المنشورات
حاشى الرقيب فخانته ضمائره ... وغيض الدمع فانهلت بوادره
وهي من أول البسيط.
حاشى: من المحاشاة, وهي أن يظهر للرجل غير ما في نفسه. وفي (حاشى) ضمير يرجع إلى المحب. وحسن ذلك لعلم السامع بالمراد. والهاء في ضمائره عائدة على المحب, وغيض الدمع مأخوذ من غاض الماء إذا غاب في الأرض. قال جرير: [الكامل]
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
يقول: حاشى المحب رقيبه فخانته ضمائره؛ لأنه لم يستطع أن يكتم ما به لما انهل دمعه.
وقوله:
لولا ظباء عدي ما شقيت بهم ... ولا بربرهم لولا جآذره
قد كثر كناية العرب بالظباء عن النساء, وأصل ذلك التشبيه, ثم حذفت الآلة. والربرب القطيع من بقر الوحش. وجآذره أولاده, والواحد جؤذر وجؤذر, ويقال: إن أصله ليس بعربي فأما تردده في الشعر فكثير, قال ذو الرمة: [الطويل]
وتحت العوالي والظبا مستظلةً ... ظباء أعارتها العيون الجآذر
وقال ابن أبي ربيعة: [الطويل]
وترنو بعينيها إلى كما رنا ... إلى ظبيةٍ وسط الخميلة جؤذر
وقوله:
من كل أحور في أنيابه شنب ... خمر مخامرها مسك تخامره
أصل الحور: البياض. ومن ذلك اشتق الحوارى من الطعام, وقيل لنساء الأنصار: حواريات لبياضهن. وقيل للقصارين حواريون؛ لأنهم يحورون الثياب أي يبيضونها. وقال بعض المتقدمين الحور: نقاء بياض العين وشدة سواد سوادها.
وقال بعضهم: الحور لا يكون في بني آدم, وإنما يكون في الوحوش, وهو أن تكون العين كلها سوداء, وإنما وصفت النساء بذلك على التشبيه والمبالغة.
وقال قوم: الحور سعة العين وعظم المقلة. ومخامرها؛ أي: مخالطها. ومسك يجوز أن يكون رفعًا بفعله وهو مخامرته إياها, ويجوز أن يكون مخامرها ابتداءً, ومسك خبره.
وقوله:
نعجٍ محاجره دعجٍ نواظره ... حمرٍ غفائره سودٍ غدائره
النعج بياض يضرب إلى الحمرة, قال ذو الرمة: [البسيط]
بيضاء في دعجٍ صفراء في نعجٍ ... كأنها فضة قد مسها ذهب
والمحاجر: جمع محجرٍ, وهو ما حول العين. والدعج: جمع أدعج يستعمل في الليل والشعر والعين. والغفائر: جمع غفارةٍ, وهو شيء توقي به المرأة خمارها من الدهن, وإنما أخذ من الغفارة, وهي سحابة دون السحابة العليا, قال ذو الرمة: [الطويل]
سقى دارها مستمطر ذو غفارةٍ ... أحم تجرى منشأ العين رائح
وقوله:
في فيلقٍ من حديدٍ لو قذفت به ... صرف الزمان لما دارت دوائره
الفيلق: إذا أريد به العسكر ذكر, وإذا أريد به الكتيبة أنث, ولكن التذكير به أشبه, قال الأعشى: [السريع]
في فيلقٍ جاؤوا بملمومةٍ ... تعصف بالدارع والحاسر
فيحتمل أن يكون قولهم: فيلق من أنه يفلق الصخر إذا مر به, أو يفلق رؤوس الأعداء, ولا يمتنع أن يكون من الفلق الذي هو الداهية, وإنما سميت الداهية فلقًا؛ لأنها تفلق ما مرت به, فالأصل في هذا كله واحد.
وقوله:
تمضي المواكب والأبصار شاخصة ... منها إلى الملك الميمون طائره
كانت العرب تتيمن بالطير تارة, وتتشاءم بها أخرى, وقد مر ذلك في السانح والبارح.
والظاهر من كلامهم أنهم كانوا يتيمنون بما يجيء عن اليمين, ويتشاءمون بما يجيء عن الشمال, قال الشاعر: (80/ب) [الطويل]
وهون وجدي أنني لم أكن له ... كطير الشمال ينتفق الريش حاتما
فإذا قالوا: فلان ميمون الطائر أرادوا أنه مبارك تأتي من قبله المنافع. وقال الطرماح: [الطويل]
وحي حلالٍ قد هنأنا جربةٍ ... ومرت عليهم طيرنا بأيامن
هنأنا: أعطينا. وجربة: جماعة.
وقوله:
حلو خلائقه شوس حقائقه ... يحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره
أصل الشوس في العين, وهو أن يضيق الرجل أجفانه من الغضب, وقيل: هو الذي ينظر في شق مع تضييق الأجفان, وربما قيل: الأشوس المتكبر, قال ذو الإصبع العدواني: [مجزوء الكامل]
لو كنت ماءً لم تكن ... عذب المذاق ولا مسوسا
أأن رأيت بني أبيـ ... ـك محمجين إلي شوسا
محمجين: مغضبين, وقال الأنصاري: [الكامل]
قد كنت أشوس في المقامة سادرًا ... فنظرت قصدي واستقام الأخدع
والمآثر: جمع مأثرةٍ, ومأثرة, وهي المكرمة التي تؤثر؛ أي: تروى, ويبقي لها أثر من قولهم: أثرت الحديث آثره.
وقوله:
إذا تغلغل فكر المرء في طرقٍ ... من مجده غرقت فيه خواطره
تغلغل في الشيء: إذا دخل فيه, ومنه قولهم للرسالة: مغلغلة؛ أي: إنها تدخل بين القوم, قال زهير:
أبلغ لديك بني كعبٍ مغلغلةً ... أن يسارًا أتانا غير مغلول
وقيل للقصيدة التي تنفذ إلى الممدوح: مغلغلة؛ أي: كأنها رسالة. قال المسب بن علس: [الكامل]
فلأهدين مع الرياح قصيدةً ... مني مغلغلةً إلى القعقاع
وقوله:
تحمى السيوف على أعدائه معه ... كأنهن بنوه أو عشائره
يقال: حمي أنفه يحمى إذا أنف وغضب, وهو من الحمية, وأصل حمي وحمى واحد, ولكن فرق بينهما في اللفظ, وكأن قولهم: حمي أنفه من قولهم: حميت النار, وحميت الحرب. فأما قول القطامي: [البسيط]
محميةً وحفاظًا إنها شيم ... كانت لقومي عاداتٍ من العادٍ
فيحتمل أن يكون من (حميت أحمي) , وهو أولى به, ولا يمتنع أن يكون من (حميت أحمي)؛ لأنه قد قالوا: محمدة فكسروا, وهو من حمد يحمد.
وقولهك
تركن هام بني بحرٍ وثعلبةٍ ... على رؤوسٍ بلا ناسٍ مغافره
الهاء في مغافره راجعة على هام بني بحرٍ, والمغافر: جمع مغفر, وهي كمة من الزرد تكون على رأس الفارس, وقد جعل الراجز ما يستر الشمس من الغيم مغفرًا, وإنما هو مأخوذ من (غفرت الشيء) إذا غطيته, قال:
جاء الشتاء واربأل القبر
وطلعت شمس عليها مغفر
وجعلت عين الشمال تشكر ولما كانت الجسوم معظم الناس, والرؤوس أقل منها شخوصًا استحسن أن يقول: على رؤوس بلا ناسٍ, ولولا الوزن لكان الواجب أن يقول بلا جسوم, أو بلا أجسامٍ.
وقوله:
حتى انتهى الفرس الجاري وما وقعت ... في الأرض من جيف القتلى حوافره
الجيف: جمع جيفةٍ, وهي من ذوات الواو, كأنها مأخوذة من (جافه يجوفه) إذا أصاب جوفه, ولأن ما قتل أو مات وترك لم يوار فلا بد لباطنه أن يظهر, وقالوا في الجمع: جيف, فلم يردوا الحرف إلى أصله, كما قالوا: ديمة وديم وهي من (دام يدوم). فأما ما حيلة فقد قالوا في جمعها: حيل وحول, قال الراجز:
إنا إذا ما أعيت القوم الحول ... ننسل في ظلمة ليلٍ ودغل
ننسل؛ أي: نعدو, وسميت حوافر الفرس بهذا الاسم؛ لأنها تحفر الأرض, وقالوا في الكلام القديم: «النقد عند الحافر»؛ وذكروا أن أصل ذلك مستعمل في بيع الخيل؛ أي: إن الفرس إذا بيع وجب أن ينقد ثمنه بلا تأخير, وقالوا: النقد عند الحافرة؛ أي: عند أول كلمةٍ, فأما الحافرة في كتاب الله سبحانه فقيل: إنها مراد بها الأرض؛ لأنها يحفر فيها, كما قالوا عيشة راضية؛ أي: فيها رضًى, وهي ذات رضًى. وليل نائم؛ أي: ينام فيه, وقيل: الحافرة: القبر, ويحتملأن يكونوا قالوا للقبر حافرة أي حفر الحافرة يعنون الجماعة التي تحفره, أو الصورة التي تلي ذلك, ويكون من باب حذفهم المضاف. وقالوا: «رجع فلان على حافرته» أي: على الطريق الذي جاء فيه, و «رجع الشيخ على حافرته» إذا نكس في الخلق, وأنشد ابن السكيت: [الوافر]
(81/أ) ... أحافرةً على صلعٍ وشيبٍ ... معاذ الله من سفهٍ وعار
وقوله:
كم من دمٍ رويت منه أسنته ... ومهجةٍ ولغت فيها بواتره
يقال: ولغ الذئب والكلب في الإناء. والمعروف: ولغ يلغ, وحكى ابن درستويه في شرح الفصيح, ولغ, بكسر اللام, وقالوا: غزو كولغ الذئب؛ أي: سريع, قال الشاعر: [الكامل]
لا در در بني كنانة إن هم ... لم يجشموا غزوًا كولغ الذيب
فأما قول أبي زبيد:
تذب عنه كف بها رمق ... طيرًا حكين الزوار للعرس
عما قليلٍ علون جثته ... فهن من والغٍ ومنتهس
فزعم قوم أنه لا شيء من الطير يلغ إلا الذباب, ويجوز أن يكون أبو زبيدٍ استعار الولوغ للطير. فأما ولغ الذباب فقد جاء في الحديث المأثور.
وقوله:
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره ... ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
أصل الهيض: أن يكون في إعنات عظمٍ قد جبر, هكذا أكثر ما يجيء, ثم استعاروا ذلك في صلاح الحال, ثم فسادها. وفي حديث عمر بن عبد العزيز: «فهاضه ذلك إلى ما به» فلم يكن هناك عظم جبر, وإنما أريد أنه كالذي نكس في المرض, وربما جاء: هاضة في معنى كسره وإن يكن ذلك متقدمًا.
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
20 أبريل 2024
تعليقات (0)