المنشورات

ما سدكت علة بمورود ... أكرم من تغلب بن داوود

سدك بالشيء إذا لزمه, والمورود الذي به ورد الحمى. وداوود اسم أعجمي وهو يوافق فاعولًا من داد الطعام يدود. ومن هذا اللفظ اشتقاق دؤادٍ, وهو عربي صحيح. ومن أقدم الأسماء قولهم دؤاد لابن أبي دؤاد الشاعر, وله يقول أبوه: [الكامل]
ولقد تركت بها دؤادًا نائمًا ... فالقلب مما قد عناه مريض
ويقال: إن الدؤاد داء يصيب الجسد (39/ب) وقد كان في العرب المتقدمين ملك يقال له داوود, وكان نصرانيًا, وكأنه سمي بهذا الاسم لما قرأ أهله الزبور, وهو داوود بن مندله, ويجوز أن يكون الذي عناه عامر بن جوينٍ في قوله: [الطويل]
فآليت لا أعطي مليكًا مقادةً ... ولا سوقةً حتى يعيش ابن مندله
وقوله:
بعد عثار القنا بلبته ... وضربه أرؤس الصناديد
واحد الصناديد صنديد, وإذا حمل على الاشتقاق وجب أن يكون من صد يصد, كأنهم يريدون أنه يصد الأعداء, ونوائب الدهر, فالنون على هذا زائدة, وهو على فنعيلٍ, ولم يستعملوا الصند فيحمل على أنه فعليل من ذلك؛ لأنهم لم يقولوا صند, ولا استعملوا ذلك في فعلٍ ولا اسمٍ, وقالوا في اسم جبلٍ صندد, وقيل صندد فيجب أن يكون من الصد أيضًا؛ لأنهم لو بنواة اسمًا على فنعلٍ أو فنعلٍ من عد يعد لقالوا: عندد وعندد, وقالوا لشدائد الدهر: صناديد؛ لأنها تصد الإنسان عن الغرض.
وقوله:
وخوضه غمر كل مهلكةٍ ... للذمر فيها فؤاد رعديد
الذمر: الشجاع. يقال: ذمرته على كذا إذا احثثته عليه, فكأن الذمر يحث نفسه على الشجاعة أو يحثه غيره فينتهي إلى أمره, ويقال ذمر في معنى ذمرٍ, وقالوا: عنق ذمر؛ أي: شديد, قال الراجز: [الرجز]
فيهن حمراء إذا أصرا ... أجشمهن عنقًا ذمرا
والرعديد: الجبان, وإنما أخذ من الرعدة؛ لأنه يرعد من الفرق. والأكثر في كلامهم: أرعد الرجل, وقد قالوا: مرعود, فدل ذلك على رعد, وزعموا أن الفالوذ يسمى الرعديد, وإنما قيل له ذلك للينه وتثنيه في يد الآكل.
وقوله:
وإن جزعنا له فلا عجب ... ذا الجزر في البحر غير معهود
يريد أن هذا المرثي كان مثل البحر في الجود, فلما هلك ألفي كأنه البحر جزر؛ أي: غاض ماؤه, وذلك لا يعرف في البحار.
وقوله:
أين الهبات التي يفرقها ... على الزرافات والمواحيد
الزرافات: جمع زرافةٍ, وهي الجماعة من الناس. وحكى أبو عبيد عن القناني أنهم يقولون: جاء القوم برزافتهم, فيشددون الفاء. والمواحيد: جمع ميحادٍ, يقال: رجل ميحاد؛ أي: وحده, وجاؤوا مواحيد؛ أي: أفرادًا.
وقوله:
إن نيوب الزمان تعرفني ... أنا الذي طال عجمها عودي
أصل العجم عض الشيء لينظر أصلب هو أم لين؟ ! وكثر ذلك حتى قالوا: أعجمت الرجل إذا فعلت به فعلًا لتختبر ما عنده, وهل هو وثيق العقدة أم غير حصيفٍ؟ وقالوا: ناقة ذات معجمةٍ إذا كانت لها بقية على السفر, وقد استعمل أبو الطيب حمل صلة الذي على المعنى في غير موضع من ديوانه, ومنها هذا البيت, وإنما جيد الكلام أن يقول: أنا الذي طال عجمها عوده. وقد جاء مثل هذا كثيرًا قال الراجز: [الراجز]
يا مر يا بن واقعٍ يا أنتا
أنت الذي طلقت عام جعتا وإنما القياس أنت الذي طلق عام جاعا. وقد يمكن أن يقول طلق في هذا البيت, ولكن القافية منعته من ذلك؛ لأنه لو قال: طلق, ثم جاء يجعت لكان أقبح مما فر منه.
وقوله:
ما كنت عنه إذا استغاثك يا ... سيف بني هاشمس بمغمود
يقال: أغمدت السيف, وهي اللغة العالية. وقد حكي مغمود؛ وذلك قليل, وأنشدوا بيتًا:
تركت سرجك قد مالت سيورته ... والسيف يبلى طوال الدهر مغمود
فأما أغمدت فكثير. قال القطامي: [البسيط]
لا يغمدون لها سيفًا وقد علموا ... ألا تكون لهم أيام إغماد
وقوله:
يا أكرم الأكرمين يا ملك الـ ... أملاك طرا يا أصيد الصيد
أصل الصيد: داء يصيب البعير في رأسه فيميل عنقه, يقال: صيد وصاد واصيد, ثم استعمل ذلك في الرجل صاحب النخوة. والأحسن أن يكون قوله: أصيد الصيد على منهاج قولهم: فلان ملك الملوك؛ أي: واحدهم الذي يعظمونه, ولا يريد أنه أعظمهم صيدًا؛ لأن ذلك يقبح كما يقبح: أنت أعور العور, أي: أشدهم عورًا؛ لأن الخلق والعاهات (40/أ) لا يستعمل فيها أفعل منك, ولا ما أفعله.
وقوله:
قد مات من قبلها فأنشره ... وقع قنا الخط في اللغاديد
اللغد واللغدود: لحم باطن الأذى الذي هو غائب في الرأس, وربما قالوا للموضع الذي يظهر وذلك تحته: لغدود ولغد ولغد, وهذا البيت يروى لزيد الخيل: [البسيط]
وعامر بن طفيلٍ قد نحوت له ... حد المثقف بين النحر واللغد
والخط سيف عمان, وإليه تنسب الرماح الخطية؛ لأن السفن من الهند ترفأ إليه.
وقال قوم: كل سيفٍ خط. والمعروف في الخطي فتح الخاء, وذكر ابن درستويه في شرحه «كتاب الفصيح» أن الكسر جائز.
وقوله:
فصبحته رعالها شزبًا ... بين ثباتٍ إلى عباديد
الرعال: جمع رعلة, وهي القطعة من الخيل والإبل والنعام وقالوا: أراعيل كأنهم جمعوا رعيلًا على أرعلٍ, ثم جمعوه ثانيةً. وشزبًا: جمع شازبٍ, وهو الضامر, والشاسب أشد ضمرًا من الشازب, ثم الشاسف أشد ضمرًا منه. والناس يقولون: شزب جمع شازب على المجاز, وإنما الحقيقة أنه جمع شزوبٍ مثل قولك: رجل صبور وقوم صبر. والثبات: جمع ثبةٍ, وهي جماعة ليست بالكثيرة, ويقال في جمعه: ثبات وثبون وهو من قولهم: ثبيت الشيء إذا جمعته, ويقال: ثبة من الرجال وثبة من المال, وهذا الرجز يروى لأحيحة بن الجلاح: [الرجز]
بنيته بثبةٍ من ماليا ... أخشى رجيلًا أو ركيبًا غاديا
وفي كتاب ينسب إلى الخليل يعرف بكتاب الأبنية أن الثبة من الناس تصغيرها ثبية, وأن ثبة الحوض, وهي وسطه, تصغيرها ثويبة, فهذا يدل على أن الاشتقاقين مختلفان. وأكثر العرب يجروز قباتٍ في النصب والخفض مجرى مسلماتٍ. وبعضهم ينصب التاء في موضع النصب وكذلك أنشدوا قول الهذلي: [الطويل]
فلما جلاها بالأيام تميزت ... ثباتًا عليها ذلها واكتئابها
يروى بفتح التاء وكسرها, ولابد في الحالين من التنوين. والعباديد: الأفراد, ولا واحد له من لفظه, وقد ادعى قوم أن الواحد عبديد.
وقوله:
تحمل أغمادها الفداء لهم ... فانتقدوا الضرب كالأخاديد
يريد أنه وعدهم المال, فأقام الخيل التي هي ناصرة مقام الأموال. فانتقدوا ضربًا كالأخاديد؛ أي جعلوا ذلك كنقد المال, وهذا على سبيل الهزء. والأخاديد: جمع أخدودٍ, وهو حفرة في الأرض مستطيلة.
وقد جاء الأخدود في الكتاب الكريم, وفي الشعر القديم, قال الشاعر: [البسيط]
ولو يمر بصفوانس على عجلٍ ... إذًا لغادر في الصفوان أخدودا
وقوله:
موقعه في فراش هامهم ... وريحه في مناخر السيد
الفراش: عظام رقاق تكون في الرأس بين عظامه, قال النابغة: [الطويل]
تطير فضاضًا بينهم كل قونس ... ويتبعها منهم فراش الحواجب
والمناخر: واحدها منخر, بكسر الميم والخاء, وهو من الشواذ, وقالوا منخر, بفتح الميم, وهو القياس, وحكي منخر, بكسر الميم وفتح الخاء, ويقال لمثل المنخر من الإبل نخرة ونخرة.
وقالوا نخر في جمع نخرةٍ. وأنشد أبو عمرو الشيباني: [الطويل]
كأن رداءيه إذا قام علقا ... على جعلٍ يغشى المآزف بالنخر
المآزف: المواضع التي يتغوط فيها. والسيد: الذئب, وحكي في جمعه سيدان, وهو مما وافق جمعه لفظ التثنية إلا في كسر النون, وبعض العرب يسمي الأسد سيدًا.
وقوله:
سقيم جسمٍ صحيح مكرمةٍ ... منجود كربٍ غياث منجود
يقال: رجل منجود إذا كان غي غم وعرقٍ, فيريد أن هذا المرثي اعتل فكان في كربٍ وجهدٍ وهو مع ذلك غياث للمنجود, قال أبو زبيد: [الخفيف]
صارخًا يستغيث غير مغاثٍ ... ولقد كان عصرة المنجود
وقوله:
ثم غدا قده الحمام وما ... تخلص منه يمين مصفود
جعل الحمام كالقد الذي يشد به الأسير, وهذا مثل قول لبيدٍ: [الكامل]
تراك أمكنةٍ إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
جعل الحمام كالرباط. وإذا رفع القد والحمام ففي غدا ضمير يرجع على المرثي, وإذا نصب أحد المرفوعين فلا ضمير في الفعل. والمصفود (40/ب) الذي يشد بقد أو غيره, والاسم الصفاد.
وقوله:
تهب في ظهرها كتائبه ... هبوب أرواحها المراويد
يقال في صفات الرياح المراويد, والقياس أن يكون الواحد مروادًا إلا أنه قليل في الاستعمال, قال ذو الرمة: [البسيط]
يا دار مية لم يترك لها علمًا ... تقادم العهد والهوج المراويد
وهو من قولهم: راد يرود إذا ذهب وجاء, ويجب أن يكون من ذلك قولهم: ريح رادة وريدة, فإن قيل: كيف قالوا ريدة وهو من ذوات الواو؛ فالجواب أن الأصل ريدة مثل ميتةٍ, ثم خففوه فقالوا: ميتة, وهي من مات يموت, ومن هذا النحو قولهم: ريحان, وهو من الروح, فتقديره أن يكون في الأصل بتشديد الياء كأنه ريحان أو ريحان, فخفف.
وقوله:
أول حرفٍ من اسمه كتبت ... سنابك الخيل في الجلاميد
سنابك الحوافر: مقاديمها, ويقال للأرض الغليظة: سنبكة تشبيهًا بسنبك الحافر, وفي حديث أبي هريرة: «يخرجكم الروم منها كفرًا كفرًا كما أخرجتموهم منها كفرًا كفرًا إلى سنبكٍ من الأرض, قيل: وما ذاك السنبك؟ قال: هو حسمى جذامٍ». والجلاميد: جمع جلمودٍ, والقياس إثبات الياء كما قال الأفوه: [السريع]
يغشى الجلاميد بأمثالها ... مركباتٍ في وظيف نهيس
وقد قالوا: جلامد, وهم يجترئون على حذف هذه الياء كثيرًا, فيقولون: مصابح في مصابيح, ومفاتح في جمع مفتاح, ولا يعرف أنهم قالوا: جلمد بغير واوٍ, قال حميد بن ثور: [الطويل]
جلبانة ورهاء تخصي حمارها ... بفي من بغى خيرًا لديها الجلامد
إلا أنهم قالوا جلمد للواحد, فيجوز أن تكون جلامد جمع جلمدٍ, وهذه الياء تثبت في الجمع إذا كان المجموع على خمسة أحرف وقبل آخره ياء أو واو أو ألف, كما يقال: ثؤلول والجمع تآليل, ودهليز والجمع دهاليز, وقرطاس والجمع قراطيس.











مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید