المنشورات
بادٍ هواك صبرت أو لم تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
وهو من الكامل الأول.
قوله: لم تصبرا من الضرورات؛ لأن النون لم تجر عادتها أن تدخل في هذا الموضع إلا عن ضرورةٍ قال الراجز: [الرجز]
يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخًا على كرسيه معمما
وقد أدخلوا هذه النون في أشياء هي من الضرورات, وحذفوها في مواضع, وحذفها قبيح, فمن ذلك البيت المنسوب إلى طرفة: [المنسرح]
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسوط قونس الفرس
أراد اضربن. قال الراجز: [الرجز]
من أي يومي من الدهر أفر ... أيوم لم يقدر أو يوم قدر
أراد لم يقدرن, فحذفت النون وبقيت الحركة. وهذا البيت ذكره المفجع في حد الإعراب, وهو قول الشاعر: [البسيط]
إن ابن الاحوص معروف فبلغه ... في ساعديه إذا رام العلى قصر
أراد فبلغنه, ومنهم من يقول فبلغه, بضم الغين, وهذا أقبح من الفتح؛ لأن الغين إنما تضم لأجل ضمة الهاء, والذي يذهب إلى هذا الوجه يحتج بقول الراجز: [الرجز]
عجبت والدهر كثير عجبه ... من عنزي سبني لم أضربه
ألقى حركة الهاء على الباء, ومثله قول طرفة: [المديد]
حابسي ربع وقفت به ... لو أطيع النفس لم أرمه
لما كان يقول في الوصل لم أرمه ألقى حركة الهاء على الميم, وهذا يشبه قولهم في الوقف: هذا بكر ومررت ببكر, ومنه الرجز المنسوب إلى جرير بن عبد الله البجلي:
أنا جرير كنيتي أبو عمر
أجبنًا وغيرةً خلف الستر
قد نصر الله وسعد في القصر
والبيت الذي أنشده المفجع قد ضمت الغين فيه على غير وقف, إلا أنهم يقولون: أجرى الوصل مجرى الوقف. ويجب أن تفتح الراء في جرى كنحو ما تقدم في حيارى.
وقوله:
تعس المهارى غير مهري غدا ... بمصورٍ لبس الحرير مصورا
تعس: كلمة تستعمل في الدعاء, وهي دعوة بأن يلقى المدعو عليه عنتًا وشرًا, يقال: تعس يتعس تعسًا, قال الحارث بن حلزة: [الكامل]
فله هنالك لا عليه إذا ... دنعت أنوف القوم للتعس
وقال الأعشى:
بذات لوثٍ عفرناةٍ إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
والمهارى: جمع مهري, وهو بعير منسوب إلى مهرة بن حيدان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وقوله: بمصورٍ, أي: بشخصٍ صوره الله سبحانه.
وقوله:
نافست فيه صورةً في ستره ... لو كنتها لخفيت حتى يظهرا
نافست: فاعلت من قولهم: نفست عليه بالشيء إذا بخلت. وهم يتنافسون في الشيء إذا كان كل واحد منهم يريده وينفس به على صاحبه, قال أرطأة بن سهية: [الطويل]
نحن بنو عم على ذات بيننا ... زرابي فيها بغضة وتنافس
والهاء في قوله: فيه, راجعة على المصور الذي هو الشخص, ولا يمتنع أن يريد بمصور أنه مصور في قلبه ممثل فيه. وهذا البيت فيه مبالغة عظمة يراد بها شدة النحول. والمعنى أني نفست على هذه الصورة بأن تقرب من ذلك المصور, ولو كنت تلك الصورة لخفيت من نحولي حتى يظهر من قد وارته. ويحتمل أن (82/ب) يكون المراد مقصورًا على صفة نفسه بالنحول, ويجوز أن يضاف إليه إرادته أن يظهر هذا المستور فيراه؛ لأنه قد حجب عنه بالستر.
