المنشورات

طوال قنا تطاعنها قصار ... وقطرك في ندًى ووغًى بحار

وهي من الوافر الأول.
يقول للمدوح: طوال قنا تطاعن فرسانها قصار, وليس هذا وصفًا لها بالقصر, ولكنه يريد أنها وإن كانت طوالًا فهي قصيرة عند رماحه, ولولا مجيء النصف الثاني وتبيينه المراد بالنصف الأول لاحتمل أن يكون قوله طوال قنا خبر مبتدأٍ محذوف كأنه قال: هذه طوال قنًى, وذلك كثير جدًا, ومنه قول القطامي:
أمور لو تدبرها حليم ... إذًا لنهى وهيب ما استطاعا 
أي: هذه أمور, وتلك أمور. وقطرك: جمع قطرةٍ, ولا يحسن أن يجعل القطر هاهنا مصدر قطر يقطر قطرًا؛ لأنه قار بحار, وأخبر عن الجمع بالجمع.
وقوله:
وأخذ للحواضر والبوادي ... بضبطٍ لم تعوده نزار
أخذ: من قولهم: فلان يأخذ نفسه بالمكارم وبالفعل الأجمل؛ أي: يرفع نفسه عن الدنايا. وضبط: مصدر ضبط يضبط. وقالوا: أسد أضبط, ولبؤة ضبطاء, وكذلك يقولون لكل من يعمل بيديه؛ لأن ذلك تفضيل له على من يعمل بيمينه ما لا يعمل بشماله. قال تأبط شرًا:
كأن الذي يأوي إلي بنفسه ... يلوذ بضبطاء الذراعين مشبل
وأصل الضبط باليد, ثم اتسعوا فيه فقالوا: فلان يضبط ما يحفظ؛ أي: لا ينساه, والسلطان يضبط الرعية؛ أي: يسوسهم ويكف بعضهم عن بعضٍ, وليس هـ نالك ضبط باليد, وإنما هو بالرأي والتدبير, فلما كان يفتقر في السياسة إلى أيدي الأصحاب جعل كأنه يضبط بيديه. وقالوا في المثل: «أضبط من ذرةٍ وأضبط من نملةٍ»؛ لأنها تجر ما تصغر عنه. وقالوا: هو أضبط من عائشة بن عثمٍ, وهو رجل من سعد بن زيد مناة بن تميم وقف على بئرٍ ليسقي إبله فازدحمت الإبل على فم البئر فهوت منها بكرة. وكان أخوه قد نزل لينظر ما شأن الماء, فصاح إليه أخوه: الموت؟ فقال: ذلك إلى ذنب البكرة, وكان قد ضبط ذنبها؛ فيقال: إنه أخرجها من البئر, وسلم أخوه.
وقوله:
تشممه شميم الوحش إنسًا ... وتنكره فيعروها نفار
يقول: ضبطك للرعية ما تعودت نزار مثله؛ لأنها كانت لا تدين للملوك, ولا تذعن لها بالطاعة, فهي تشمم هذا الضبط كما تشمم الوحش الأنيس, فإذا علمت أنهم إنس نفرت منهم. يقال: شممت وشممت, والكسر أفصح, قال الراجز:
يابن هشامٍ عصر المظلوم ... أشكو إليك جنف الخصوم
وشمةً من شارفٍ مزكوم ... قد خم أو زاد على الخموم
شممتها فكرهت شميمي
فأما ما قول الآخر:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
فيجوز أن يكون شميم مصدرًا, وفعيلًا في معنى مفعولٍ, مثل: ذميمٍ في معنى مذمومٍ.
وقوله:
فأقرحت المقاود ذفرييها ... وصعر خدها هذا العذار
جعل نزارًا كالدابة التي كانت غير مطيعةٍ القائدين, فلما كلفها الممدوح ذلة القود أقرحت المقاود ذفرييها؛ أي: جعلت فيهما قرحًا.
والذفريان: تثنية ذفرى, وهي معقد العذار من الفرس, يستعمل للإنسان والخيل والإبل, قال ذو الرمة:
والقرط في حرة الذفرى معلقة ... تباعد الحبل منه فهو يضطرب
وقال عنترة:
ينباع من ذفرى غضوبٍ جسرةٍ ... زيافةٍ مثل الفنيق المكدم
ويقال: إن اشتقاق الذفرى من الذفر, وهي الرائحة الكريهة والطيبة, وسميت بذلك لأن عرق الإبل ينتح من الذفاري, وليست رائحته بالطيبة. وصعر خدها: أي جعل فيه صعرًا, وهو الميل.
وقوله:
وغيرها التراسل والتشاكي ... وأعجبها التلبب والمغار
يقول: طمعت هذه القبيلة فغيرها عما يعهد أن بعضها راسل بعضًا, واشتكى إليه ما يلقاه من الذل, فحثها ذلك على المخالفة. والتلبب: التحزم لشهود الحرب, قال الشاعر:
إني أحاذر أن تقول ظعينتي ... هذا غبار ساطع فتلبب
وقيل: المتلبب: الذي يلبس اللبابة, وهي شبيهة بالصدرة. والمغار: مصدر أغار.
وقوله: (72/ب)
وكنت السيف قائمة إليها ... وفي الأعداء حدك والغرار
فأمست بالبدية شفرتاه ... وأمسى خلف قائمه الحيار
يقول: كنت السيف تقاتل عن هؤلاء القوم لما كانوا في طاعتك, ومن شأن من معه سيف أن يكون قائمه إليه وفي كفه, وهو نحو من قول الأول:
نقاسمهم أسيافنا شر قسمة ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها
وإذا قيل: إن الغرار الحد, حمل على أنه كرر المعنيين لاختلاف اللفظ, وقيل: الغرار ما بين حد السيف وعيره, فإذا أخذ بهذا القول فقد سلم من التكرير. يقال: وضع الشيء على غرار واحدٍ؛ أي: على طريقةٍ معلومة. يقول: لما خالف هؤلاء القوم زالت هيئة السيف عما كانت عليه, وإنما يزيد بالسيف الممدوح. فأمست بالبدية شفرتاه, كأن هذه العرب كانت نازلةً بالبدية. وأمسى خلف قائمه الحيار: كأنه جعل سيف الدولة في هذا الموضع الذي خلفه الحيار.
وقوله:
وكان بنو كلابٍ حيث كعب ... فخافوا أن يصيروا حيث صاروا
يقول: كانت بنو كلاب تحت ظل الممدوح, وفي ذراه مع كعب هذه, فخافت أن تصير بمنزلة بني كعبٍ قد عدت في الأعداء, وخشيت أن تطرد كما طردت كعب.
وقوله:
فأقبلها المروج مسوماتٍ ... ضوامر لا هزال ولا شيار
مسومات: يحتمل أن تكون معلماتٍ من السيمة, وهي العلامة, وأن تكون من سومت المال إذا أخليته في الرعي. والشيار: السمان, ولا واحد لها من لفظها, وهي مشتقة من الشارة, وهي حسن الهيئة؛ لأن الخيل إذا سمنت حسنت في الأعين, ومن الأمثال: «قال: أرني حسنًا, قال: أريك سمينًا». واستعمل في هذا الموضع لا النافية المبنية مع الاسم, وليس هي متحققة بهذا المكان, ولولا الضرورة لكان أولى من ذلك أن يقول: لا هزالًا فيها ولا شيارًا, فيجعلها محمولةً على قوله: ضوامر, وإنما حمله على قوله: لا هزال فيها ولا شيار فهذا أسوغ من قراءة السلمي: {لا ذلوا تثير الأرض}. وقال عمرو بن معدي كرب في الشيار: [الطويل]
أعامر لو كانت شيارًا جيادنا ... بتثليث ما ناصيت فيها الأحامسا
وقوله:
تثير على سلمية مسبطرا ... تناكر تحته لولا الشعار
سلمية: بناء مستنكر, ولا ريب أنه أعجمي. ومسبطرًا: أي: غبارًا ممتدًا, يقال:
اسبطر في طريقه إذا امتد, قال ابن ربيعة: [المنسرح]
قالت لها قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرت تمشي على أثري
يقول: هذه الخيل تناكر تحت هذا العجاج المسبطر؛ أي: لا يعرف بعضها بعضًا, وإنما يعني الفرسان, لولا الشعار الذي قد جعلوه علامةً بينهم.
وقوله:
عجاجًا تعثر العقبان فيه ... كأن الجو وعث أو خبار
جعل العجاج ينعقد حتى تعثر به العقبان وهي تطير في الهواء. والجو: ما بين السماء والأرض. والوعث: أرض سهلة تسوخ قدم الماشي فيها, فيناله من ذلك تعب, والخبار: نحو من الوعث إلا أن فيه شقوقًا وجحرةً, ومن الوعث قالوا: وعثاء السفر؛ أي: ما يشق على المسافر منه ويصيبه من النصب والمرض, ومنه قول الكميت: [الطويل]
فأين ابنها منا ومنكم وبعلها ... خزيمة والأرحام وعثاء حوبها
وقوله:
يشلهم بكل أقب نهدٍ ... لفارسه على الخيل الخيار
يقال: شله يشله شلًا وشللًا إذا طرده, ومنه الشلة, وهي نية القوم حيث انتووا؛ لأنها تطردهم من الدار التي كانوا فيها, قال الهذلي: [الوافر]
فقلت تجنبن سخط ابن عمي ... ومطلب شلةٍ وهي الطروح
والأقب: الفرس الذي قد لحق بطنه بأيطليه, لفارسه الخيار على الخيل؛ أي: ما شاء فعل بها وبالفرسان, أي: إن أراد أن يلحق لحق, وإن شاء أن يطعن فهو مقتدر على الطعن.
وقوله:
وكل أصم يعسل جانباه ... على الكعبين منه دم ممار
يعسل: أي: يضطرب, يوصف بذلك الرمح والذئب, وربما قالوا: عسل للثعلب. قال ساعدة بن جؤية الهذلي: [الكامل]
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
والكعبان: أراد بهما الكعب الأعلى (73/أ) والكعب الأسفل؛ لأنه قد طعن به وسال عليه الدم حتى عم كعوبه كلها. كما يقال: غسل الرجل قدمه ورأسه؛ أي: غسل جسده كله؛ لأن الرأس والقدم طرفا الجسد فدلا على جميعه في اللفظ. وممار: أي: مجرًى من قولك: مار يمور, وأماره غيره؛ أي: حمله على المور, ويقال: مار إذا ذهب وجاء.
وقوله:
يغادر كل ملتفتٍ إليه ... ولبته لثعلبه وجار
ثعلب الرمح: ما يدخل منه في جبة السنان. والوجار فيه لغتان: فتح الواو وكسرها.
وقال بعضهم: الوجار ما كان في السهل, وما كان في الجبل فهو الغار. ويستعملون الوجار للضبع وما دونها, مثل الثعلب والأرنب ونحوهما. أي يطعن بهذا الرمح لبة الرجل إذا التفت فيدخل ثعلبه فيها فيصير كالوجه للثعلب من الوحوش.
وقوله:
وإن جنح الظلام انجاب عنهم ... أضاء المشرفية والنهار
يقال: جنح من الليل وجنح, وهو وقت طويل, قيل: إنه نحو النصف, وإنما هو مأخوذ من جنح إذا مال, كأن بعض النجوم تجنح فيه للمغيب, وجنح النهار إذا مال, وكذلك جنحت الشمس. وانجاب: أي: انكشفت وانخرق.
وقوله:
يبكي خلفهم دثر بكاه ... رغاء أو ثؤاج أو يعار
الدثر: المال الكثير. والرغاء يستعمل للإبل, وكأنه صوتها عند الضجر والسأم, فقد استعمل جرير الرغاء للضباع فقال: [الطويل]
تراغيتم يوم الزبير كأنكم ... ضباع بذي قارٍ تمنى الأمانيا
وكان مجاشع بن دارم يلقب أبا رغوان, ويقال: إنه وقف بباب ملكٍ من ملوك العرب فلم يؤذن له فرغا كما يرغو البعير حتى سمعه الملك, فذكر جرير ذلك فقال: [الطويل]
بسيف أبي رغوان سيف مجاشعٍ ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
وقالوا في المثل: «كفى برغائها مناديًا» , يضرب مثلًا للرجل يبدو منه أمر فيدل على ما في نفسه من الأرب.
والثؤاج: أصوات الضأن, واليعار: أصوات المعز.
يقول: مال هؤلاء القوم كالذي يبكي خلفهم؛ لأنهم كانوا يحسنون إليه ويمنعونه من الوحش وغيرها من الطوارق. ولو ذهب ذاهب إلى أن في هذا البيت ذما لأصحاب المال لم يبعد ذلك؛ أي: أنهم كانوا لا يبذلونه ولا ينحرونه للضيفان, فقد أسف على فقدهم.
ويقال لجديٍ يصلى به للأسد أو للذئب: يعر؛ لأنه ييعر. وإنما يريدون أن يسمع الأسد صوته فيجيء ليأخذه فيقع في الزبية, قال البريق الهذلي:
فلا أعرفن الشيخ يثوي خلافهم ... مقيمًا بأبياتٍ كما ربط اليعر
وقوله:
غطا بالغنثر البيداء حتى ... تخيرت المتالي والعشار
غطا: مثل غطى, وأكثر ما يقولون: غطا عليه يغطو, ويغطي, وأنشد الأصمعي:
ومن عجائب خلق الله غاطية ... يخرج منها ملاحي وغربيب
يريد شجرة عنبٍ قد غطت أغصانها على الأرض. قال حسان:
رب حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطا عليه النعيم
والمتالي: جمع متليةٍ, وهي التي خلفها ولد يتلوها, قال الشاعر: [البسيط]
فصادف السيف منها ساق متليةٍ ... جلسٍ فصادف منه عظمها عطبا
ويروى: ساقها. والعشار: جمع عشراء, وهي التي أتت عليها عشرة أشهر منذ حملت, ثم يبقى عليها هذا الاسم إلى أن تنتج. وقالوا في جمع عشار: عشائر, وهو قليل. يقول: كثر هذا المال على سائقيه حتى تخيروا المتالي والعشار, وتركوا غيرها من صغار المال وحواشيه.
وقوله:
ومروا بالجباة يضم فيها ... كلا الجيشين من نقعٍ إزار
الجباة: اسم موضع, وهي مأخوذة من جبوت الماء وجبيته إذا جمعته في الحوض. ويقال لما اجتمع فيه: الجبى, ولما حول الماء جبا. وقال قوم: هما سواء, ومن قال في الكمأة كماة جاز عنده أن يقول للجبأة, وهي ضرب من الكمأة جباة, وليس ذلك بمطردٍ عند سيبويه.
وكلا الجيشين: لم يحتج أن يظهر في كلا ياءً لأجل النصب؛ لأنهم يفعلون ذلك في المضمر خاصة, فيقال لقيني كلا الرجلين, ولقيت كليهما, ومررت بكليهما. ومنهم من يقول: ضربت كلاهما, ومررت بكلاهما, فيقر على حالة واحدة. ويجب أن يكون هذا مذهب من يقول: جاءني أباه, ومررت بأباه. والنقع: الغبار, وإنما يقال له نقع إذا ارتفع.
وقوله:
وجاؤوا الصحصحان بلا سروجٍ ... وقد سقط العمامة والخمار
(73/ب) الصحصحان: هاهنا موضع بعينه. وكل أرض واسعة يقال لها: صحصح وصحصاح وصحصحان, ومنه البيت المروي لتأبط شرًا: [الوافر]
بأني قد لقيت الغول تهوي ... بمرتٍ كالصحيفة صحصحان
وقال الراجز: [الرجز]
تركته بالصحصح الصحصاح ... مجدلًا للقدر المتاح
يقول: هؤلاء القوم قد طردوا طردًا شديدًا, فالرجل قد طرح سرجه ليخفف عن فرسه, وقد سقطت العمائم عن الرؤوس لشدة السير, والخمر عن رؤوس النساء, وهم للذعر لا يتلبثون لأخذ عمامةٍ ولا خمارٍ.
وقوله:
وأرهقت العذارى مردفاتٍ ... وأوطئت الأصيبية الصغار
أرهقت: أي: أعجلت, ويكون الإرهاق في معنى الإدراك والغشيان, ومنه قوله تعالى: {سأرهقه صعودًا}؛ أي: سأغشيه. يقول: أردفوا النساء للعجلة وخوف اللحاق, والأصيبية: تصغير صبيةٍ, وهذا أقيس الوجهين, وفي الحديث: «ما تقول للأصيبية الصغار» , وقد قالوا: صبية في معنى التصغير, قال الراجز: [الرجز]
صبيةً على الدخان رمكا ... ما إن عدا أكثرهم أن زكى
أي: مشى مشيًا متقارب الخطو, وهو الزكيك, والقياس أن يقال: أصبية في الجمع إلا أنه مفقود في الكلام الأول. يقول: قد ألقيت الأصيبية من الفرق وإيثار النجاء, فهم يوطؤون. وفي هذا الكلام حذف, كأن أصله أن يقال: وأوطئت الأقدام الأصيبية أو حوافر الخيل وأخفاف الإبل. يقال: وطئ الرجل وأوطأه غيره, ولو ظهر المفعول المحذوف لكان الوجه أن تنصب الأصيبية؛ لأن المعنى أوطئت الأقدام الأصيبية, قال زيد الخيل: [الرمل]
عودوا مهري كما عودته ... دلج الليل وإيطاء القتيل
وقوله:
وقد نزح العوير فلا عوير ... ونهيا والبييضة والجفار
هذه كلها أسماء مواضع, يقال: نزحت البئر ونزحها غيرها, وأكثر ما يجيء كلامهم على أن يقولون: فعل الشيء وأفعله غيره, مثل خرج الرجل وأخرجته, ودخل وأدخلته, فإذا جاء فعل وفعلته فهو قليل, مثل ذرف الدمع وذرفته, وسجم وسجمته. والعوير هذا: هو الذي ذكره القطامي في قوله:
حتى وردن ركيات العوير وقد ... كاد الملاء من الكتاب يشتعل
والبييضة: اسم ماءٍ يجوز كسر الباء وضمها, وكذلك كل مصغرٍ بعد حرفه الأول ياء, مثل بييضةٍ وبييتٍ. والجفار هاهنا: مياه معروفة, وهم يستعملون الجفر في البئر التي لم تطو وماؤها قليل, قال حاتم الطائي: [الكامل]
وسقيت بالماء النمير ولم ... أترك ألاطس حمأة الجفر
وقوله:
وليس بغير تدمر مستغاث ... وتدمر كاسمها لهم دمار
الدمار: الهلاك. وتدمر يقال: إنها بنتها امرأة من العماليق يقال لها: تدمر. وادعى النابغة أن سليمان بن داوود أمر الجن أن تبنيها, فقال:
وخيس الجن أني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
وقوله:
أرادوا أن يديروا الرأي فيها ... فصبحهم برأيٍ لا يدار
يقال: أدار القوم بينهم الرأي إذا اجتمعوا فتشاوروا فذكر كل رجلٍ منهم ما عنده؛ فكأنهم يديرونه عليهم, ثم يجمعون على أصحه عندهم. فأراد أن هذا الممدوح لا يفتقر إلى إدارة الرأي؛ وإنما يفعل رأي نفسه الذي لا يشاور أحدًا فيه؛ لأنه غني بالفطنة والحزم.
وقوله:
وجيشٍ كلما حاروا بأرضٍ ... وأقبل أقبلت فيه تحار
جعل المطلوبين يحاورن في الأرض الواسعة, فإذا أقبل الجيش حارت فيه الأرض, وهذه من الدعوى المستحسنة في الشعر, وليست لها صحة في الحقيقة, ولنكه يريد أن الجيش عظيم, فهذه الأرض تصغر عنده فتكون كالحيرى في كثرته, ومن الحيرة قالوا: مال حير؛ أي: كثير, كأن الذي يراه يحار, قال الراجز:
ياربنا من سره أن يكبرا ... فسق له يارب مالًا حيرا
وقوله:
يحق أغر لا قود عليه ... ولا دية تساق ولا اعتذار
يقول: هذا الممدوح إذا قتل قومًا فلا قود عليه؛ لأنه أعز من ذلك, وظاهر اللفظ يحتمل أن يكون القود على نفس الممدوح. والأحسن في معاني الشعر أن تكون جنوده إذا قتلوا لم يطالبه أعداؤه بأن يقيدهم (74/أ) , ولا يحمل عن القاتلين ديةً ولا يعتذر مما صنع.
وقوله:
تريق سيوفه مهج الأعادي ... وكل دمٍ أراقته جبار
يقال: دم جبار وهدر وفرغ وطلف وظلف بمعنى. قال الأفوه: [الرمل]
حكم الدهر علينا أنه ... طلف ما نال منا وجبار
وفي الحديث: «العجماء جبار»؛ أي: إذا أصابت شيئًا فقد أهدر, وإنما قيل للدم المطول جبار لأنه أمر يتهاون به, فكأن من أصابه ذلك يقدر على جبر مصيبته فلا يعطى العقل ولا القود.
وقوله:
فكانوا الأسد ليس لها مصال ... على طيرٍ وليس لها مطار
يقول: هؤلاء القوم كأنهم أسد في الشجاعة, والأسد من عوائدها الصولة, وهذه لا تقدر أن تصول؛ لأنها مقهورة.
وقوله: على طيرٍ؛ أي: على خيلٍ مثل الطير, وليس لها مطار؛ أي: لا تقدر على الطيران؛ لأن خيل الممدوح قد أحاطت بهم.
وقوله:
تفرقهم وإياه السجايا ... ويجمعهم وإياه النجار
السجايا: جمع سجيةٍ, وهي الخليقة التي يدوم عليها الرجل, وأصل السجو السكون, ومنه: سجا الليل, وناقة سجواء إذا كانت تسكن عند الحلب. والنجر والنجار والنجار: الأصل. وربما استعملوا النجار في معنى اللون, وقالوا في المثل: «كل نجار إبلٍ نجارها» , فهذا يحتمل أن يكون من الأصل ومن اللون, فإذا ذهب إلى الأصل فالمعنى أنها إبل من كل أصول الإبل, فيها الجدلي والشل قمي والغريري وغير ذلك, وإذا حمل على اللون فالمعنى أن فيها ألوانًا مختلفةً, ففيها الصهب والعيس والدهم والرمك وجميع الألوان, وأراد أن هذه العرب التي هي من كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة يجمعهم والممدوح نزار بن معد؛ لأن هؤلاء من مضر, والممدوح من ربيعة بن نزارٍ, وربيعة ومضر أخوان.
وقوله:
ومال بها على أركٍ وعرضٍ ... وأهل الرقتين لها مزار
أرك وعرض من المناظر, فأما بيت النابغة فيروى على وجهين: [البسيط]
وهبت الريح من تلقاء ذي أركٍ ... تزجي مع الليل من صرادها صرما 
فيروى: أرل باللام, وأرك بالكاف. والرقة: أرض يركبها الماء ثم يزول عنها, وبذلك سميت الرقة, ولم تجئ في الشعر القديم, وإنما هي اسم محدث في الإسلام, إلا أنه عربي اللفظ.
وقوله:
وأجفل بالفرات بنو نميرٍ ... وزأرهم الذي زأروا خوار
يقال: جفل الرجل وأجفل, وكذلك غيره من البهائم, إذا نفر من ذغرٍ, قال الهذلي:
ومعي لبوس للبئيس كأنه ... روق بجبهة ذي نعاجٍ مجفل
ويقال: جفلت الريح السحاب إذا سفرته. ويقال للسحاب الذي تفعل به الريح ذلك: جفل, وإذا وصفوا الشيء بالكثرة قالوا: جفال. وهذا البيت يروى لذي الرمة: [الوافر]
وأسود كالأساود مسبكرًا ... على المتنين منسدلًا جفالا
والزأر: مخصوص به الأسد, ثم استعير لبني آدم؛ لأنها يشبهون بالأسد. قال النابغة: [البسيط]
نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأرٍ من الأسد
والخوار من أصوات الثيران, يقول: فهم بعد أن كانوا يزئرون كزأر الأسد يخورون كخوار الثيران.
وقوله:
فلم يسرح لهم في الصبح مال ... ولم توقد لهم في الليل نار
يقال: سرح المال في الرعي إذا أرسله فيه. والسرح المال الراعي, والمال يقع على جميع ما يملك من الآدميين وغيرهم, إلا أن العرب اصطلحت على أن تسمي ما يكون معها من الإبل والغنم مالًا, وقالوا: رجل مال؛ أي: كثير المال.
يقول: لم يسرح لهم مال في النهار؛ لأنهم يخافون أن تغير عليهم الخيل, ولم توقد لهم نار؛ لأنهم يخافون أن يوقدوها فيستدل بوقودها عليهم, فهذا وجه, ويجوز أن يكون وصفهم في هذا البيت بالفقر لأن عدوهم أخذ مالهم فلم يبق لهم شيء من ذلك يسرح, ولم توقد نارهم ليلًا إذ كانت النار يستعان بها على الطعام, وتوقد للاختباز ولإطباخ, وهم لا يقدرون على شيء من ذلك, وهذا البيت يحتمل الوجهين الماضيين إذا لم يتله البيت الذي بعده فإذا جاء دل على ان تركهم ذلك من الفرق لا من الفقر.
وهو قوله:
هم ممن أذم لهم عليه ... كريم العرق والحسب النضار
العرق يستعمل في بني آدم والشجر والنبات. فيقال: فلان كريم العرق؛ أي: أصله موصوف بالكرم, والمعنى: إذا لم يرض عنهم فليس بنافعٍ لهم جدودهم. قال الهذلي في صفة امرأةٍ: (74/ب)
صناع بإشفافها حصان بشكرها ... جواد بقوت البطن والعرق زاخر
أراد بالعرق الأصل؛ أي: هي كريمة الآباء, فكأن عرقها يزخر؛ أي: يرتفع كما يزخر البحر. وقال امرؤ القيس:
إلى عرق الثرى وشجت عروقي ... وهذا الموت يسلبني شبايي
وقالوا في الجميع القليل: أعرق, وقال الراجز:
نحن ضربنا الأسد في العراق ... والحي من ربيعة المراق
بلا معوناتٍ ولا أرزاق ... إلا بقايا كرم الأعراق
ضربًا يزيل صعر الأعناق والنضار: الخالص من كل شيءٍ, فأما الذهب فأكثر الناس يضم النون, وقد حكي النضار بكسر أوله, ويجوز أن يكون جمع نضرةٍ, ويسمون الخلنج نضارًا؛ لأنهم كانوا يستحسنونه, قال أبو ذؤيب:
وسود من الصيدان فيها مذانب ... نضار إذا لم نستفذها نعارها
وقوله:
تخر له القبائل ساجداتٍ ... وتحمده الأسنة والشفار
هذا مثل قوله في الأخرى:
يذممن منه ما الأسنة تحمد
والأسنة لا تحمد في الحقيقة, وكذلك الشفار, ولا يصيبها نفع من الممدوح, بل مضرتها به متصلة؛ لأن السنان ينحطم وكذلك السيف, ولكنه أراد أنه إذا طعن بالسنان أو ضرب بالسيف أثر أثرًا يحمد عليه, فكأن الأسنة والشفار أدته إلى أن يحمد.
وقوله:
كأن شعاع عين الشمس فيه ... ففي أبصارنا عنه انكسار
هذا معنى يتردد إلا أنه يختلف به المراد, فهو ها هنا واقع لأجل الهيبة, أو يكون ادعى له أن وجهه منير كإنارة الشمس. فأما قول الآخر:
إذا أبصرتني أعرضت عني ... كأن الشمس من قبلي تدور
فإنما يريد أنه يبغضه فلا يستطيع أن ينظر إليه.
وقوله:
يوسطه المفاوز كل يومٍ ... طلاب الطالبين لا الانتظار
المعنى أن هذا المذكور يتوسط المفاوز في طلب أعدائه, ولا يتوسطها ينتظر غنيمة كما تفعل البادية؛ لأنها يكمنون في المفاوز لتجوز الرفق فيصيبوا منها فائدةً, فقد ذكر وصفين هما للمدوح تقريظ, وهو أنه لا يستتر لينال غنمًا كفعل الأعراب, ولا ينتظر أن تمر به حمولة التجار, والصفان كلاهما ذم لهؤلاء القوم؛ لأنه عرض بهم تعريضًا خفيًا.
وقوله:
تصاهل خيله متجاوباتٍ ... وما من عادة الخيل السرار
هذا البيت مفسر لما قبله؛ لأنه ذكر أن خيل هذا الأمير يجاوب بعضها بعضًا بالصهيل. والبادية إذا كمنوا للغارة أو لقطع السبيل منعوها من أن تصهل؛ لئلا يسمع صهيلها من يلتمسون, فيكون ذلك نذيرًا له, فيضربونها تارة, وربما شدوا ألسنها لئلا تصهل, قال الشاعر: [المتقارب]
إذا الخيل صاحت صياح النسور ... حززنا شراسيفها بالجذم
أي: ضربناها بالسياط لئلا تصهل, وقال الآخر:
ندني الجياد لأفلائها ... إذا ما استرقن إليها الصهيلا
وقوله:
بنو كعبٍ وما أثرت فيهم ... يد لم يدمها إلا السوار
بها من قطعه ألم ونقص ... وفيها من جلالته افتخار
ضرب المثل للمدوح وبني كعب بالسوار واليد؛ أي: أن سيف الدولة بالألم الذي أصابهم منه كالسوار الذي أدمى اليد فقد نالها منه ألم, ولها مع ذلك افتخار لتحليها به.
وقوله:
لعل بنيهم لبنيك جند ... فأول قرح الخيل المهار
يقال لولد الفرس إذا نتج: مهر, ثم يبقى عليه هذا الاسم إلى أن يركب, ويقال للأنثى: مهرة, ولا تزال توصف بذلك مادامت فتيةً, ويقال في الجمع القليل: أمهار, وفي الكثير:
مهار, وإذا جمعوا المهرة على حد جمعهم الظلمة فالأجود مهرات بضم الهاء كما تقول: ظلمات, ويجوز الفتح والتسكين في الهاء, وإذا حملت على أنهم يقولون مهر مثل ظلمٍ ثم جمعوا الجمع فالفتح لا يجوز غيره. وقالوا: فرس ممهر؛ إذا كان في بطنها مهر, وقالوا لولد الحمار الوحشي مهر أيضًا, قال عدي بن زيدٍ: [المدريد]
في مصاب الغاديات له ... لقح لم تفل أمهارا








مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید