المنشورات
جاء نوروزنا وأنت مراده ... ووردت بالذي أراد زناده
وهي من الخفيف الأول.
النوروز: من أعياد فارس, وهو يوم يرفعون فيه آلات الشتاء من بسط وما يجري مجراه ويستعملون آلات الصيف, وهم يصنعون ذلك إلى اليوم.
وأما العامة في العراق وغيره فيصب الماء بعضهم على بعض لأربعٍ وعشرين ليلةً تمضي من حزيران, ويسمونه النوروز المعتضدي.
وقال أبو الطيب: نوروز بالواو, وهو في شعر البحتري نيروز بالياء, وادعى للنوروز أنه جاء ومراده الممدوح؛ وذلك من الكذب الصريح, ولكنه مستحسن عند الشعراء, ويقولون للرجل إذا نجح وقوي أمره: ورت زناده ووريت؛ أي: بلغ حاجته؛ لأن القادح غرضه أن يري زنده, ويقول الرجل لصاحبه إذ صنع إليه صنيعًا يشكر: وريت بك زنادي؛ أي: أعنتني على ما ألتمس.
وقوله:
هذه النظرة التي نالها منـ ... ـك إلى مثلها من الحول زاده
جعل لليوم نظرةً على سبيل الاستعارة, وصير له زادًا يأخذه من الممدوح في كل سنةٍ, وهذا من نحو الحديث الذي جاء, وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن والكافر لا تراءى نارهما» أي لا يتجاوران, فتكون نار أحدهما قريبة من نار الآخر فكأنها تراه. ويقولون إذا نظرت إليك بلاد كذا فافعل ما بدا لك؛ أي إذا كنت في موضعٍ بمقدار ما يراك فيه الإنسان الناظر.
وقوله:
ما لبسنا فيه الأكاليل حتى ... لبستها تلاعه ووهاده
التلاع: جمع تلعةٍ, وهي مسيل في الوادي يقال لأعلاه: تلعة, وكذلك لأسفله, وقد ذكره بعض الناس في الأضداد, كأنه يذهب إلى أن التلعة المكان المرتفع والمنخفض. وكان أبو إسحاق الزجاج ينكر الأضداد, وله كتاب في الرد على من يقول بها. وزعموا أن ابن الأعرابي كان يذهب إلى ذلك, وأنشدوا بيت زهيرٍ في أن التلعة المنخفض من الأرض: [الطويل]
وإني متى أهبط من الأرض تلعةً ... أجد أثرًا قبلي جديدًا وعافيا
وقوله:
كيف يرتد منكبي عن سماءٍ ... والنجاد الذي عليه نجاده
المنكب: رأس الكتف, ويجوز أن يسمى ما قرب منه منكبًا. يقول: كيف لا يصل منكبي إلى السماء وقد وهب لي هذا الملك سيفًا, فنجاده على منكبي.
وقوله:
قلدتني يمينه بحسامٍ ... أعقبت منه واحدًا أجداده
يقول: وهب لي هذا الممدوح سيفًا أورثته إياه أجداده, فكأن يمينه قلدتني به.
وقوله:
كلما استل ضاحكته إياة ... تزعم الشمس أنها أرآده
إياة الشمس: ضوؤها. وقال قوم: الإياة: عين الشمس, قال طرفة: [الطويل]
سقته إياة الشمس إلا لثاته ... أسف ولم تكدم عليه بإثمد
وأرآده: واحدها رئد وأصلها الهمزة, وأصل ذلك في النساء, ويقال: فلانة رئد فلانةٍ؛ أي: تربها ومثلها في السن. قال كثير: [الطويل]
وقد أزروها وهي ذات مؤصد ... صغيرٍ ولما تلبس الإتب ريدها
يريد أن نور الشمس إذا قابل فرند هذا السيف حدتث بينهما أنوار تزعم الشمس أنها أرآد هذا الحسام, وإنما ذلك زعم منها لا حقيقة له, وأكثر ما يستعمل الزعم فيما لا يثبت كما قال سبحانه: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا}؛ أي: ليس الأمر كذلك, وقال الضبي: [الكامل]
زعمت تماضر أنني إما أمت ... يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
أي: إنها تدعي ذلك, وليس هو على ما تزعم.
وقوله: (65/أ)
مثلوه في جفنه خشية الفقـ ... ـد ففي مثل أثره إغماده
يقول: هذا السيف يهوى الناظر إدامة نظره إليه, فقد مثل في غمده كيلا يستره الغمد عن العيون. والإثر: فرند السيف, كأنهم حلوه بفضة, ولا يمتنع أن يكونوا صاغوا له غمدًا من الفضة, والسيف يوصف بالبياض, والفضة بيضاء, كأنه مغمد في فرنده.
وقوله:
منعل لا من الحفا ذهبًا يحـ ... مل بحرًا فرنده إزباده
لما كانت النعل تكون في رجل الإنسان شبهوا بها نعل الدابة من الحديد, والدواب تمشي فتشارك الأنيس في المشي, فهي أقرب إلى أن تستعمل لها النعال من السيوف, ولما كانت الحلية تكون في أسفل الغمد جعلت كالنعل للسيف. وإنما يحسن أن يجعل له نعلًا إذا أغمد؛ لأنه إذا سل كان ذبابه أعلى شيء فيه, ولعلهم إنما قصدوا بذلك الغمد دون السيف, ثم استعملوه لما يكون في الغمد.
وقوله:
يقسم الفارس المدجج لا يسـ ... ـلم من شفرتيه إلا بداده
يقال: فارس مدجج ومدجج؛ إذا كان كامل السلاح, ويجوز أن يكونوا أرادوا ستره بالدرع من قولهم: ليل دجوجي؛ أي: مظلم يستر ما تحته, وقالوا للقنفذ العظيم الشوك: مدجج لأنه يرمي بشكوكه, فكأنه معد للحرب. والبداد من السرج: ما كان تحت فخذ الفارس, وإنما قيل له: بداد؛ لأنه يفرق بينه وبين ظهر الفرس, ويقال لباطن الفخذ باد. والبد: أصله التفريق, وهو من قولهم: بدد الشيء إذا فرقه, قال الراجز: [الرجز]
قد سمنتها بالسويق أمها ... فبدت الرجل فما تضمها
أي: مدتها, فكأنها قد فارقت غيرها من الجسم, ومنه قولهم: أبدهم حتوقهم؛ أي: فرقها فيهم, وفي حديث أم سلمة: «أن السؤال كثروا عندها يومًا فقالت لجاريتها: أبديهم تمرةً تمرةً»؛ أي: فرقي عليهم التمر.
وقوله:
وتقلدت شامةً في نداه ... جلدها منفساته وعتاده
الشامة: نكته يسيرة في شيء يخالف لونها لونه, وهي من ذوات الياء؛ لأنهم يقولون للرجل: أشيم؛ إذا كانت به شامة, وقالوا: إبل شوم؛ أي: سود, ولم يستعملوا لها واحدًا, قال الهذلي: [الطويل]
معتقةً صرفًا يكون سباءها ... جياد المخاض شومها وحضارها
ويجوز أن يكون قولهم للسود شوم لأنهم تطيروا من السواد, وأخذوها من الشؤم, وأصله الهمز, ويجوز أن يكونوا لزموا فيه التخفيف, كما فعلوا ذلك في النبي والذرية, وقد تركت العرب همزة الشؤم في الفعل الماضي فقالوا: شامه, ويروى لكثير:
وما شامني إلا كتاب بعثته ... فليت يميني قبل ذلك شلت
فأما تصيير الهمزة في شؤمٍ واوًا فلا اختلاف في أنه لغة صحيحة تطرد في جميع ما كان مثله. ولما كانت الشامة تكون في الجلد استعاره أبو الطيب في هذا البيت, فجعل السيف شامةً في ندى الممدوح, والجلد الذي هي فيه المنفسات والعتاد, وهي قليلة فيها؛ لأن الشامة إنما تشغل ما قل من جلد الإنسان.
وقوله:
فرستنا سوابق كن فيه ... فارقت لبده وفيها طراده
الهاء في فيه راجعة على الندى, وقوله: فرستنا: أي: جعلتنا حاذقين بالفروسية؛ لأن كل من ركب الفرس سمى فارسًا, إلا أنه, وإن ركب, جائز ألا يكون صاحب فروسة على ظهور الخيل. والهاء في لبده راجعة إلى الممدوح, واللبد هاهنا واحد في معنى الجمع. والهاء في طراده ترجع إلى الممدوح أيضًا؛ أي: أنه فارس على الخيل, فهذه السوابق قد فارقت ركابه, إلا أنها متعودة ما عودها من الطراد, فنحن نجده فيها إذا أردناه.
وقوله:
ورجت راحةً بنا لا تنلها ... وبلاد تسير فيها بلاده
يقول: هذه السوابق رجت أن تستريح إذا صرات إلينا؛ لأنها كانت متعبةً عنده بالطراد, ودعا عليها بأن لا تنال ذلك؛ أي: إنا بعد نتعبها؛ لأنا نتبع سيرته ونفعل كما يفعل من طراد الأعداء, وهذا معنى مستطرف؛ لأنه كان ينبغي لهذه الخيل أن تستريح ما دامت في بلاد الممدوح؛ إذ كانت آمنةً من الأعداء, فإذا خرجت منها جاز أن يحتاج أربابها إلى القتال.
وقوله:
أنا من شدة الحياء عليل ... مكرمات المعله عواده
هذا البيت والذي بعده من الأبيات يدل على أن ابن العميد نقد على أبي الطيب شيئًا فيما مدحه به ولم يقرر بالتقصير إلا من أمرٍ عظيمٍ؛ لأنه يصف شعره وثناءه في مواضع كثيرةٍ.
وقوله: (65/ب)
ربما لا يعبر اللفظ عنه ... والذي يضمر الفؤاد اعتقاده
ما هاهنا ليست كافةً مثلما في قوله:
ربما تجزع النفوس من الأمـ ... ـر له فرجة كحل العقال
ولكنها في معنى اسم منكورٍ كأنه قال: رب شيء لا يعبر عنه الفظ؛ أي: إني إن كنت قصرت فيما قلته باللسان فإنما المعول على ما يعتقده الفؤاد. والهاء في اعتقاده راجعة إلى الفؤاد. وإذا جعلت ما نكرةً بان لك معنى البيت, ولو اعتقدت ذلك في مثل قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} لم يحسن.
وقوله:
للندى الغلب إنه فاض والشعـ ... ـر عمادي وابن العميد عماده
الغلب: مصدر غلب, وهو قليل في الاستعمال, إلا أن مصادر ما كان على هذا الوزن يحسن أن يستعمل فيها فعل, بسكون العين, وأقر في هذا البيت بأن الندى فاض فغلب الشعر, وجعل الشعر عمادًا له. والأشبه أن تكون الهاء في آخر البيت عائدةً على الندى, فكأنه يقول: إن عمادي الشعر, والندى عماده ابن العميد, فقد غلب الشعر, ويحتمل أن تجعل الهاء في عماده عائدةً على الشعر؛ أي: إني أستظهر على المديح بأن ابن العميد عماد للقريض.
وقوله:
نال ظني الأمور إلا كريمًا ... ليس ليس نطقه ولا في آده
هذا البيت يشبه ما قبله في الاعتراف بشيء أنكر عليه, والآد: مثل الأيد؛ أي: القوة.
قال الأعشى: [المتقارب]
قطعت إذا خب ريعانها ... بوجناء تنهض في آدها
وقوله:
خلق الله أفصح الناس طرًا ... في مكانٍ أعرابه أكراده
جرت العادة بأن يسمى سكان البدو أعرابًا, والنسابون يدعون أن الكرد من العرب, فذكر أبو اليقظان أنهم من ولد عمرو بن عامرٍ من الأسد, وادعى بعض الناس أنهم من عامر بن صعصعة, وأنشدوا بيتًا: [الطويل]
لعمرك ما الأكراد أولاد فارسٍ ... ولكنه كرد بن عمرو بن عامر
أي: إن هذا الرجل أفصح الناس, وهو في بلد الأكراد يجرون فيه مجرى الأعراب فيسكنون في البدو, فذلك أعجب لما رزقه من الفصاحة.
وقوله:
وأحق الغيوث نفسًا بحمدٍ ... في زمانٍ كل النفوس جراده
عطف أحق على قوله: أفصح الناس, كأنه قال: وخلق الله أحق الغيوث نفسًا بحمدٍ في زمانٍ أهله كلهم جرادٍ, أي: إنهم من عادتهم أن يضروا النبات ويرعوه ولا منفعة فيهم؛ أي: هذا الممدوح أحق الغيوث بالحمد.
وقوله:
مثل ما أحدث النبوة في العا ... لم والبعث حين شاع فساده
هذا البيت مفسر لما قبله؛ لأن الله - سبحانه - لما كثر الجراد؛ أي: الناس, خلق أحق الغيوث أن يحمد, كما أنه أحدث النبوة لما قلت الديانة وفسد العالم. والبعث من قولهم: بعث الله النبي, وحسن أن يعطف البعث على النبوة لأنه ليس كل نبي مبعوثًا, وكل من بعثه الله نبي فلا يحسن على هذا أن يقال: كل نبي مبعوث, ولكن كل مبعوث نبي. والمبعوث الذي يرسل إلى أمةٍ من الأمم, ولا يحسن أن يكون البعث هاهنا من بعث القيامة الذي هو إحياء للموتى, على أنه قد جاء في الحديث: «أن القيامة تقوم على شر الناس». وإن ذهب إلى ذلك ذاهب فهو غير ممتنع, كأن المعنى يكون مثل ما قدر إحداث النبوة وإحياء الموتى لما شاع فساد العالم. والذي يضعف هذا المذهب أن النبوة قد كانت في العالم والبعث الذي يكون في القيامة لم يكن بعد.
وقوله:
زانت الليل غرة القمر الطا ... لع فيه ولم يشنها سواده
هذا البيت تقوية للأبيات الماضية وبيان لها؛ لأنه جعل الممدوح كالقمر الطالع والعالم كالليل الأسود؛ فالقمر يزين الليل, وسواد الليل لا يشين القمر؛ أي: معايب الناس الذين في زمن ابن العميد لا يلحقه منها شيء, بل هو يزيلها بمكارمه كما يزيل القمر ظلمة الليل.
وقوله:
كثر الفكر كيف نهدي كما أهـ ... ـدت إلى ربها الرئيس عباده
والذي عندنا من المال والخيـ ... ـل فمنه هباته وقياده
فبعثنا بأربعين مهارٍ ... كل مهرٍ ميدانه إنشاده
عدد عشته يرى الجسم فيه ... أربًا لا يراه فيما يزاده
فارتبطها فإن قلبًا نماها ... مربط تسبق الجياد جياده
من شأن الفرس في النوروز والمهرجان أن تهدي إلى ملوكها, فيحمل كل رجل من أصحابه ما أمكن, فمنهم من يحمل الدرع, ومنهم من يجيء بالسيف, وأقلهم هديةً الذي يهدي دينارًا ودرهمًا, فذكر أبو الطيب أنه كثر فكره كيف يهدي إلى الممدوح كما جرت العادة من الأصحاب والأولياء, فإذا الذي في ملكه من المال والخيل وغيرهما من هبات الممدوح فلم يحسن أن يهدي له شيئًا مما وهبه, فأهدى قصيدةً عدد أبياتها أربعون, وشبه البيت بالمهر لأنه يجوز في البلاد, وجاء بشيء لم يهبه له ابن العميد؛ لأن الشعر مما أنشأه أبو الطيب, وجعل الإنشاد ميدانًا للمهر؛ لأن البيت إذا أنشد علم حسن لفظه ومعناه, كما أن المهر إذا أجيل في الميدان عرف حسن خلقه وموضعه في الجري. والميدان ليس أصله عربيًا.
واحتج في كون الأبيات أربعين بحجةٍ لم يعلم أنه سبق إليها؛ وذلك أنه جعل عدة الأبيات كعد الأربعين من السنين التي يرى فيها الإنسان من القوة والشباب وقضاء المآرب ما لا يراه فيما يزاد من السنين, فاعتذر بأحسن اعتذارٍ من أنه لم يزد القصيدة على أربعين في العدة, ثم خرج من الإخبار عن الغائب إلى مخاطبة الممدوح فقال: فارتبطها, فإنها جاءت من مربطٍ تعود ما ربط فيه أن يسبق الجياد.
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
20 أبريل 2024
تعليقات (0)