وقوله:
لا تترب الأيدي المقيمة فوقه ... كسرى مقام الحاجبين وقيصرا
يقول: لا تترب يدك إذا دعي له بأن لا يفتقر, وتربت يداه إذا دعي عليه بالفقر, وأصل ذلك ألا يبقى له مال فلا يجد شيئًا يولع به إلا التراب, ودعا للأيدي التي صورت كسرى وقيصر, وجعلتهما كالحاجبين لهذا الشخص المستور؛ أي: إنه أهل أن يكون هذان الملكان له حاجبين فقد وفقت الأيدي المصورة ذلك, وكأن هذا المعنى ينظر إلى قول الحكمي:
بنينا على كسرى سماء مدامةٍ ... مكللةً حافاتها بنجوم
يريد أن صورة كسرى كانت في الكأس وهو نحو قوله في الأخرى:
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدريه بالقسي الفوارس
وقوله:
تقيان في أحد الهوادج مقلةً ... رحلت وكان لها فؤادي محجرا
إذا روي: تقيان عني بهما الصورتان الممثل بهما كسرى وقيصر, وإن رويت بالياء, فهو أشد مبالغة في وصف الشخص المحجوب؛ لأنه جعل الملكين كأنهما توليا الحجبة لا صورتاهما اللتان لا تحسان.
وقوله:
فإذا السحاب أخو غراب فراقهم ... جعل الصياح ببينهم أن يمطرا
من شأنهم أن يصفوا التفرق والظعن إذا صابت السحب؛ لأنهم يتفرقون لانتجاع الكلأ, ولا يمكن أن يجتمعوا في موضعٍ واحدٍ, بل يؤم كل قومٍ منهم ناحيةً, فادعى الشاعر أن الغراب كأنه أخو السحاب, وأمطاره جارية صياحه بالبين.
وقوله:
وإذا الحمائل ما يخدن بنفنقٍ ... إلا شققن عليه ثوبًا أخضرا
الحمائل: جمع حولة, وهي الإبل الحاملة, وهذه الهاء تدخل في فعولةٍ إذا كانت في معنى مفعولةٍ, مثل قولهم لما يركب: ركوبة, ولما يحلب: حلوبة, ولما يعلف: علوفة, وهو كثير. والنفنف هاهنا: الأرض الواسعة, ويقولون: نفنف الجو: يعنون ما يتسع منه. قال ذو الرمة يصف فرخ العصفور: [البسيط]
وظل للأعيس المزجي نواهضه ... في نفنف الجو تصويب وتصعيد
يقول: هذه الحمائل تمر بالنفنف فتطؤه بأخفافها وترعاه, فكأنها تشق عليه ثوبًا أخضر؛ لأنها ترعى النبت فيبين التراب, وكان كأنه كاسٍ بالنبات.
وقوله:
يحملن مثل الروض إلا أنها ... أسبى مهاةً للقلوب وجؤذرا
لما كانت العرب تشبه المرأة بالروضة, وتقول في أشعارها: ما روضة من صفتها كذا بأحسن منها, كما قال قيس بن الخطيم: [المتقارب]
فما روضة من ريضا القطا ... كأن المصابيح حوذانها
بأحسن منها ولا مزنة ... تكشف بالودق إدجانها
جعلوا المرأة بعينها روضةٍ. قال جران العود, وذكر النساء:
ولسن بأسواء فمنهن روضة ... تجف الرياض نبتها ما يصوح
وأبو طيب لم يأت بالروض إلا على معنى التشبيه؛ لأنه قال: يحملن مثل الروض, ويجوز أن يعني ما عليهن من الملابس وما يجللون به الهوادج من ألوان الثياب, فزعم أنهن يحملن مثل الروض إلا أن هذه المحمولات أسبى مهاةً وجؤذرًا؛ لأن الروض الذي ترتع فيه الظباء وبقر الوحش لا تشغف بظبائها القلوب, ولا يسبين الرجال.
وقوله:
فبلحظها نكرت قناتي راحتي ... ضعفًا وأنكر خاتماي الخنصرا
يقول: لما بليت بحب هذه المذكورة ضعفت راحتي عن حمل قناتي, فأنكر خاتماي خنصري؛ لأن النحول جعلهما لا يثبتان في الخنصر؛ لأنها دقت عما يحتاجان إليه, وهذا نحو من قول الآخر, أنشده ابن الأعرابي:
بحربٍ إذا المرء السمين تلبست ... بأعطافه في الصيف لم يتخيم
أي أن إصبعه يقل لحمها فلا يستمسك فيها الخاتم.
وقوله:
أرجان أيتها الجياد فإنه ... عزمي الذي يذر الوشيخ مكسرا
أي: إذا وقعت على المؤنث جاز أن تدخل عليها الهاء, وجاز ألا تدخل, فيقال: أيتها المرأة وأيها المرأة, وكذلك أيتها الجياد وأيها الجياد. والهاء في أنه واقعة على الأمر والشأن.
ومثله قوله جل اسمه: {إنه من يأت ربه مجرمًا}.
والكوفيون يسمون هذا الضمير المجهول, ويحسن إذا ذكر بعد هذه الهاء مذكر, أن يذكر الضمير, وإذا ذكر بعده مؤنث أن يؤنث, فيقال: إنه (83/أ) جملك جمل ظهير, وإنها ناقتك ناقة ظهيرة, ولو استعمل في كل واحدٍ من الموضعين ما يستعمل في الآخر لجاز على أن يحمل إذا أنث على القصة والكائنة, وإذا ذكر على الخبر والشأن.
وقوله:
لو كنت أفعل ما اشتهيت فعاله ... ما شق كوكبك العجاج الأكدرا
يخاطب الخيل, ويقول: لو كنت أفعل ما تؤثرين من الراحة والدعة لأقمت, ولم أكابد السفر, ولم يشق كوكبك العجاج, واستعار الكوكب للخيل, ويقال لمقدمة الكتيبة كوكب, ويجوز أن يعني بالكوكب نفسه؛ لأنه يفتخر كثيرًا بالحرب, وإيثاره لقاء الأعداء.
وقوله:
أمي أبا الفضل المبر أليتي ... لأيممن أجل بحرٍ جوهرا
يقال: أبررت القسم: إذا لم تحنث فيه. والألية اليمين, يقال: ألية على مثال فعيلةٍ, وألوة وألوة وإلوة. وقلما يجمعون الألية, وقاسها أن يقال في تكسيرها: ألايا, وإذا قالوا: ألوة فقياس جمعها في التكسير إلاء مثل: قشوةٍ وقشاء. وإذا قيل: ألوة فقياسها ألى مثل: رشوةٍ ورشًى, وإذا قيل إلوة فالقياس إلى مثل: عدوةٍ وعدًى. وبيت ذي الرمة يحتمل الوجهين:
قليلًا كتحليل الولى ثم شمرت ... بنا كل فتلاء الذراعين ضامر
وقوله: لأيممن أجل بحرٍ جوهرا: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون قال النصف الأول فتم الكلام, ثم ابتدأ اليمين, فلا يكون للنصف الثاني تعلق بالنصف الأول من قبل موضع الإعراب.
والآخر: أن يكون قوله: لأيممن وما بعده: مفسرًا للألية, فيكون موضعه نصبًا على البدل منها, والجوهر الذي يراد به ما يخرج من البحر, وما يجري مجراه في النفاسة, مثل الياقوت والزبرجد, يقال: إنه ليس بعربي, ولو حمل على أنه من كلام العرب لكان الاشتقاق دالًا عليه لأنهم يقولون: فلان جهير؛ أي: حسن الوجه والظاهر, فيكون الجوهر من الجهارة التي يراد بها الحسن, وإلى هذا الوجه يرجع ضد السر؛ لأنه يكشف ويعلم كما تعلم جهارة الوجه.
وقد استعملت الجوهر طوائف من المتقدمين والمحدثين في صناعة الكلام. فالمتقدمون يجعلون الشخوص جواهر, ويقولون: العقل هو جوهر بسيط؛ أي: هو لطيف خفي, والمعتزلة يقولون: هو جزء لا يتجزأ, وربما قالوا: ما استبد بصفة التحيز.
وقوله:
أفتى برؤيته الأنام وحاش لي ... من أن أكون مقصرًا أو مقصرا
يقال: حاشى فلانٍ, وحاشى فلانًا, فإذا جاؤوا باللام أثبتوا الألف تارة, وحذفوها أخرى فقالوا: حاشى لله وحاش لله. وقالوا: حشى في معنى حاشى, وأنشد الفراء:
حشا رهط الرسول فإن منهم ... قرابين النبي بني قصي
والفرق بين المقصر والمقصر أنهم يقولون: قصر عن الشيء إذا تركه, وهو غير قادرٍ عليه, وأقصر إذا تركه باختياره, ومنه قول زهير:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله
وقال جميل:
جميل كبرت وأودى الشباب ... فقلت بثين ألا أقصري
أي اتركي هذا الكلام, وإن كنت قادرةً على الإتيان به.
وقوله:
صغت السوار لأي كف بشرت ... بابن العميد وأي عبد كبرا
العميد هاهنا: من قولهم: هو عميد القوم؛ أي: رئيسهم الذي يعتمدون عليه, أو الذي يعمدونه في الأمور, أي يقصدونه. يقول: أي كفٍ بشرتني بلقاء ابن العميد وقربي منه, فإني قد صغت لها سوارًا جزاءً لها علي ما فعلته. وقوله: وأي عبد كبرا, يريد عبدًا من عبيد الله وجعل العبد مستحقًا للتسوير؛ لأنه إذا كبر رفع يده.
وقوله:
خنثى الفحول من الكماة بصبغه ... ما يلبسون من الحديد معصفرا
خنثى الفحول: أي جعلهم كالمخنثين أو جعل كل واحدٍ منهم كالخنثى.
وفعلى: يزعم النحويون أنها لا تستعمل للمذكر. وقولهم: الخنثى: لم يخلص للمذكر ولا للمؤنث إلا أن الكلمة مشتركة بين الحالين, وإنما أخذ المخنث والخنثى من الانخناث؛ أي: الانكسار والضعف. وقد قالوا: امرأة خنث؛ أي: فيها لين وتكسر, وقالوا للوطب إذا ثني فوه إلى الخارج قد خنثه وخنثه. وفي الحديث: «أنه نهى عن اختنات الأسقية» ومنه البيت المعروف: [الوافر]
لقيت مخنثًا فلثمت فاه ... فأطيب بالمخنث من لثام
ألغزه عن المخنث من الناس. يقول: هذا الممدوح إذا لقيته الفحول من الكماة جعلها كالمخنثين أو كالخناثى؛ لأنها تضعف وتنكسر, ولأنه يصبغ ما لبسته من الدروع وغيرها بالدم؛ فهو كالعصفر, وقد جرت (83/ب) عادة من كان مخنثًا أن يرغب في لباس النساء.
وقوله:
أنت الوحيد إذا ارتكبت طريقةٍ ... ومن الدريق وقد ركبت غضنفرا
الغضنفر: الغليظ الجلد, وهو من صفات الأسد, قال الراجز: [الرجز]
وأنا كالضرغامة الغضنفر ... لو أتغدى رجلًا لم أسئر
منه سوى كعبرةٍ أو كعبر
والكعبرة: العقدة في الرأس؛ أي: إني لا أترك منه إلا شيئًا يسيرًا, وقالوا: لبن غضنفر؛ أي: غليظ خاثر. والنحويون يحكمون على نون غضنفرٍ بالزيادة, وكذلك كل نونٍ وقعت ساكنة ثالثةً في اسم ليس بجارٍ على فعلٍ؛ لأنهم إذا قالوا: عندل البلبل يعندل فقولهم: معندل ليست النون فيه بالزائدة. والعندلة صوته, وإنما يعنون نون حجنفلٍ, وما كان مثله, ولم يجئ عنهم جمع غضنفرٍ في التكسير, ولو جمعوه لوجب أن يقولوا: غضافر وغضافير, ولو جمع جمع السلامة لقيل: غضنفرات, يقول: أنت أيها الممدوح وحيد إذا ركبت طريقةً؛ لأنك تسلك مسلك لا يقدر عليها سواك. ومن الذي يمكنه أن يكون رديفك إذا ركبت أسدًا.
وقوله:
قطف الرجال القول وقت نباته ... وقطفت أنت القول لما نورا
يقال: قطفت العنب وغيره من الثمار إذا قطعته من شجرته, وهو القطاف والقطاف, قال الشاعر: [المتقارب]
أحب أيافت وقت العصار ... وحين قطافٍ لأعنابها
وكان بعض الناس يقول في قول الفقعسي: [البسيط]
يا أيها الراكبان السائران معًا ... قولا لسنبس فلتقطف قوافيها
هو مأخوذ من قطف الثمرة, فيكون المعنى ليجنوا ثمرة ما اغترسوه, كما يقال: حصد فلان ما زرع, ونور الشجر والنبت إذا ظهر نوره, ويعني بالقول هاهنا ما نظمه من الشعر, وهذا أشبه به. ولا يمتنع أن يصرف ذلك إلى الممدوح يريد أن من قبله من البلغاء قطفوا الكلام قبل أن يزهر ويتم حسنه, وأن هذا المعني أدرك قطافه في أحسن ما يكون.
وقوله:
ورسائل قطع العداة سحاءها ... فرأوا قنًا وأسنةً وسنورا
سحاءة الكتاب مأخوذة من (سحيت الشيء وسحوته) إذا قشرته, ويقولون للواحدة: سحاءة وسحاية. والسنور: يقال: إنه ليس بعربي في الأصل, وزعم بعضهم أن السلاح كله يقال له: سنور, وقيل: بل هو الدروع, وقيل: بل جلود تعمل كهيئة الأدراع, وقد تكلموا به قديمًا وأدخلوا عليه الألف واللام, وإذا فعلوا ذلك فهو عندهم كالعربي, قال المسيب بن علس: [الرجز]
كأنهم إذ خرجوا من غضور
مستلئمين لابسي السنور
نشء سحابٍ صائبٍ كنهور
وقوله:
فدعاك حسدك الرئيس وأمسكوا ... ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملأ مسمعي من أبصرا
أصل الدعاء: النداء, ثم اتسع في هذه الكلمة, فقالوا: دعاه إلى المرأة حسنها؛ أي: جذبه إليها, كأنه ناداه, قال الهذلي: [الطويل]
دعاك إليها مقلتاها وجيدها ... فملت كما مال البعير عن القصد
وقالوا: فلان يدعى كذا؛ أي: يسمى؛ لأن التسمية لابد للنداء من أن يقع على الاسم الذي هو به متصلة, وعلى ذلك معنى البيت. وقالوا في قول ابن أحمر: [البسيط]
أهوى لها مشقصًا حشرًا فشبرقها ... وكنت أدعو قذاها الإثمد القردا
معنى أدعو: أجعل, وليس ذلك بقوي, وإنما المعنى: كنت أسمي قذاها لكرمها علي الإثمد القرد الذي ركب بعضه بعضًا, وإنما قالوا: دعا فلان ربه؛ لأن الداعي قد جرت عادته بأن ينادي باسم الله أو بصفةٍ من صفاته, فيقول: اللهم, ويارب, ويا خالق البشر, ونحو ذلك. يقول: دعاك الناس الرئيس, ولم يزيدوا على هذا المقدار, ودعاك خالقك بأعظم مما دعاك به الناس, فجعلك الرئيس الأكبر, ثم قال: خلفت صفاتك في العيون كلامه؛ أي: أنه لما خلقك علي هذه الصفات المعجزة على أن منزلتك عنده عظيمة لا يصل إليها غيرك, ثم مثل ما قدم في النصف الأول بقوله:
كالخط يملأ مسمعي من أبصرا
أي: إن الخط إذ ارآه من يقرؤه فكأن مسمعيه قد امتلأا بالكلام الذي قد رآه مكتوبًا, وهذا المعنى مثل قوله في الأخرى: [المنسرح]
أغنته عن مسمعيه عيناه
وقوله: (84/أ)
أرأيت همة ناقتي في ناقةٍ ... نقلت يدًا سرجًا وخفًا مجمرا
يدًا سرجًا: أي: سريعةً سهلة السير. والخف يستعمل للإبل والنعام. والمجمر من الخفاف الصلب المجتمع, وكذلك من الحوافر, يقال: حافر مجمر إذا كان ليس بأرح ولا مصطر كأنه يعجب السامع من ناقته وشرف همتها لقوله:
تركت دخان المرث في أوطانها ... طلبًا لقومٍ يوقدون العنبرا
أي: إنها كانت في مساكن البدو تشم دخان الرمث, فطلبت دخان العنبر, وسارت إلى القوم الذين يوقدونه, وقد سبقت الشعراء إلى وصف النار بأنها تطعم ما طابت رائحته, قال الشاعر: [مجزوء الرمل]
صاح هل أبصرت بالخبـ ... ـتين من أسماء نارا
شبها الموقد يذكيـ ... ـها يلنجوجًا وغارًا
وقال آخر:
أوقدتها بالند والمندل الرطـ ... ـب فتاة يضيق عنها السوار
وقوله:
وتكرمت ركباتها من مبركٍ ... تقعان فيه وليس مسكًا أذفرا
أكثر الرواية: تقعان. وبعض الناس ينشد تحتل فيه, يفرون من قوله: ركبات على الجمع, ثم جعل الفعل لاثنين, وإنما جرت العادة أن يخبر عن الاثنين بخبر الجمع كما جاء في الكتاب الكريم: {قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعضٍ} فأما ردهم الجمع إلى الاثنين فمفقود. ويجوز أن يكون عنى ركبتيها المتقدمتين. والمسك الأذفر: الحديد الرائحة؛ وذلك يستعمل في الطيب وضده, ومنه قول المرأة: [المتقارب]
له ذفر كصنان التيو ... س أربى على المسك والغاليه
يقول تكرمت هذه الناقة أن تبرك إلا على المسك الأذفر؛ لأنها في محلة ملوكٍ يوقدون العنبر. والذي ادعى من بروكها على المسك الأذفر يوفي على ما ذكره من العنبر الموقد بدرجات؛ إذ كانت الملوك تستعمل مثل هذه الخليقة, ولا يجوز أن تبرك الناقة على مسكٍ إلا أن يشاء الله سبحانه.
وقوله:
فأتتك دامية الأظل كأنما ... حذيت قوائمها العقيق الأحمرا
يقول: دميت أخفاف هذه الناقة فكأنها حذيت العقيق الأحمر؛ أي: جعل لها حذاءً, وقد استعمل الحذاء في أخفاف الإبل. وفي الحديث: «مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها». يعني ضالة الإبل. والأظل باطن الخف, وإنما سمي بذلك؛ لأنه في ظل دائمٍ. وقد حكي في جمعه ظل مثل أصم وصم, وليس ذلك بمعروفٍ, قال الشاعر: [المديد]
وبما أبركها في مناخٍ ... جعجعٍ ينقب فيه الأظل
وأظهرت الشعراء التضعيف في الأظل على الضرورة؛ قال الراجز: [الرجز]
تشكو الوجى من أظللٍ فأظلل
وقال ربعية بن مقرومٍ الضبي: [الكامل]
ومطيةٍ ملث الظلام بعثته ... يشكو الكلال إلى دامي الأظلل
وقوله:
من مبلغ الأعراب أني بعدها ... شاهدت رساطاليس والأسكندرا
رسطاليس: اسم أعجمي, والشعراء يتحكمون على الأسماء الأعجمية, ويغيرونها عما هي عليه, فمنها ما يلحق بكلام العرب, ومنها ما تلبث عليه العجمة, فالذي لحق بالعربي مثل قولهم: الديباج والبزبون, ونحو ذلك. والذي بقيت عليه العجمة, مثل: رسطاليس وأفلاطون وفرعون ومالا تدخل عليه الألف واللام. والذي يقرؤون الكتب القديمة يقولون: رسطاطاليس, وربما حذفوا الياء فقالوا: رسطاطالس, ومنهم من يدخل الهمزة في أوله فيقول: أرسطاطاليس, ومنهم من يجعل الألف واوًا وقد اختصره أبو الطيب وصار ما فعله كالأصل. وقوله: والأسكندرا. يقال: إن رسطاليس كان معلم الأسكندر, فيجوز أن يعني أن الممدوح مثل هذين الرجلين في الحكمة, وفي الملك, كما تقول للرجل إذا وضعته بعلم اللغة والفقه لقيت الأصمعي ومالكًا. وإن كان أبو الطيب لقي ابن العميد بعد انصرافه عن عضد الدولة فلا يمتنع أن يعنيه بالأسكندر؛ لأنه الملك, والأول أشبه.
وقوله:
وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملكًا مبتديًا متحضرا
مرةً ينشد بطليموس, بكسر اللام, وهي مقدمة على الياء وربما أنشدوا بطلميوس, بلام مفتوحةٍ بعدها الميم, وبعد الميم الياء, وذلك كله سهل؛ لأن الاسم الأعجمي لا تحفل العرب بتغييره. وادعى أبو الطيب للممدوح أنه مثل (84/ب) أرسطاليس, وهو صاحب المنطق والمتكلم على السماء والعالم, وأنه مثل بطليموس الذي كان الغاية في علم الهيئة, إلا أن أصحاب النجوم يزعمون أنه كان يقول بالأحكام دالة عليه الكواكب. ويقال: إن أرسطاليس ليس كان يدفع ذلك, فزعم الشاعر أنه سمع بطلميوس في حال درسه كتبه متبديًا متحضرًا؛ لأنه جعل الممدوح في فصاحة البادية, وهومع ذلك من المقيمين في الحضر.
وقوله:
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدمًا ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا
خلص أبو الطيب هذا المعنى من الشبه؛ لأنه قد جاء به هو وغيره في المدح, ولم يكملوا فيه اللفظ, كقوله: [الطويل]
ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
لأن الخلائق الغالب عليها الذم. وإنما الخير فيها خصائص عند قومٍ أفرادٍ, وكذلك قوله:
هدية ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل وفي العباد الفاجر والغادر, ومن هو مستحق للذم. وفي الكتاب العزيز: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} ولا اختلاف بين أهل المعقول في أن أشرار العالم يوفون على خياره بأضعافٍ في العدة. فلما قال: ورأيت كل الفاضلين تهذب: الغرض من طعن الطاعن؛ لأنه خص الفضلاء دون ذوي العيوب والنقص. وقال: فذلك, وهو فاعل أتى, وجاء به على الحكاية؛ لأن ذلك هو الوجه, وحكى بعضهم أن ذلك ربما عربت كافها في الشعر وأنشدواة في قوافٍ مرفوعةٍ: [الرجز]
كيف يكون النوك إلا ذلك
وقبل هذا البيت:
قد زعم الجاهل أني هالك ... وإنما الهالك ثم التالك
مضلل ضاقت به المسالك
وتالك إتباع.
وقوله:
وترى الفضيلة لا ترد فضيلةً ... الشمس تشرق والسحاب كنهورا
الرواية الصحيحة ترد بضم الراء, وفي ترد ضمير عائد على الفضيلة الأولى, والثانية منصوبة بوقوع الرد عليها. وهذا من التنصيف المبين؛ لأن قوله: الشمس تشرق والسحاب كنهورا بيان لقوله: وترى الفضيلة لا ترد فضيلةً, وذلك أن الشمس لا تشرق إذا تراكم السحاب, ولأن السحاب لا يمطر إذا أشرقت الشمس فإحدى الفضيلتين رادة للأخرى؛ لأن المنفعة بالشمس عظيمة وكذلك المنفعة بالسحاب, وكان ابن جني - رحمه الله - ينشد:
ترد, بفتح الراء وضم التاء. والكنهور: السحاب المتكاثف, وإنما أخذ من الكهر, وهو غلظ الوجه. والقول يختلف في قول زيد الخيل: [الطويل]
ولست بذي كهرورةٍ غير أنني ... إذا طلعت أولى المغيرة أعبس
فأصح القولين أن يراد بالكهرورة عبوس الوجه وتجهمه. والقول الآخر أن الكهرورة الضحك. ولانون والواو في الكنهور زائدتان, يراد أنه أسود غليظ فكأنه يلقى الناظر بكهرٍ.
وفي مصحف ابن مسعود: {وأما السائل فلا تكهر}. أي لا تلقه بوجهٍ غير بسيطٍ.
وقوله:
زحل على أن الكواكب قومه ... لو كان منك لكان أكرم معشرا
زحل: اسم عربي إلا أن تردده في الشعر القديم غير كثيرٍ, وإنما كثر في أشعار المحدثين. وعندهم أنه معدول, فيجب ألا يصرف, وصرفه للضرورة.
ولما أخبر عن زحل كإخباره عن الإنس جعل الكواكب قومه, وإنما القوم كلمة تستعمل للآدميين, ويجب أن يكون جمع قائمٍ, كما يقال: راكب وركب, وصاحب وصحب. وأصل ذلك أن يستعمل في كبراء الناس, ثم كثرت اللفظة حتى استعملت في الخاصة, وفي العامة؛ لأنهم يقولون: قام فلان في أمر العشيرة إذا سعى فيما يصلح أمورهم؛ قال زهير: [الطويل]
إذا قام منهم قائم قال قاعد ... رشدت فلا غرم عليك ولا خبل
ويقولون: هؤلاء قامة الحي؛ أي: الذين يقومون في أمره, قال الراجز: [الرجز]
وقامتي ربيعة بن كعب ... حسبك ما عندهم وحسبي
قامة: جمع قائم, مثل: باعةٍ وبائعٍ.
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
20 أبريل 2024
تعليقات (0)