المنشورات

أود من الأيام ما لا توده ... وأشكو إليها بيننا وهي جنده

هذه القصيدة من الطويل الثاني ولا تعرف قصيدة للعرب على هذا الوزن والقري, ولم يستعمله أحد من فحول المحدثين استعمالًا ظهر عنه, وقد جاء حبيب بن أوس بقصيدة على هذا النحو إلا أن رويها لام, وهي التي أولها: [الطويل]
أبا الفضل أنت الدهرمن لا ندله ... على الحزم في التدبير بل نستدله
والبين هاهنا: الفراق, وقد استعمل في معنى الوصل.
وقوله:
يباعدان حبًا يجتمعن ووصله ... فكيف بحب يجتمعن وصده
زعم أن الأيام يباعدان الحبيب المواصل, فكيف بحب موصوفٍ بالصدود؟ أي: هذا الحب المذكور صاد عنا فذلك أجدر بمعونته الأيام على الفراق. وعطف وصله وصده على الضمير المرفوع في يجتمعن, والأحسن أن يؤكد الضمير المرفوع إذا عطف عليه مثل أن يقول: يجتمعن هن ووصله.
وقوله:
رعى الله عيسًا فارقتنا وفوقها ... مهى كلها يولى بجفنيه خده
يولى: من الولي الذي هو مطر بعد الوسمي؛ أي: هذه المها قد بكت بكاءً أولًا, فهو من الدموع وسمي, ثم بكت بكاءً ثانيًا, فهو كالولي من المطر. يقال: وليت الأرض فهي مولية, ووليت وليةً ووليًا, قال الشاعر: [الطويل]
لني وليةً تمرع جنابي فإنني ... لما نلت من معروف سيبك شاكر
وقوله:
بواد به ما بالقلوب كأنه ... وقد رحلوا جيد تناثر عقده
ادعى أن الوادي إذا ساروا عنه يجد لفراقهم, كما يجد الآدميون فيه من الأسف, كما في قلوب الإنس, وكأنه لما رحلوا جيد انتثر عقده فقد بقي عاطلًا, فهذا المعنى الواضح, وقد يجوز أن يعني بقوله: بوادٍ به ما بالقلوب (60/أ) أنهن في الوادي ممثلات كما أنهن في قلوبنا كذلك.
وقوله:
إذا سارت الأحداج فوق نباته ... تفاوح مسك الغانيات ورنده
الأحداج: جمع حدجٍ, وهو مركب من مراكب النساء, ومن أمثالهم: فخر الأمة بحدج ربتها, يقال ذلك للرجل يفخر بشيء ليس له. وتفاوح: تفاعل من فاح يفوح, وأكثر ما يكون التفاعل من اثنين, وهما ها هنا المسك والرند. وذكر أبو زيدفي «كتاب الشجر» أن الرند من العضاه, وقال غيره: هو شجر طيب الرائحة.
وسموا العود الذي يتبخر به رندًا على معنى التشبيه, وقال قوم: الرند الآس, وقيل: الحنوة.
وقوله:
وحالٍ كإحداهن رمت بلوغها ... ومن دونها غول الطريق وبعده
يقول: رب حالٍ كإحدى هذه المها جليلةٍ عظيمةٍ بعيدةٍ على الطالب رمت بلوغها, والغول: يكون في معنى البعد, فيجوز أن يكرر المعنى لاختلاف اللفظين, ولا يمتنع أن يكون الغول في المعنى الهلاك من قولهم: غاله يغوله: إذا أهلكه.
وقوله:
يرى جسمه يكسى شفوفًا تربه ... فيختار أن يكسى دروعًا تهده
الشفوف هاهنا: الثياب الرقاق التي يشف ما تحتها؛ أي: يبين للناظر, ويقال للستر الرقيق شف وشف, وقال الشاعر: [الخفيف]
زانهن الشفوف والمحض والقيـ ... ـظ وعيش مفانق وحرير
وقالت الكلبية:
للبس عباءةٍ وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف
وتربه: أي تصلحه وتحسن حاله, من قولهم: رببت الصبي؛ إذا أحسنت القيام عليه, وقد ردد أبو الطيب هذا المعنى في شعره, من ذلك قوله:
فإني أستريح بذي وهذا ... وأتعب في الإناخة والمقام
وقوله:
يكلفني التهجير في كل مهمهٍ ... عليقي مراعيه وزادي ربده
يكلفني: فيه ضمير يرجع إلى قلبه. والتهجير: السير في الهاجرة. ويقال: هجر النهار؛ إذا صار إلى وقت الهجير, وأكثر ما تستعمل الهاجرة في نصف النهار مع شدة الحر, قال امرؤ القيس:
فدعها وسل الهم عنك بجسرةٍ ... ذمولٍ إذا صام النهار وهجرا
وقوله: عليقي مراعيه؛ بمعنى أنه قد أقام مراعي هذه المهمه مقام العليق الذي يعلقه على خيله, وزادي ربده: أي أني أصطاد الربد, وهي النعام, وأقيمها مقام الزاد.
وقوله:
ونمتحن النشاب في كل وابلٍ ... دوي القسي الفارسية رعده
النشاب: مأخوذ من قولهم: نشب في الشيء إذا علق به, وقد جاء في الشعر القديم, وينشد لعمر بن أبي ربيعة: [الكامل]
فسمعت ما قالت فبت كأنما ... شك الحشى بنوافذ النشاب
وقوله:
سبائك كافورٍ وعقيانه الذي ... يصم القنا لا بالأصابع نقده
السبائك: جمع سبيكة, وهي قطعة من الذهب أو الفضة تسبك بالنار, قال غالب بن الحر: [الطويل]
نبائت أنصابًا كأن وليعها ... سموط العذارى علقت في السبائك
يصف نخلًا, والوليع: طلع الفحال, والعقيان: خالص الذهب, وكأنهم يريدون به الذي يخرج من المعدن, ثم صار ذلك اسمًا عامًا, قال الشاعر: [الرمل]
كل قوم] خلقوا من آنكٍ ... وبنو العباس عقيان الذهب
والأصابع: يقال في واحدها: إصبع وإصبع وأصبع وأصبوع. وقال بعض الناس: يجوز في الإصبع أن تأتي على وزن كل فعلٍ يخبر به المتكلم عن نفسه. ويقال: لفلان إصبع على المال؛ إذا كان حسن القيام عليه, قال الراعي النميري: [الطويل]
صليب العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أمحل الناس إصبعا
وقوله:
بلاها حواليه العدو وغيره ... وجربها هزل الطراد وجده
بلاها: اختبرها, ويقال: هو حواليه وحوليه وأحواله وحاله وحوله, قال امرؤ القيس:
ألست ترى السمار والناس أحوالي
فهذا جمع حولٍ, كأنه جعل كل جانبٍ حولًا, وقال النابغة: (60/ب) [الكامل]
حولي بنو دودان لا يعصونني ... وبنو بغيضٍ كلهم أنصاري
وقال الراجز من العرب على لسان الضب, وهذا الرجز ينشد مطلقًا وموقوفًا:
أهدموا دارك لا أبالكا ... وزعموا أنك لا أخالكا
وأنا امشي الدألى حوالكا 
وقال كعب بن زهير: [البسيط]
يمشي الوشاة حواليها وقولهم ... إنك يا بن أبي سلمى لمقتول
والهزل: ضد الجد. يقال: هزل الرجل يهزل؛ إذا جاء بالهزل. وهزل دابته يهزلها, بضم الزاي, كأنهم أرادوا أن يفرقوا بين الفعلين, وأصلهما واحد؛ لأن الهزل في القول مأخوذ من هزل الدابة إذا كان الهزل كلامًا لا طلاوة له ولا قوة.
وقوله:
فيا أيها المنصور بالجد سعيه ... ويا أيها المنصور بالسعي جده
أراد أن الممدوح قد جمع بين الجد الذي هو حظ وبين السعي في طلب المكارم, فكل واحد من الخلتين تنصم الأخرى؛ لأن المجدود إذا اتكل على جده ولم يسع في طلب المكارم كان ذلك نقصًا عليه, وإذا سعى وهو غير مجدود لم يصل إلى خير؛ لأن المثل السائر: عش بجدك لا بكدك.
وقوله:
وليتك ترعاني وحيران معرض ... فتعلم أني من حسامك حده
يجب أن يكون أراد بحيران هذا الموضع الذي هو قريب من حمص ومعرض: أي بادٍ, يقال: أعرض لك الشيء إذا بدا. قال عمرو بن كلثومٍ: [الوافر]
فأعرضت اليمامة واشمخرت ... كأسيافٍ بأيدي مصلتينا
والحسام: السيف, أخذ من الحسم؛ أي: القطع, وربما قالوا: حسامة بالهاء. وقال الشاعر:
وعندي حساما سيفه وحمائله
أراد بحساميه حديه, والحد: أصله المنع, وفيه اشتقاق كل لفظة فيها حاء ودالان أصليتان, وهي ثلاثية في الأصل, مثل الحديد والحداد, وحدان اسم أبي حي من العرب. وقيل لحرف السيف حد؛ لأنه يمنع من العدو, أو لأنه إذا لمس حد اليد أن تقبض عليه.
وقوله:
وأني إذا باشرت أمرًا أريده ... تدانت أقاصيه وهان أشده
أصل المباشرة أن تكون من اثنين يلصق أحدهما بشرته ببشرة الآخر, والبشرة: ظاهر الجلد, ثم كثر ذلك حتى قيل: باشر فلان كذا, وإن لم يكن للمفعول بشرة, مثل أن يقول باشر الشدة فجعل لها بشرةً مستعارة, وإنما ذلك مجاز ليست له حقيقة.
وقوله:
وألقى الفم الضحاك أعلم أنه ... قريب بذي الكف المفداة عهده
ذي: في معنى هذي, يريد أن الفم إذا قبل كف الممدوح ظهر في المقبل فرح وسرور يضحك, وهذا أحسن من أن تجعل ذي في معنى صاحبٍ, كأنه قال: بصاحب الكف المفداة يعني الممدوح, وإن كان ذلك سائغًا, فالوجه الأول هو الصواب.
وقوله:
وكن في اصطناعي محسنًا كمجربٍ ... يبن لك تقريب الجواد وشده
الشد: العدو الشديد, يقال: شد يشد شدا, وكذلك شد الحبل, وحكوا شد المرس يشده ويشده, وقال بعضهم: إذا عدى شد ضم الشين في أول المضارع وإذا جعلها غير متعدية كسر, مثل أن يقول: شد على العدو يشد, والأصل واحد. وجاء في الحديث: «فأشد حسابه»؛ أي: جعله شديدًا, كأنهم فرقوا بينه وبين شد الحبل, ومن ذلك اشتقاق الأشد, فهو على رأي قوم جمع شدةٍ على حذف الهاء, كما قالوا: نعمة وأنعم, وقيل: أشد: يجوز أن يكون واحده شدًا وشدًا وشدًا, وقيل: هو اسم على أفعلٍ. وزعم سيبويه أن أفعلًا لم يجئ في الآحاد, وتأنيثهم الأشد يدل على أنه جمع, قال الراجز: [الرجز]
بلغتها فاجتمعت أشدي ... وشذب الباطل عني جدي
وذكر ابن عباس في الأشد أنه يقال للغلام إذا بلغ ثماني عشرة سنة, وقال غيره: الأشد ثلاث وثلاثون, وقيل: ست وثلاثون, وقال بعضهم: أربعون سنة.
وقوله:
وكل نوال كان أو هو كائن ... فلحظة طرفٍ منك عندي نده
يقال: هو نده ونديده ونديدته؛ أي مثله. قال لبيد: [الطويل]
لئلا يكون السندري نديدتي ... وأشتم أعمامًا عمومًا عماعما














مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید