المنشورات

كفرندي فرند سيفي الجراز ... لذة العين عدة للبراز

وهي من الخفيف الأول. الفرند: جوهر السيف, وقد مر ذكره. والجراز: القاطع. يقال: جرزه إذا قطعه. والأرض الجرز: التي لا نبت فيها, كأنها قطع عنها النبات أو انقطع عنها المطر, ويقال: رجل جروز أي: أكول. وامرأة جارز: عقيم, كأنها قطعت الولد.
وقوله: لذة العين كأنه على قوله: هو لذة العين. ويجوز أن يجعل لذة العين محمولةً على قوله: فرند سفي الجراز فلا يحتاج إلى إضمار هو. والبراز مصدر بارز القرن قرنه إذا ظهر كل واحدٍ منهما لصاحبه. قال الشاعر: [مجزوء الكامل]
ولقد سئمت من الندا ... ء وقولهم هل من مبارز
وقالوا: امرأة برزة إذا كانت تجترئ على خطاب الرجال, كأنها تبرز لهم, ولعلها وصفت بذلك أيام كان النساء لم يضرب عليهن الحجاب, وقالوا في قول العجاج: [الرجز]
عف وذو العفافة البرزي
أراد الحيي. وهذا ضد قولهم للمرأة: برزة. وذهب قوم إلى أن هذه الكلمة من الأضداد وأنشد أبو زيدٍ: [الطويل]
إن تلقني برزين لا تغتبط به ... وإن تدع لا تنصر على وأخذل
أراد أن كل واحدٍ منهما يبرز لصاحبه.
وقوله:
كلما رمت لونه منه النا ... ضر موج كأنه منك هاز
يصف جوهر السيف وأنه لا يثبت للناظر على حالٍ واحدةٍ ك أنه يهزأ به, وإن كان خفف الهمزة ونظم الكلمة في البيت بعد التخفيف فقد صارت مثل قاضٍ, لا يجب أن تثبت فيها الياء عند الكتب وإن كان جاء باللفظة مهموزةً. فلما عجز الوزن عن احتمالها كذلك جعل الهمزة ياءً فيجب أن تثبت في الخط, وتخفيف مثل هذه كثير. قال عبد الرحمن بن حسان: [الوافر]
فكنت أذل من وتدٍ بقاعٍ ... يشجج رأسه بالفهر واجي
وقوله:
ودقيق قدى الهباء أنيق ... متوالٍ في مستوٍ هزهاز
يقال: قدى الشيء وقيده وقاده؛ أي: مقداره, والأنيق: الحسن, الذي يعجب من رآه, والهباء: أدق ما يكون من الغبار. وإذا أحكم صقال السيف, والنصل من نصال السهام وصف بأن عليه مثل الهباء, قال الشاعر: [الوافر]
دلفت له بأبيض مشرفي ... كأن على مواقعه غبارا
مواقعه: المواضع التي يقع عليها المسن, وقال ذو الرمة يصف نصال السهام: [الطويل]
وبيض رقاق قد علتهن هبوة ... أرق من الماء الزلال كليلها
وقال والبة بن الحباب في صفة السيف: [مجزوء الكامل]
فكأنما نفض الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح
والهزهاز الذي كان ماؤه يهتز فيه, قال الراجز: [السريع]
قد وردت مثل اليماني الهزهاز ... تدفع عن أعناقها بالأعجاز
وقوله:
ورد الماء فالجوانب قدرًا ... شربت والتي تليها جوازي
أراد بالجوانب صفحاته, لأن ماءه يظهر فيهن, وبالتي تليها الحدين؛ لأن الفرند لا يظهر في الحد.
وقد يجوز أن يكون المراد ما يسقاه الحد في الصقال, فالمعنى حينئذٍ ضد الأول؛ لأن الواردة في المعنى الأول الصفحات. وفي المعنى الثاني حده وما يليه. والجوازي التي جزأت عن الماء؛ أي: امتنعت عن شربه, وحكمها في الهمز وتخفيفه كحكم هازئ.
وقوله:
حملته حمائل الدهر حتى ... هي محتاجة إلى خراز
استعار حمائل السيف للدهر, ووصفه بالقدم, وهذه نهاية في المبالغة؛ لأن حمائل الدهر قد حملته حتى بليت, فاحتاجت إلى أن تخرز.
وقوله:
وهو لا تلحق الدماء غراريـ ... ـه ولا عرض منتضيه المخازي
يقول: هذا السيف من سرعة قطعه يسبق الدم فلا يتعلق به منه شيء. ويقرب من هذا المعنى قول الأول في صفة السيف: [الوافر]
ترى ضرباته أبدًا خطايا ... إلى أن يستبين له قتيل
وقوله:
يا مزيل الظلام عني وروضي ... يوم شربي ومعقلي في البراز
البراز: الموضع المنكشف. والمعقل: الموضع الذي يلتجأ إليه. وأصله الموضع في أعلى (85/ب) الجبل, يقال: عقلت الأروى إذا حصلت بذلك الموضع كأنها تعقل الحوادث عن نفوسها؛ أي: تحبسها, كما يحبس البعير بالعقال, قال النابغة: [الطويل]
وقد خفت حتى ما ت زيد مخافتي ... على وعلٍ في ذي المطارة عاقل
وهذا مثل قول قيس بن الخطيم: [الطويل]
معاقلهم أبياتهم ونساؤهم ... وأيماننا بالمشرفية معقل
وشبه السيف بالروضة؛ لأنه يوصف بالخضرة.
وقوله:
إن برقي إذا برقت فعالي ... وصليلي إذا صللت ارتجازي
يقول: إن كان أيها السيف برقك يسبق الضرب بك فبرقي أنا فعلي أي: إني أبدأ بالفعال إذا كنت أنت لا تبدأ به. والصليل: صوت الحديد بعضه على بعضٍ, قال عبد قيس ابن خفافٍ البرجمي: [المتقارب]
وسابغةٍ من جياد الدرو ... ع تسمع للسيف فيها صليلا
وكانت العرب إذا لاقت الحروب قالت الرجز, تستثير به نفوسها إلى الحرب, وتستجلب تعاون الشاهدين, وكذلك كانوا يفعلون إذا بشروا الأعمال كسقي الإبل ونحوه, وقالوا: ارتجز السحاب إذا جاء بالرعد كأنه يحث نفسه على المطر. قال الهذلي: [الوافر]
سقى الرحمن حزم نبايعاتٍ ... من الجوزاء أنواءً غزارا
بمرتجزٍ كأن على ذراه ... ركاب الشام يحملن البهارا
البهار هاهنا: واحد في معنى جمعٍ. والرجز الذي كان يستعملون عند ممارسة الحروب والأعمال: ثلاثة أصنافٍ, لا اختلاف بين أهل العلم أنهم كانوا يسمونها رجزًا, وبها جاء شعر الرجاز: العجاج, ورؤبة, وأبي النجم.
فمن ذلك قول العجاج: [الرجز]
ما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجا
من طللٍ كالأتحمي أنهجا
وقوله:
يا صاح هل تعرف رسمًا أكرسا
أي: قد اجتمع عليه الكرس, وهو البعر.
قال نعم أعرفه وأبلسا
فهذا صنف. والصنف الثاني يجتمع في آخره ساكنان, كقوله: [السريع]
يا صاح ما هاجك من ربعٍ خال ... ودمنةٍ تعرفها وأطلال
وقول رؤبة:
قد عرضت أروى بقولٍ إفناد
والصنف الثالث أقصر من الصنف الأول بحرفٍ متحركٍ, وأقصر من الثاني بحرفٍ ساكنٍ, وهو كقول رؤبة: [السريع]
عاذل قد أولعت بالترقيش ... إلي سرًا فاطرقي وميشي
وكان الخليل يجعل هذين الصنفين الآخرين من الوزن, الذي يقال له السريع على علمٍ أن العرب تسمها بالرجز, وهذا مستطرف من رأيه. والرجز عنده خمسة أضربٍ, وعند غيره تسعة. فأما تام الرجز فلم يرو أنهم استعلموا في الحرب, وكأنه لما طال جعلوه من القصيد, وهو كقول قعنب بن أم صاحبٍ: [الرجز]
باكرني بسحرةٍ عواذلي ... ولومهن خبل من الخبل
ولم ترو الثقات عنهم هذا الوزن إلا مقيدًا, وهو وزن مقصورة ابن دريدٍ.
وأما الثاني من الرجز عند الخليل فهو كقول القائل: [الرجز]
القلب منها مستريح دهره ... والقلب مني جاهد مجهود
وأما الثالث منه فلا يستعملونه أيضًا في الحرب وما جرى مجراها. وقد استعمله عمر بن أبي ربيعة في النسيب كقوله: [مجزوء الرجز]
قد هاج قلبي منزل ... من أم عمرو مقفر
والرابع قد مر ذكره في الأصناف الثلاثة. والخامس قد استعمل في الحرب. وقال بعض من شهد يوم الجمل: [منهوك الرجز]
أضربهم باليابس ... ضرب غلامٍ عابس ... من الحياة يائس
ويروى أن دريد بن الصمة قال في يوم الحنينٍ: [منهوك الرجز]
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع
فهذا من خامس الرجز:
والذين جعلوه تسعة أضربٍ ألحقوا به الضربين اللذين جعلهما الخليل من السريع, والضربين المنهوكين اللذين ذكرهما في المنسرح:
الأول منهما كقول أبي خراش: [منهوك المنسرح]
إليك أم ذبان ... قد صرحت بجلدان
ليس بتنكاع الضان ... نكع الجلاد الحمران
لكن جلاد الفتيان ... بكل لينٍ حران
وقالت نائحة سعد بن معاذ: [منهوك المنسرح]
ويل ام سعدٍ سعدا ... صرامةً ومجدا
وفارسًا معدا ... سد به مسدا
فهذا الآخر من الضربين اللذين ذكرهما في المنسرح. وهو في الأصل أنقص من الأول بحرفٍ ساكنٍ, والأول ثاني المنسرح. والثاني منهما ثالثه. ويقال (86/أ) إن الرجز سمي رجزًا لاضطراب أجزائه شبه بالرجز الذي يلحق الإبل, من قولهم: ناقة رجزاء إذا كانت تضطرب فخذاها عند القيام. قال أوس بن حجرٍ: [الطويل]
هممت بمعروفٍ فقصرت دونه ... كما ناءت الرجزاء شد عقالها
وكما قال أبو النجم في صفة امرأة: [الكامل]
تذر القيام كأنما هو نجدة ... حتى تقوم تكلف الرجزاء
وقوله:
ولم احملك معلمًا هكذا إلـ ... لا لضرب الرقاب والأجواز
طرح حركة الهمزة في أحملك على الميم من لم. وحذف الهمزة, وتلك لغة حجازية معروفة, وقد قرأ بها المدنيون, ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فقالت من أي الناس أنت ومن تكن ... فإنك راعي ثلةٍ لا يزينها
والمعلم الذي يشهر نفسه في الحرب فيجعل لها علامةً تعرف بها, وذلك مما تفتخر به العرب, قال معاوية بن أوسٍ اليربوعي: [المتقارب]
ولما تداعوا لأقرانهم ... دعوني إلى الفارس المعلم
وروي أن حمزة بن عبد المطلب كان في يوم أحدٍ معلمًا بريشة نعامةٍ.
والأجواز: جمع جوزٍ, وهو الوسط.
وقوله:
ولقطعي بك الحديد عليها ... فكلانا لجنسه اليوم غاز
يقول: أنا أضرب بك أيها السيف رؤوس الرجال وأوساطها؛ فأقطع بك الحديد الذي تتقي به السيوف, فأنا غازٍ لجنسي, وهم الإنس, وأنت غازٍ لجنسك, وهو الحديد, فكلانا صاحب غزوٍ, والغزو: أصله القصد. يقال: ما غزا فلان بقوله كذا, أي: ما قصد وما أراد, ثم قصروا ذلك على قصد العدو والمسافر إليه حتى يحارب بأرضه.
وجمع غازٍ غزى وغزاة, فهذا على القياس, وقالوا: غزي كما قالوا: عبد وعبيد, وذلك اسم للجميع لا يقاس عليه, وإذا غارت المياه قالوا: غزا الماء أوطانه إذا نزل حتى يصل إلى الماء الغمر الذي يقال: إن الأرض محمولة عليه. وقالوا في صفة الأتان الوحشية: هي مغزية العقاق إذا بعد عهدها بالحمل. والعقاق أن يعظم بطنها وهي حامل, يقال: أعقت فهي معق, وعقوق أيضًا بينة العقاق.
وقوله:
سله الركض بعد وهنٍ بنجدٍ ... فتصدى للغيث أهل الحجاز
يريد أن هذا السيف إذا كان مغمدًا فركض الفارس الذي هو متقلد له خرج بعضه من الغمد فرآه أهل الحجاز, وهو بنجدٍ فظنوا تلك السلة برقاً, وحسن ذكر الحجاز في هذا الموضع؛ لأن المطر يقل فيه, ولا يكون كأمطار الشام والعراق.
وقوله: تصدى يجب أن يكون أصله تصدد, فأبدل من الحرف الآخر ألفًا, وإنما أخذ ذلك من قولهم: هو بصدد كذا؛ أي: قريب منه, يراد أن الإنسان يتعرض للشيء ليصيبه. والحجاز سمي حجازًا؛ لأنه حجز بالحرار الخمس, وهي: حرة ليلى وحرة واقم وحرة النار, وحرة راجلٍ وقيل: حرة بني عبسٍ, وقيل: حرة بني سليم مكان حرة بني عبسٍ. وزعم قوم أنه سمي الحجاز؛ لأنه حجز بين نجدٍ والسراة.
وقوله:
فارسي له من المجد تاج ... كان من جوهرٍ على أبرواز
أبرواز: ملك من ملوك الفرس. والعجم إذا نطقوا بالألف جاؤوا بها مثل الياء تارةً, ومثل الألف أخرى, وكأنهم يجعلونها بين بين ليست بالخالصة لأحد الحرفين, فلذلك جعلها أبو الطيب ألفًا خالصةً. فأما أبو عبادة فهي في شعره ياء, وذلك في قوله: [الخفيف]
وتوهمت أن كسرى أبرويـ ... ـز معاطي والبلهبذ أنسي
البلهبذ: صاحب رتبةٍ عظيمة من رتب الفرس دون الملك.
وقوله:
ليس كل السراة بالروذباري ... ي ولا كل ما يطير بباز
تزعم الأعاجم أن من كان على شاطئ النهر فنسب إلى وطنه قيل له: روذباري.
وقوله:
شغلت قلبه حسان المعالي ... عن حسان الوجوه والأعجاز
قوله: حسان الوجوه: لفظ يحتمل وجهين: أحسنهما أن تكون حسان معرفةً, وتكون إضافتها على معنى من, كأنه قال: عن التي حسنت من الوجوه والأعجاز, والآخر أن تكون حسان نكرةً ويكون التقدير (86/ب) عن حسانٍ وجوهها وأعجازها.
وقوله:
وكأن الفريد والدر واليا ... قوت من لفظه وسام الركاز
الفريد: جمع فريدةٍ, وهي العظيمة من اللؤلؤ كأنها تنفرد بعظم القدر لأنها قليلة المثال؛ كما يقال للرجل: هو فريد في قومه؛ أي: ليس فيهم مثله. والياقوت: معرب, وليس في كلامهم اليقت, فيقال: إنه مشتق منه, وقد جاء في كتاب الله سبحانه, وجاء في الشعر القديم, قال النابغة: [الكامل]
بالدر والياقوت زين نحرها ... ومفصلٍ من لؤلؤٍ وزبرجد
والسام: عروق الذهب والفضة, وبه سمي الرجل سامة, وأكثر الناس ينشد قول قيس بن الخطيم: [الطويل]
لو انك تلقي حنظلًا فوق بيضنا ... تدحرج عن ذي سامه المتقارب
فيضيفون سامًا إلى الهاء العائدة على بيضنا. وذكر أبو الحسن سعيد بن مسعدة في كتابٍ له يعرب بكتاب «المعاياة» , ورواه: عن ذي سامة المتقارب. ويقال: إن ذا سامة اسم معدنٍ. والركاز عند قومٍ ما يخرج من المعدن, وعند غيرهم: ما يوجد من كنوز الجاهلية في الأرض.
وقوله:
تقضم الجمر والحديد الأعادي ... دونه قضم سكر الأهواز
القضم أكل بمقدم الفم, ويستعمل ذلك في الشيء اليابس دون الربط. والسكر أصله أعجمي, وقد جاء في الشعر الفصيح, قال الراجز: [الرجز]
تكون بعد الحسو والتمزر ... في فمه مثل عصير السكر
والأهواز هذه البلدة المعروفة, واسمها أعجمي؛ إلا أنه قد وافق من العربية قولهم: هوز الرجل إذا مات, مثل فوز. وقولهم: ما أدري أي الهوز هو, أي: أي الخلق هو. والمعنى أن الأعادي إذا طلبوا هذا الممدوح لقوا شدةً عظيمة دونه فكأنهم يقضمون جمرًا وحديدًا من الشدائد التي يلقون, ولا يريد أنهم يفعلون ذلك باختيارهم, وإنما يقدر عليهم؛ لأنه لو وصفهم بالصبر على تلك الحال لكان مادحًا لهم, وإنما أراد أنهم يقضمون الجمر والحديد مكرهين كما يقضم غيرهم السكر وهو لذلك مختار ملتذ به.
وقوله:
بلغته البلاغة الجهد بالعفـ ... ــو ونال الإسهاب بالإيجاز
الجهد هاهنا: مصدر جهد يجهد إذا تناهى في الطلب وبلوغ الحاجة. والعفو: السهل الذي لا كلفة فيه, ومنه قوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}؛ أي: السهل من النفقات. وقوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف} , أي ما سهل من الأمور وتيسر. والعفو في غير هذا: الكثير. والإسهاب إكثار الكلام. وزعم أصحاب النقل أنه يقال: أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح, ولا يمنعون أن يقال: مسهب, ومثله مسهبٍ أحصن فهو محصن. وقد قرئ بالفتح والكسر: محصنين ومحصنين, وألفج فهو ملفج إذا أفلس, قال الراجز: [الرجز]
جارية شبت شبابًا علسجا ... في حجر من لم يك عنها ملفجا
وقوله:
أيها الواسع الفناء وما فيـ ... ــه مبيت لمالك المجتاز
في شعر أبي الطيب أشياء من هذا الجنس, فبعضها يلزم به الضرورة, وبعضها لو تركه لم يكن مضطرًا, ومنها هذا الموضع؛ لأن واجب الكلام أن يقول: لماله المجتاز. وهذا نحو من قول الآخر: [البسيط]
إنا إذا اجتمعت يومًا دراهمنا ... ظلت إلى سبل المعروف تستبق
لا يألف الدرهم الطازي صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق
وقوله:
بك أضحى شبا الأسنة عندي ... كشبا أسوق الجراد النوازي
الشبا: الحد. ويجب أن يكون من ذوات الواو, من قولهم للعقرب: شبوة معرفة, وللجارية الكثيرة الحركة: شبوة نكرة. ويقال: شبا الشيء وشباته. قال الفرزدق: [الطويل]
ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى ... رماك بسهمٍ أو شباة سنان
والنوازي: جمع نازٍ ونازيةٍ, وهو الذي يثب. ويقال في جمع الساق: أسوق وسوق, وحكي سؤوق, وقد قرئ: {بالسؤوق والأعناق} بالهمز. وكذلك همز بعضهم: {وكشفت عن ساقيها} , وإذا همزت الساق حسن أن يقال في جمعها: سؤوق, كما يقال: رأس ورؤوس, وكأس وكؤوس؛ لأن هذا الجمع يكره في ذوات الواو (87/أ) الكائنة على مثال: ساق, ألا تراهم لم يقولون: دؤور في جمع دارٍ, ولا سؤوح في جمع ساحةٍ.
وقوله:
وانثنى عني الرديني حتى ... دار دور الحروف في هواز
هذه الكلمات الست, التي أولها أبجد وآخرها قريسيات, بعضها موافق لكلام العرب, وبعضها لا معنى له. وقد ذكرت في الأشعار. قال الراجز: [الرجز]
تركتهم في مخض وطبٍ حازر
وفي أبي جادٍ وفي مرامر
وقال آخر: [الطويل]
تعلمت باجادٍ وآل مرامرٍ ... وسودت أثوابي ولست بكاتب
ويقال: إنهم سموا أبا جادٍ آل مرامرٍ؛ لأن أول من كتبها من العرب ثلاثة من أهل الأنبار يقال لأحدهم: مرامر بن مروة. وقال الراجز: [الرجز]
لما رأيت أمرها في حطي ... وفنكت في باطلي ولطي
أخذت منها بقرونٍ شمط ... فلز يزل جذبي بها ومعطي
حتى علا الرأس دم يغطي
وهواز: موافقة لفظ هوز, مثل: فوز. وكلمون قيل: إنها أعجمية ولكنها موافقة للفظةٍ أخذت من الكلم أو الكلام, وزيدت فيها الواو والنون. وأما صعفص فلا مذهب لها في كلام العرب, وقد ذكرت في الشعر القديم. وأما قريسيات فتوافق من كلام العرب قولهم: فحل قراسية إذا كان مسنًا قويًا, فيقال في جمعه: قراسيات, فإذا صغر هذا الجمع قيل: قريسيات, قال الشاعر: [الوافر]
أتيت مهاجرين فعلموني ... ثلاثة أحرفٍ متواليات
وخطوا لي أباجادٍ وقالوا ... تعلم صعفصًا وقريسيات
وقوله:
وبآبائك الكرام التأسي ... والتسلي عمن مضى والتعازي
يقال: تأسى بالرجل إذا جعله لنفسه أسوةً, وقالوا: تأسوا من الإسوة أيضًا, ويقال: إن مصعب بن الزبير تمثل بهذا البيت يوم قتل, وهو: [الطويل]
فإن الأولى بالطف من آل هاشمٍ ... تآسوا فسنوا للكرام التآسيا
والتعازي: جمع تعزيةٍ.
وقوله:
تركوا الأرض بعدما ذللوها ... ومشت تحتهم بلا مهماز
المهماز: مأخوذ من قولهم: همز الشيء إذا غمزه بيده, فهذا أصله, وفي الكتاب العزيز:
{ويل لكل همزةٍ لمزةٍ} , وإنما وصفوا الرجل بذلك؛ لأنه يكون مع القوم في المجلس, فإذا تكلم منهم متكلم, وأراد أن يعيبه همز الذي يليه من القوم بيده, والناس يفعلون ذلك كثيرًا, ثم كثرت هذه الكلمة حتى جعل النظر بالعين والإشارة بها في عيب الرجل من الهمز. وقالوا في جمع المهماز: مهامز, كأنه جمع مهمزٍ, والقياس: مهاميز, ولكنهم يجترئون على حذف هذه الياء كثيرًا, قال الشماخ في صفة القوس: [الطويل]
أقام الثقاف والطريدة درأها ... كما قومت درأ الشموس المهامز
والطريدة: شيء يستعينون به على بري خشبة القوس, ومثل قولهم: مهامز في جمع مهمازٍ قولهم: مصابح في جمع مصباحٍ, ومفاتح في جمع مفتاحٍ.
وقوله:
وأطاعتهم الجيوش وهيبوا ... فكلام الورى لهم كالنحاز
النحاز: يستعمل في معنى السعال, قال القطامي: [الوافر]
ترى منه صدور الخيل زورًا ... كأن بها نحازًا أو دكاعا
يقول: الناس من هيبتهم لهم لا يفصحون بالقول لهم, فكأن كلامهم نحاز, ومن تأمل النحاز وحد أصواته متقطعةً, وزن كل صوتٍ منها حرفان, متحرك بعده ساكن؛ وذلك أقل ما يمكن أن ينطق به.
وقوله:
وهجانٍ على هجانٍ تآيتـ ... ــك عديد الحبوب في الأقواز
يقول: رب قومٍ هجانٍ؛ أي: بيضٍ على بيضٍ من الإبل تآيتك؛ أي: تعمدتك, وأصل قولهم: تآياه إذا تعمد آيته؛ أي: شخصه. قال الشاعر: [الرمل]
فتآيا بطريرٍ مرهفٍ ... جفرة المحزم منه فسعل
والأقواز: جمع قوزٍ, وهو كثيب من الرمل, قال الرجز: [الرجز]
لما رأى الرمل وأقواز الغضا ... والبقر الملمعات بالشوى
بكى وقال هل ترون ما أرى
وقالوا في جمع أقوازٍ: أقاوز, قال الشاعر: [الكامل]
ومخلداتٍ باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان
المخلدات: المسورات والمخلخلات. ويقال للسوار والخلخال والقرط: خلدة, وإذا نصب عديد الأقواز فيجب أن تكون إضافته منفصلةً على معنى اللام, كأنه قال: عديدًا للأقواز ليصح بهذا التأويل نصبه على الحال, وإن خفض العديد فجائز على أن يجعل صفةً (87/ب) لهجانٍ, ولابد فيه من تقدير الانفصال, ولو جعل بدلًا في حال الخفض لاحتمل.
وقوله:
صفها السير في العراء فكانت ... فوق مثل الملاء مثل الطراز
العراء: المكان المنكشف, كأنه قد عري من أي يكون فيه شيء, وقيل: هو المكان الخالي, وروي أنه ظاهر الأرض. وهذه المعاني متقاربة, وفي الكتاب العزيز: {فنبذناه بالعراء وهو سقيم}. وقال الهذلي: [الكامل]
فرفعت رجلًا لا يخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي
والملاء: جمع ملاءةٍ, وهي كلمة عربية. يريد أن هؤلاء القوم فوق هذه الإبل قد صفهم السير فهم كالطراز على هذه الأرض المشبهة بالملاء, وهذا كالمدح للركبان والركائب؛ لأن الطراز يحسن الثوب.
وقوله:
وحكى في اللحوم فعلك في الوفـ ... ــر فأودى بالعنتريس الكناز
الوفر: المال. يقول: أفنى السير لحوم هذه الإبل كإفنائك المال بعطائك, فأودى يعني السير, والعنتريس: الناقة الصلبة العنيفة في السير, وقيل: هي مأخوذة من العترسة, وهي أخذ بعنفٍ وعجلةٍ, وقيل: إن الشيطان يقال له: العتريس. والكناز: المكتنزة اللحم, وهو الذي دخل بعضه في بعضٍ, ومنه قولهم: كنزت المال, وكنزت التمر إذا جمعت بعضه إلى بعضٍ, ثم عملت به عملًا يمنعه من الفرقة.
وقوله:
ملك منشد القريض لديه ... يضع الثوب في يدي بزاز
البز, الذي يراد به الثياب: عربي قديم, ومنه قولهم: بزه إذا أخذ ثيابه, قال الراجز: [الرجز]
وليلةٍ صريمها كالخز ... أدلجتها من أجل أم عز
وأم عز من عتيق البز
أي: إنها كريمة المنصب, ويحتمل أن يعني بها قدم البز كما قال أبو الأسود الذولي: [الطويل]
أبى القلب إلا أن عمروٍ وحبها ... عجوزًا ومن يحبب عجوزًا يفند
كثوب اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد
وكثر ذلك حتى سموا متاع الرجل وآلته بزًا, فدخل في ذلك الثوب والدرع والسيف, قال متمم: [الطويل]
ولا بكهامٍ بزه عن عدوه ... إذا هو لاقى حاسرًا أو مقنعا
يعني السيف.
وقال أبو دوادٍ الإيادي وذكر الفرس: [الطويل]
كأني إذا عاليت جوزة ظهره ... أعلق بزي عند بيض الأنوق
فأما قول أبي خراش: [الوافر]
كأني إذا غدوا ضمنت بزي ... من العقبان خايتةً طلوبا
فيجوز أن يعني ببزه ما عليه من ثوبٍ, وما معه من سلاحٍ, ولم يستعلموا البزاز في الشعر القديم, ولا ريب أنه من الأسماء العربية. يقول: هذا الممدوح إذا مدحه الشاعر فكأنه وضع الثوب في يدي بزازٍ, يصف أنه عالم بالشعر كعلم البزاز بالثياب.
وقوله:
ولنا القول وهو أدري بفحوا ... هـ وأهدى فيه إلى الإعجاز
فحوى الكلام: معناه, حكي بالقصر والمد. وأهدى هاهنا: يجوز أن يكون مأخوذًا من فعلٍ غير متعد, كقولهم: فلان هادٍ لكذا؛ أي: يهتدي إليه, ولا يمتنع أن يكون مأخوذًا من فعل متعد, فهذا أشد مبالغةً في وصف الممدوح؛ لأنه في المعنى الأول يجعله مهتديًا إلى المعاني الدقيقة, وفي المعنى الثاني يكون حائزًا لفضيلة الاهتداء, ثم هو هادٍ غيره إلى المقال فله فضيلة عظيمة في هدي سواه.
وقوله:
ومن الناس من تجوز عليه ... شعراء كأنها الخازباز
نون شعراء, وذلك جائز بلا اختلافٍ, إلا أن صرف ما كانت فيه ألفا التأنيث يقل في شعر العرب, وإنما يصرفون كثيرًا ما لم تكن فيه ألف التأنيث, كمساجد, وزينب, ونحو ذلك. والخازباز هاهنا: الذباب ويقال لصوته: خازباز أيضًا. قال ابن أحمر: [الوافر]
تفقأ فوقه القلع السواري ... وجن الخازباز به جنونا
فيجوز أن يعني بالخازباز الذباب وصوته. وبعض النبت يقال له: الخازباز, قال الراجز: [الرجز]
رعيتها أكرم عودٍ عودا ... الصل والصفصل واليعضيدا
والصليان السنم المجودا ... بحيث يدعو عامر مسعودا
ويقال لهذا الداء الذي يظهر في وجوه الصبيان (88/أ) الخازباز أيضًا. قال الراحز: [الرجز]
يا خازباز أرسل اللهازما
إني أخاف أن تكون لازما
وقوله:
كل شعرٍ نظير قابله منـ ... ـك وعقل المجيز مثل المجاز
يقول: الشعر إذا كان رديئًا خسيسًا جاز على الأخساء من القوم, وإذا كان جيدًا نفق على الرؤساء السادة. وقوله: وعقل المجيز مثل المجاز. المجاز هاهنا: العطاء الذي يعطاه الشاعر, أي: إن ع قل المجيز إذا كان وافرًا وفر العطية, وإذا كان ناقصًا كان ما يعطيه كذلك, ويحتمل أن يكون المجاز هاهنا: الشعر؛ وذلك أشبه من المعنى الأول, ولا يحسن أن يراد بالمجاز الشاعر؛ لأنه إذا أراد ذلك احتاج إلى أن يكون قد حذف المضاف, كأنه قال: وعقل المجيز مثل عقل المجاز, وفي هذا انتقاص للممدوح لأنه يجعل عقله مثل عقل الشاعر.












مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید