المنشورات
أزائر يا خيال أم عائد ... أم عند مولاك أنني راقد
وهي ما لم يذكره الخليل من الأوزان؛ لأن العرب عنده لم تستعمله, وقد ذكره غيره.
وخروجه من ثاني المنسرح.
وقوله: أزائر: خبر مقدم محذوف المبتدأ, كأنه قال: أزائر أنت يا خيال؟
وقوله: أم عند مولاك أنني راقد؛ يقول: أظنني نائمًا فجاءني كما يجيء الخيال الطارق, وليس عادة الخيال أن يزور اليقظان.
وقوله:
ليس كما ظن غشية لحقت ... فجئتني في خلالها قاصد
يقول: هذا الذي ظننته نومًا ليس بنومٍ, وإنما هو غشية عارضة ظننتها رقادًا, فجذبتني في خلالها قاصدًا وأنت في ذلك محطئ.
وقوله:
عد وأعدها فحبذا تلف ... ألصق ثديي بثديه الناهد
الهاء في قوله: وأعدها عائدة على الغشية, والهاء في ثديه عائدة على المولى في قول من ذكر, ومن أنث جعل الهاء عائدة إلى المرأة, وذكر على معنى الشخص وإن كان يريد المرأة, والناهد الذي قد نهد؛ أي: نهض.
وقوله:
وجدت فيه بما يشح به ... من الشتيت المؤشر البارد
ويقال: شح يشح ويشح, وحكي يشح, بفتح الشين, وقالواة: شحيح وشحاح, وقال ابن هرمة: [المتقارب]
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زندًا شحاحا
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا
والمؤشر: الذي به الأشر, وهو تحزيز في أطراف الأسنان يدل على حداثة السن. ويقال: أشر وأشر, فإذا قالوا مؤشر جاز أن تجعل الهمزة واوًا خالصةً؛ لأنها مفتوحة, وقبلها ضمة.
وقوله:
إذا خيالاته أطفن بنا ... أضحكة أنني لها حامد
جمع خيالًا بالألف والتاء لأنه لما لا يعقل, قال زهير: [الوافر]
تطالعنا خيالات لسلمى ... كما يتطلع الدين الغريم
وقالوا: خيالة بالهاء, ويجوز أن تكون خيالات جمع خيالةٍ. ويروى لحاجز بن عوف الأسدي: [الوافر]
ألا طرقت خيالة أم كرزٍ ... وأصحابي بعيهم من تباله
يقول: هذا المحبوب إذا ألمت بي خيالاته فبلغه ذلك ضحك من أنني أحمدها؛ لأنه يعلم أنها ساخرة, فيعجب من خديعتها إياي, وهذه من الدعوى التي ليس لها حقيقة, ومثلها كثير في الشعر المحدث والقديم.
وقوله:
ما تعرف العين فرق بينهما ... كل خيال وصاله نافد
قال: فرق بينهما؛ فخبر عن اثنين, كأنه يعني الخيال والذي هو متخيل منه, ثم قال: كل خيال, ولو أمكنه الوزن لكان هذا من مواضع كلا؛ لأن القائل إذا قال: جاءني رجلان فالأحسن أن يقال: كلاهما فاضل, ولا يقول: كل, على أن ذلك جائز, ويحتمل أن يدعى أن كلا هاهنا واقعة على جميع الشخوص المرئية من بني آدم؛ أي: كل الإنس خيالات, وهذا الوجه يسلم فيه القائل من أن يكون قد استعمل كلًا في اثنين.
وقوله:
يا طفلة الكف غيلة الساعد ... على البعير المقلد الواخد
الطفلة: الناعمة. ويقال: بنان طفل, والغيل: الساعد الممتلئ, وأدخل الهاء لأنه وصف به المؤنث, وبعضهم ينشد قول النابغة: [الكامل]
بمخضبٍ غيلٍ كأن بنانه ... عنم على أغصانه لم يعقد
وقوله:
حكيت ياليل فرعها الوارد ... فاحك نواها لجفني الساهد
الفرع: الشعر, والوارد: يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه قد طال حتى ورد إلى الكفل.
والآخر: أنه يعل بالأدهان (63/ب) الطيبة, فكأنه يرد الماء لكثرة ما يسقاها. وقوله: حكيت ياليل فرعها, أي: أنك طويل شديد السواد. وقوله: فاحك نواها لجفني الساهد, أي: ابعد عني كما بعدت هي؛ فإنك ثقيل علي.
وقوله:
لو رعت الوحش وهي تذكره ... ما راعها حابل ولا طارد
الحابل: الذي ينصب الحبالة ليصيد, يقال: حبل الصيد فهو محبول. قال الراجز: [الرجز]
آذن بالبين صريد الضاله ... فظل منه القلب في بلباله
ينزو كنزو الظبي في الحباله
وأما قول لبيد: [الرمل]
ولقد أغدو وما يعدمني ... صاحب غير طويل المحتبل
صاحب هاهنا: فرس, ويقالإنه أراد الرسغ؛ لأنه ربما شد فيه حبل, ويروى: المختبل مأخوذ من قولهم: أخبلته إذا أعرته.
وله:
وموضعًا في فتان ناجيةٍ ... يحمل في التاج هامة العاقد
الموضع: الذي يحمل الناقة على الوضع. والفتان: إشاء الرحل. قال الشاعر: [الطويل]
كأني ورحلي والفتان ونمرقي ... على يرفئي ذي زوائد نقنق
يرفئي: لا فؤاد له. والناجية: ناقة تنجو براكبها. يقول: كل ساعة تمر بهذا الممدوح تهدي له خبرًا عن جيشٍ قد انهزم وقتله جنوده, وراكب ناقة يحمل هامة مخالفٍ من الملوك والتاج عليها معقود.
وقوله:
يا عضدًا ربه به العاضد ... وساربًا يتعب القطا الهاجد
يقال: إن بعض الناس أنكر على أبي الطيب كثرة التصريع في هذه القصيدة؛ إذ كانت لم تجر العادة بمثله, وإن كانت الشعراء قد استعملته على ضروب, منهم من يستعمله في أول القصيدة ثم لا يصرع إلى آخرها, وبعضهم يترك التصريع في أول القصيدة, ومن المعروفين بذلك الفرزدق وذو الرمة, ومما ترك فيه الفرزدق التصريع قوله: [الطويل]
سمونا لنجران اليماني وأرضه ... ونجران أرض لم تديث مقاوله
تديث: تذلل. وقال ذو الرمة: [البسيط]
أأن ترسمت من خرقاء منزلةً ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم
ومنهم من يبتدئ القصيدة غير مصرعة, ثم يجيء بعد ذلك بالأبيات المصرعة, ومنه
قال امرئ القيس: [المتقارب]
لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
ثم قال بعد أبيات:
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضرك أن تنتظر
أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في أثرهم منحدر
وشاقك بين الخليط الشطر ... وفيمن أقام من الحي هر
فجاء بثلاثة أبيات متوالية مصرعةٍ, وهذا من طريق ما جاء عنهم. وبعض الناس يجعل أول هذه القصيدة مصرعًا, وهو قوله:
أحار بن عمروٍ كأني حمر ... ويغدو على المرء ما يأتمر
وربما جعلوا التصريع في آخر القصيدة, وأخلوا منه الأول, من ذلك قول أبي زبيدٍ: [الخفيف]
لمن العيس لابن أروى على ظهـ ... ـر المرورى حداتهن عجال
ثم قال في آخرها: [الخفيف]
كل شيءٍ تحتال فيه الرجال ... غير أن ليس في المنايا احتيال
ولم يأت عن الطبقة المتقدمة مثل الخليل وأصحابه فرق بين التصريع وغيره, وبعض الناس يفرق بين التقفية والتصريع, فيجعل التقفية لما اعتدل شطراه من الشعر؛ كقول طرفة: [الطويل]
لخولة أطلال ببرقة ثهمدٍ ... وقفت بها أبكي وأبكي إلى الغد
وكقول لبيد: [الكامل]
عفت الديار محلها فمقامها
والاعتدال عندهم في الأصل لا فيما يحدث من الفروع كنقصان الحركة والحرف الساكن, والتصريع لما كان أحد شطريه أزيد من الآخر؛ كقول جرير: [البسيط]
بان الخليط ولو طوعت ما بانا
والبيت الثاني يزيد في الأصل على البيت الأول بحركةٍ واحدةٍ لا غير. والهاجد: النائم. ومن كلامهم القديم: هو يبعث القطا الهاجد, يريدون أنه يسرى ليلًا في الأرض المقفرة؛ لأن القطا لا يتخذ أفاحيصه على الغالب إلا في أرضٍ بعيدةٍ من الإنس, ولذلك قالوا: لو ترك القطا لنام. وقال الشاعر, والبيت يروى لابن مقبل ولرجلٍ من ثقيفٍ: [الطويل]
وإني وإياهم كمن نبه القطا ... ولو لم تنبه باتت الطير لا تسري
وقوله:
وليت يومي فناء عسكره ... ولم تكن غائبًا ولا شاهد
يقول: جهزت جنودك الذين دبرتهم برأيك فكنت كأنك شاهد لما كان من تلك الوقعة وشخصك غائب عن الحرب. وأملي تفسير هذا البيت قبل أن يقرأ الذي بعده, وقد فسر أبو الطيب ما أراد بالغائب والشاهد, وهو قوله:
ولم يغب غائب خليفته ... جيش أبيه وجده الصاعد
وقوله:
ما كانت الطرم في عجاجتها ... إلا بعيرًا أضله ناشد
الطرم: اسم قلعة أو موضع فيه القلعة, والهاء في عجاجتها عائدة على سوافك.
والسوافك: يجوز أن يعني بها الخيل أو السيوف والرماح, ويستغنى عن تقدم ذكرها بعلم السامع ما يراد, ويجوز أن تكون (64/أ) الهاء في عجاجتها عائدةً على الطرم, أي: في العجاجة التي ثارت عليها كأن وهسوذان كان قد ملك هذه القلعة, واستردت منه فكانت كالبعير الذي أضله الناشد.
وقوله:
تسأل أهل القلاع عن ملكٍ ... قد مسخته النعامة الشارد
يقول: هذه القلعة تسأل عن وهسوذان؛ لأنها لا تعلم ما كان منه. وقوله: قد مسخته يعني القلعة التي هي الطرم, أي لما أخذها أداه ذلك إلى طرده وانهزامه, فكأنه قد مسخ نعامةً, والنعام توصف بالشرود والنفار, قال الشاعر: [الكامل]
ليث علي وفي الحروب نعامة ... ربداء تنفر من صفير الصافر
وقال أسامة بن الحارث الهذلي: [الطويل]
لعمري لقد أمهلت في نصح خالدٍ ... إلى الشام إما يعصينك خالد
وأمهلت في أصحابه فكأنما ... يسمع بالقول النعام الشوارد
وقوله:
تستوحش الأرض أن تقر به ... فكلها آنه به جاحد
يجوز أن تضم التاء في تقر, وهي من الإقرار الذي هو ضد الجحد, ويجوز أن تفتح التاء, ويكون من القرار في الموضع.
وادعى أن الأرض, التي هي مستخفٍ فيها, تستوحش أن تقر به, كأنها تخاف أن تلحقها من ذلك عقوبة من هذا الممدوح, وهذه من الدعوى الباطلة. فكلها آنه به, أي: قد استثقل كونه فيه؛ فهو آنه بما حمل.
والآنه: مثل الآنح, وهو الذي يخرج من صدره صوتًا ليس بشديد يدل على أنه قد حمل ثقلًا أو نالته شدة, فالمكان يستثقل كون وهسوذان به, ويجحد أنه فيه خوفًا ممن هزمه.
وقوله:
فلا مشاد ولا مشيد حمى ... ولا مشيد أغنى ولا شائد
الإشادة: تستعمل في الحديث, يقال: أشاد بذكره, يقول لم يحمه ذكر له رفيع, ولا رافع لذلك الذكر. والمشيد: الأحسن هاهنا أن يكون ما رفع من الأبنية, والشائد الذي يرفعه.
وبعض الناس يقول: المشيد: المطلي بالشيد؛ أي: الجص, والمشيد: المرفوع من البناء, والوجه الأول أشبه بهذا البيت, ومن نون مشيدًا في النصف الأول فما فعله جائز إلا أنه يحدث في الوزن شيئًا تنكره الغريزة, وقد استعمل مثله المحدثون كثيرًا, إلا أن تركه أحسن, ولعل من روى هذه الرواية يريد أن يعطف على المرفوع مثله كما جاء في الكتاب العزيز: {فلا رفث ولا فسوق}. والخروج إلى حال النصب أحسن من تغيير الوزن, وفي الآية: {ولا جدال في الحج}.
وقوله:
فاغتظ بقوم وهسوذ ما خلقوا ... إلا لغيظ العدو والحاسد
رخم وهسوذان فحذف الألف والنون لأنه جعله كالاسم الواحد, وهذه الأسماء الأعجمية التي تجيء على سبعة أحرف وما زاد الأشبه بها أن تكون مركبةً من اسمين؛ فأبو الطيب جعل وهسوذان بمنزلة اسم واحد, مثل زعفران وما جرى مجراه. ولو قال قائل في ترخيم وهسوذان وهسو أو وهس لم يبعد ذلك؛ لأنه يجعل ذان بمنزلة اسمٍ قرن بالأول, أو يجعل الواو به متصلة في بعض النسخ.
وقوله:
رأوك لما بلوك نابتةً ... يأكلها قبل أهله الرائد
الرائد: الذي يبعثه القوم يرود لها مواضع الكلأ, والمعنى أنه يرود فيها؛ أي: يذهب ويجيء لينظر كيف هي الخصب والإمراع. ثم قالوا رادها يرودها فاستغنوا عن حرف الخفض, ومن أمثالهم: «لا يكذب الرائد أهله»؛ لأنه إن كذبهم غرهم وغر معهم نفسه, يقول: كان هذا المنهزم كالعشبة النابتة يسبق إليها الرائد فيأكلها من قبل أهله, وذلك لهوانها عليهم, ولأن أكله إياها ليس بمؤد إلى الإضرار بمن وراءه.
وقوله:
وخل زيا لمن يحققه ... ما كل دامٍ جبينه عابد
أي أردت أن تكون ملكًا ولست من أهل المملكة, فاترك هذا الأمر لمن يحققه, كما أن بعض الناس يؤثر السجود في وجهه لكثرة ما يتعبد ويضع وجهه على الأرض, ومنه قوله تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}. وقال الشاعر: [البسيط]
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحًا وقرآنا
وبعض من يريد أن يتظاهر بالدين, وليس هو من أهله, يؤثر في موضع سجوده بشيء حتى يظن أن ذلك من السجود, وقيل: إنهم يدلكون الموضع بثومٍ.
وقوله:
ومتقٍ والسهام مرسلة ... تحيص من حابضٍ إلى صارد
(64/ب) الحابض: من صفات السهام, فقيل: هو الذي يقع بين يدي الرامي, وقيل: بل الذي يتعلق في الغرض تعلقًا يسيرًا. والصارد من السهام: الذي ينفذ الرمية, قال اللعين المنقري: [الوافر]
فما بقيا على تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال
وقوله:
ولا يبل قاتل أعاديه ... أقائمًا نال ذاك أم قاعد
لا يبل: كلمة شاذة, وهي من بالى يبالي, وإنما القياس: ولا يبالي مثل لا يرامي, ولكن بعض العرب إذا وقف على مثل أبالي وأرامي, وما كان في آخره ياء من المضارعة مثل يقضي ويأتي يحذف آخر الفعل فيقول: نقض ولا أبال فيسكن اللام, فلما كثر ذلك توهموا أن الألف يجوز حذفها في الجزم, كما يقال: لم يقل, ولم يبل.
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
20 أبريل 2024
تعليقات (0)