المنشورات
أهلًا بدارٍ سباك أغيدها ... أبعد ما بان عنك خردها
قال: أغيدها, وهو يريده مؤنثًا؛ لأنه أراد أن المرأة تشبه الغزال, ثم حذف التشبه. قال عدي بن الرقاع العامري: [الكامل]
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس ورنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
شبهها بالجؤذر, وهو ولد البقرة الوحشية. ويجوز أن يكون تذكيرهم المحبوب وهم يريدون المؤنث على معنى الشخص أو الإنسان؛ لأن الإنسان يقع على الرجل والمرأة.
وأجود الروايتين أبعد على أنه أفعل من البعد. والخرد: جمع خريدةٍ على غير قياسٍ؛ لأن فعيلًا وفعيلة ليس بابهما أن يجمعا على فعل, وإنما خرد في الحقيقة جمع خارد أو خاردة, ومن روى أبعد على الاستفهام فالمراد: أتفرح بهذه الدار بعدما بان الذين كنت تكرمها لأجلهم؟ ! . وهذا البيت فيه مجاز واتساع؛ لأن العادة جرت بأن يقال أهلًا بفلانس للقادم, لا للذي يقدم عليه, ولكن لما جعلها سارةً له كما يسر المحبوب القادم جاز أن يقول لها ذلك.
وقوله:
ظلت بها تنطوي على كبدٍ ... نضيجةٍ فيق خلبها يدها
ظلت: مراد بها ظللت, وفيها لغتان: أجودهما فتح الظاء, والأخرى كسرها. وأكثر القراء على الفتح في قوله: {فظلتم تفكهون}. وروي عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ بالكسر.
وسيبويه يذهب إلى أن هذه الأفعال مسموعة لا تقاس. وكان الكسائي يجيز ذلك في الأفعال الماضية إجازةً مطردةً. وأجازه الفراء في الماضي والمضارع, وأنشد: [الوافر]
عليها من قوادم مضرحي ... من اللاتي يكن من الصقيع
أراد يكنن فحذف النون (58/أ) , وحذفها يشبه حذف السين في قول أبي زبيدٍ:
خلا أن العتاق من المطايا ... أحسن به فهن إليه شوس
أراد أحسسن, فالحاء في أحسن ساكنة ألقيت عليها فتحة السين, ثم حذفت للسكون ولاجتماع المثلين, وكذلك يكنن لما كانت الكاف ساكنة نقلت إليها فتحة النون التي تليها ثم حذفت لأن بعدها نونًا أخرى, وقوى ذاك أن نون جمع المؤنث جاءت في الأخير. فأما ظللت فليس قبل اللام حرف ساكن تلقى عليه الحركة, وإذا فتحت الظاء شبهوها بلست, وإذا كسرت الظاء فكأنهم نقلوا إليها الكسرة التي في اللام وأزالوا عنها الفتح. والخلب:
زيادة الكبد, ويقال: هو حجاب القلب, وقيل: هو ما بين الكبد والقلب, وقال الزبرقان بن بدرٍ: [الوافر]
وأجعل كل مضغنٍ أتاني ... يريد السلم بين حشًى وخلب
وأضاف اليد إلى الكبد لأنه أراد الشخص الذي الكبد مستقرة فيه. وإذا أخذ بمذهب أبي الطيب في المبالغة جاز أن تكون اليد مرفوعةً بنضيجةٍ؛ لأن ذلك أشد للحرارة. وإذا جعلت نضيجة صفةً للكبد غير عاملةٍ في يدها فالمعنى صحيح, وليس بمبالغٍ فيه, وترفع اليد بالابتداء في ظاهر مذهب البصريين, وبمعنى الاستقرار على رأي سعيد بن مسعدة, وبخبر الصفة على رأي الكوفيين.
وقوله:
يا حاديي عيرها وأحسبني ... أوجد ميتًا قبيل أفقدها
العير: هي الإبل الحاملة, فربما كان عليها ناس, وربما لم يكن فيها ركبان. وقد دل كلامه على أن المرأة في هذه العير.
وقوله: أحسبني إلى آخر البيت من الكلام الذي يقال له الاعتراض؛ لأن المعنى المقصود غيره. وقوله: قبيل أفقدها: هذا من مواضع أن, وحذفها ليس بمستعمل في القرآن, ولا في كلام فصيح, وهو كالضرورة, وليس بالشديد, وإنما يكره إذا كان قبل الفعل ما يقتضي أن يكون بعده مصدر. والغرض قبيل فقدها.
وقوله:
قفا قليلًا بها علي فلا ... أقل من نظرةٍ أزودها
المعنى الذي قصده في البيت الأول هو في هذا البيت, واعترض ذلك الكلام دونه.
قوله:
شاب من الهجر فرق لمته ... فصار مثل الدمقس أسودها
الفرق: فرق الشعر, وهو أن يفرق الفرق بين جانبي الرأس. والدمقس: القز الأبيض, وكل ما أشبهه فهو دمقس, وزعموا أنه ليس بعربي في الأصل. والأحسن أن تكون الهاء في لمته راجعةً إلى المحب, واللمة: الشعر الذي قد طال حتى ألم بالمنكب, وجمعه لمم ولمام, وذهب ناس إلى أن الهاء في لمته راجعة إلى الفؤاد, وليس ذلك بحسن؛ لأنه يجعل للفؤاد لمةً, وتلك استعارة ليست بالحسنة؛ لأن العادة جرت بأنهم لا يستعملون اللمة إلا في الشعر.
وقوله:
بانوا بخرعوبةٍ لها كفل ... يكاد عند القيام يقعدها
الخرعوبة, والخرعبة: الناعمة, ويقال للغصن الناعم: خرعوبة, ومنه قول امرئ القيس: [المتقارب]
برهرهة رخصة رودة ... كخرعوبة البانة المنفطر
وقوله:
ربحلةٍ أسمر مقبلها ... سبحلةٍ أبيضٍ مجردها
السبحلة والربحلة: متقاربتان في المعنى, يراد بها الضخمة في طولٍ وسمنٍ, وقال بعض الأعراب لرجل أراد أن يشتري بعيرًا: عليك السبحل الربحل الراحلة الفحل؛ أي: يصلح أن يرحل وأن يتخذ فحلًا للإبل, وقالت امرأة تصف ابنتها: [مجزوء الرجز]
سبحلة ربحله ... تنمي نبات النخله
ووصفوا الضب بسبحلٍ, قال الشاعر: [الطويل]
سبحل له نزكان كانا فضيلةً ... على كل حافٍ في البلاد وناعل
وقوله:
ليس يحيك الملام في هممٍ ... أقربها منك عنك أبعدها
(58/ب) ليس يحيك: أي: ليس يؤثر, والأجود عندهم ما أحاك فيه السيف؛ أي: ما أثر, ويقوي رواية من روى في أول القصيدة أبعد على الاستفهام قوله في هذا الموضع: أقربها منك عنك أبعدها؛ لأن أبا الطيب قليل التكرير.
وقوله:
أحييتها والدموع تنجدني ... شؤونها, والظلام ينجدها
أحييتها: أي: سهرتها من أولها إلى آخرها, ومنه حديث خارجة بن زيد: «كان زيد لا يحيي شيئًا كما يحيي ليلة سبع عشرة من رمضان» , أي: كان يسهرها, والمعنى منقول في هذا اللفظ من ابن آدم إلى الليل؛ لأنه سهر, فكأنه يحيي نفسه؛ لأن النوم عندهم ضرب من الموت, وإنما قالوا: أحييت الليلة حملًا على قولهم: ليل نائم, أي: ينام فيه, وكذلك قولهم: أحييته, أي: لم أنم, فنقلت الحياة إلى الليل. وتنجدني: أي: تعينني. والشؤون: جمع شأنٍ, وهي عروق تصل بين عظام الرأس, وفيها يجري الدمع, وهي مهموزة في الأصل, والواحد شأن. قال أوس بن حجر: [الكامل]
لا تحزنيني بالفراق فإنني ... لا تستهل من الفراق شؤوني
وقوله:
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
أراد بالناقة هاهنا نعله, وقد استعملت العرب ذلك, ونحوه قال الشاعر: [الطويل]
ركبنا إليك السبت في كل مهمهٍ ... خفي الصوى إذ أعوزتنا الركائب
والرهان: أكثر ما يذكر في الخيل, وقد كانوا يستبقون على الإبل فيراهنون.
وقوله:
شراكها كورها ومشفرها ... زمامها والشسوع مقودها
لما جعل النعل ناقةً جعل لها كورًا مثل الكور الذي هو رحل الناقة, واستعار لها مشفرًا, وأعرف ما يكون المشفر للإبل. والشسوع: جمع شسعٍ, ولم يقولوا: أشساع, ولا أشسع, وكان القياس أن يقولون ذلك.
وقوله:
في مثل ظهر المجن متصلٍ ... بمثل بطن المجن قرددها
المجن الترس, وشبه الأرض بظهر المجن؛ لأنها خالية من النبت, وهي في ذلك مرتفعة مع غلظٍ. وجعلها تتصل بأرض مثل بطن المجن؛ لأنها منخفضة. والقردد: ما غلظ من الأرض, وهي القردود أيضًا, ويقال لوسط الظهر: قردودة.
وهذا البيت يروى لشقران السلاماني:
فاركب من الأمر قراديده ... بالحزم والقوة أو بايع
أي: اركب ما غلظ منه.
وقوله:
مرتمياتٍ بنا إلى ابن عبيـ ... ـد الله غيطانها وفدفدها
الغائط: المطمئن من الأرض, وهو الغوط أيضًا, فإذا قالوا: غيطان جاز أن يكون جمع غائطٍ مثل حائط وحيطان, ويجوز أن يكون جمع غوطٍ مثل ثورٍ وثيرانٍ, قال الشارع: [مخلع البسيط]
إن شواءً ونشوةً ... وخبب البازل الأمون
يجشمها المرء في الهوى ... مخافة الغائط البطين
من لذة العيش والفتى ... للدهر والدهر ذو فنون
والفدفد: أرض غليظة مرتفعة, قال الشاعر: [الطويل]
إذا الحمل الربعي عارض أمه ... عدت وكرى حتى تحن الفدافد
وقوله:
إلى فتى يصدر الرماح وقد ... أنهلها في القلوب موردها
النهل: الشرب الأول, يقال: أنهل إبله, والناهل عندهم من الأضداد, يكون في معنى الشارب, وفي معنى العطشان, والأصل أن يكون النهل في معنى الشرب, وقد أنشدوا بيت النابغة على أن الناهل العطشان, وهو قوله: [السريع]
والطاعن الطعنة يوم الوغى ... ينهل منها الأسل الناهل
وكأنهم قالوا للظامئ: ناهل, على معنى الفأل؛ أي: إنه يشرب إن شاء الله. أو يكونوا أرادوا أنه سوف ينهل فيما بعد؛ لأنه يحتمل أن يقال: هذا (59/أ) البعير ناهل؛ أي: ينهل فيما يستقبل.
وقوله:
تاج لؤي بن غالب وبه ... سما لها فرعها ومحتدها
المحتد والمحكد: الأصل, وهو من قولهم: حتد بالمكان إذا أقام به. وقالوا للعين من عيون الماء: هي حتد؛ إذا كان ماؤها لا ينقص.
وقوله:
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در تقاصيرها زبرجدها
التقاصير: جمع تقصارٍ, وهي قلادة قصيرة لا تنزل على الصدر, قال عدي بن زيدٍ: [المديد]
رب نارٍ بت أرمقها ... تقضم الهندي والغارا
عندها ظبي يؤرثها ... عاقد في الجيد تقصارا
والزبرجد: فيما قيل معرب, وذهب قوم إلى أن تسميتهم قيس بن حسان أحد بني ضبيعة بن قيس بن ثعلبة برجدًا مراد به الزبرجد, سموه بذلك لحسنه, ولم تجر العادة بأن يحذفوا أوائل الأسماء الرباعية ولا الخماسية, ويجوز أن يكون مأخوذًا من البرجد, وهو الكساء المخطط, كأنه عندهم أحسن من الكساء الذي يكون غير مخططٍ.
وقوله:
ياليت بي ضربةً أتيح لها ... كما أتيحت له محمدها
هذا البيت يحتمل وجهين: أحدهما أن يريد أن هذه الضربة قد حسنت وجه الممدوح وشرفته, ودلت على شجاعته. والآخر أن يكون أراد ياليت بي هذه الضربة؛ أي: ليتني فديته منها, فهو في الوجه الأول متمن خيرًا, وفي الثاني جعل نفسه فداءً للمدوح. وأتيح لها: أي: قدر.
وقوله:
إذا أضل الهمام مهجته ... يومًا فأطرافهن ينشدها
يجوز أن يكون أراد أن الهمام, وهو الملك, إذا أضل نفسه نشدها في أطراف هذه الرماح, ويكون المعنى معنى في, فكأنه جعل الأطراف ظرفًا, ويحتمل أن يجعل نشدت متعديًا إلى مفعولين فيكون التقدير أن الهمام ينشد مهجته أطرافهن. وقولهم: نشدت الضالة من قولهم: نشدتك الله, وهو في ذكر الله متعد إلى مفعولين, كأن القائل ذلك يريد: ذكرتك الله, وطلبته عندك.
وقوله:
وأنك بالأمس كنت محتلمًا ... شيخ معد وأنت أمردها
أن المشددة إذا خففت فالوجه أن يكون ما بعدها مرفوعًا, كما قال سبحانه: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. وربما نصبوا الاسم الذي بعدها وهي مخففة. وينشد: [الهزج]
وصدر مشرق النحر ... كأن ثدييه حقان
ويروى: ثدياه. قال اليشكري: [الطويل]
ويومًا توافينا بوجه مقسمٍ ... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم
يرفعون ظبية وينصبونها على ما تقدم, وقد خفضها بعضهم بالكاف وجعل أن زائدة.
وقوله: وأنك على لغة من نصب؛ لأن هذه الكاف لا تكون ضميرًا للمرفوع. ونصب محتلمًا بخبر كان على الحال, وجعل شيخ معدٍ بدلًا من محتلم, ويمكن أن ينصب محتلمًا على الحال ويجعل شيخ معدٍ خبر كان.
وزعم بعض النحويين أن كان لا تعمل الحال, فإذا أخذ بهذا القول حمل على قوله: كنت بالأمس, وجعل العامل في الحال الفعل المضمر الذي عمل في قوله بالأمس, والقياس لا يمنع أن تعمل كان في الحال؛ لأنها فعل متصرف ترفع فاعلًا, وتنصب مفعولًا أو مشبهًا بالمفعول.
ومعد يحتمل أن تكون فيه الميم زائدة, وأن تكون أصلية, واشتقاقه إذا جعلت الميم زائدة من: عددت, وإذا كانت أصلية فقد استعملوا من هذا اللفظ أشياء, فقالوا: غيث ثعد معد يريدون بالغيث النبت؛ أي: هو غض ناعم, وقالوا: معد الذئب الشاة إذا اختطفها, وقالوا: نزع معد: يعنون نزع الدلو من البئر؛ أي: شديد. قال الراجز: [الرجز]
يا سعد يا بن عمل با سعد ... هل يروين ذودك نزع معد
وقالوا: معد الرجل إذا صار لصًا, قال الراجز: [الرجز]
أخشى عليها طيئًا وأسدا ... وخاربين خربا ومعدا
لا يحسبان الله إلا رقدا
واستدلوا على أن الميم في معد أصلية بقولهم: تمعدد الغلام إذا سمن وشب, قال الراجز: (59/ب) [الرجز]
ربيته حتى إذا تمعددا ... وصار نهدًا كالحصان أجردا
كان جزائي بالعصا أن أجلدا وفي الحديث: «اخشوشنوا واخشوشبوا وتمعددوا»؛ أي: تشبهوا بمعد بن عدنان؛ لأنهم كانوا أهل شظفٍ وعيشٍ ليس بواسعٍ: ومعد الفرس: ما تحت فخذ الفارس, وعلى ذلك فسروا قول ابن أحمر: [الوافر]
فإما زال سرج عن معد ... وأجدر بالمصائب أن تكونا
وقد استعملوا المعد في الرجل يريدون به الخاصرة وما قاربها, قال أبو خراشٍ: [الطويل]
رأت رجلًا قد لوحته مخامص ... وطافت بريان المعدين ذي شحم
وقوله:
فكم وكم من نعمة مجللةٍ ... رببتها كان منك مولدها
مجللة: أي: تعم الجسد حتى تصير له كالجلال. ومن روى مجللةٍ بالفتح أراد معظمةً من قولهم: شيء جليل وجلل, ويحتمل أن يعني بالمجللة أنني جللتها.
وقوله:
أقر جلدي بها علي فما ... أقدر حتى الممات أجحدها
كأنه أراد الثناء عليه بأنه كساه, وهو نحو من قوله في الأخرى: [الطويل]
فبوركت من غيثٍ كأن جلودنا ... به تنبت الديباج والوشي والعصبا
وقوله: فما أقدر حتى الممات أجحدها: هذا من مواضع أن, والمراد فما أقدر أن أجحدها, وقد حذفها أبو الطيب في مواضع كثيرةٍ, وإثباتها أحسن إذا لم تدع إلى ذلك ضرورة.
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
20 أبريل 2024
تعليقات (0)