذهب قوم إلى أن الغلت والغلط واحد, وإن كان أحد الحرفين مبدلًا من الآخر.
وذهب أبو عبيدة إلى أن الغلت في الحساب خاصةً, والغلط في غير ذلك.
والعشور: جمع عشر. والسورة: يقال: إن معناها المنزلة؛ أي: أن هذه المنزلة رتبة في الدين. وقيل: إنها مأخوذة من الارتفاع وهو راجع إلى المعنى الأول, وقيل: سورة؛ أي: خيار من قولهم للناقة الكريمة: سورة, وجمعها سور, وقد فسروا على ذلك قول العجاج: [الرجز]
ورب ذي سرادقٍ محضور ... سرت إليه في أعالي السور
أراد بأعالي السور ظهور إبلٍ كرائم, والأشبه أن يكون الغرض في أعالي المراتب.
وسورة: من قال في عورةٍ عورات بالسكون, وهو مذهب أكثر العرب, قال سورات بسكون الواو. ومن قال: عورات فحرك الواو, وهي لغة هذيل, قال: سورات؛ لأنهم يقولون في الصحيح: حجرة وحجرات وحجرات وحجرات بالسكون, وكأن الفتح في هذا الموضع أحسن؛ لأن الغريزة تجذب إليه, وهو أقوى في الوزن. ويجوز أن يكون سورات بتحريك الواو وجمع سورٍ, وكذلك قالوا في قول الشاعر: [الطويل]
ولما رأونا باديًا ركباتنا ... لدى موطنٍ لا نخلط الجد بالهزل
يحتمل أن يكون جمع ركبةٍ إذا فتحت الكاف على مذهب من يقول حجراتٍ, ويحتمل أن يكون جمع ربٍ. وإذا أخذ بهذا القول لم يجز ضم الكاف في ركباتٍ, ولا تسكين الواو في السورات, والمعنى أن الذي حسب العشور غلط في العدد؛ لأن ترتيل هذا الممدوح إذا قرأ السور يجب أن يحسب آيةً, فتكون الآيات العشر بترتيله إحدى عشرة آيةً, وهذا من الغلو الذي يقصده الشعراء, وهو كذب صريح.
وقوله:
كرم تبين في كلامك ماثلًا ... ويبين عتق الخيل في أصواتها
العتق هاهنا: الكرم, وإذا وصفت الخيل بالعتق فإنما يراد كرمها في الجري, وإذا قيل للرجل: عتيق, ذهبوا به إلى حسن الوجه مرةً, وإلى جميع ما يحمد من الخلائق أخرى, قال جميل: [الطويل]
فلو كنت خوارًا لقد باخ ميسمي ... ولكنني صلب القناة عتيق
وإذا قيل للشراب: عنيق, فإنما يراد به القدم (34/ب) , والذين يعرفون أمر الخيل بحمدون الحبشة في أصواتها, قال لبيد: [الرمل]
بأجش الصوت يعبوبٍ إذا ... طرق الحي من الغزو صهل
وقوله: ويبين عتق الخيل في أصواتها, محمول على قول الجعدي: [المتقارب]
ويصهل في مثل جوف الطوي ... صهيلًا يبين للمعرب
أي: أن الرجل الذي يملك خيلًا عرابًا إذا سمع صوت هذا الفرس بان له عتقه؛ لأنه قد جرب أصوات الخيل وملكها.
وقوله:
أعيا زوالك عن محل نلته ... لا تخرج الأقمار عن هلاتها
يقال: هالة الشمس, وهالة القمرة, وهي الدارة التي تكون حولهما, ويجوز أن يكون اشتقاقها من أنها تهول من رآها بحسنها وضيائها, فلو صغرت على هذا لوجب أن يقال: هويلة. وزعم ابن الأعرابي أن هالة القمر يقفال لها طفاوة, وأنشد: [المنسرح]
كأنها البدر في طفاوته ... أو هالة الشمس عند تشريق
يقول: فكما أن القمر لا يخرج من هالته فهذا من الممدوح لا يخرج من محله الذي خصه الله به.
وقوله:
فإذا نوت سفرًا إليك سبقتها ... فأضفت قبل مضافها حالاتها
ادعى أن الرجال إذا أرادوا السفر إليه سبقتهم حالاتهم إلى الممدوح, فأضافها قبل إضافة الرجال التي هي حال لهم, وهذه دعوى باطلة, ولكنه تدقيق في المراد.
وقوله:
حق الكواكب أن تعودك من علو ... وتعودك الآساد من غاباتها
قال: من علو بإثبات الواو على ما حكاه ابن السكيت, ويجوز أن يكون أصحاب النقل رأوا قول الشعراء في القوافي المرفوعة من علو فحملوا ذلك على أن الواو هي الأصلية, وقوى هذا المذهب عندهم أنها مأخوذة من العلو, وأنهم قالوا: جاء الراكب من علو قال الشاعر:
شهدت فلم أكذب بأن محمدًا ... رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كليهما ... له عمل في دينه متقبل
والنحويون يرون أن هذه الواو جاءت للترنم. وقد يمكن أن يكون هذا الحرف جاء شاذًا فوقعت الواو في آخره, وقبلها ضمة. فأما مجيء من علو في نصف البيت الأول فإن كان الحرف شاذًا قد تكلمت به العرب كذلك فلا كلام فيه, وإن كان القول كما ذهب إليه أصحاب القياس فثبات الواو يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه جعل آخر النصف الأول بمنزلة آخر النصف الثاني؛ لأنه في موضع وقف.
والآخر أن يكون أشبع الضمة فصارت واوًا, كما ذهب إليه أبو علي الفارسي في قراءة ابن كثير: {إنه من يتقي ويصبر} , بالياء؛ لأنه يذهب إلي أن هذه الياء ليست الأصلية, وأنها مجتلبة بالكسرة المشبعة.
وكذلك يرى في قول قيس بن زهير: [الوافر]
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
يرى أن الياء في يأتيك ليست التي في قولك هو يأتيك. ويقوى مجيء الواو في قوله من علو في نصف البيت الأول قول بعض العرب في الرفع: قام زيدو, ومررت بزيدي في الخفض.
وقوله:
والجن من ستراتها والوحش من ... فلواتها والطير من وكناتها
يجوز في السترات ما جاز في جيم الحجرات, والضم أجود الوجوه, وكذلك في كاف الوكنات. والوكنة: موقع الطائر, وهو مأخوذ من قولهم: وكن بالموضع إذا أقام به, وفي الحديث: «أقروا الطير على وكناتها» , فسروه على وجهين: أحدهما أنه نهي عن التصيد بالليل, والآخر أنه نهي عن التطير, وهذا كما يقال إذا ذكر بعض الناس في أمرٍ لا يجب أن يذكر فيه دع فلانًا في شغله أو في داره؛ أي: لا تذكره.









مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید