المنشورات
أظبية الوحش لولا ظبية الأنس ... لما غدوت بجد في الهوى تعس
وهي من البسيط الأول.
أكثر ما يقولون: جد تاعس؛ لأنهم يقولون في الماضي: تعس, بفتح العين, ويجوز أن يقال: تعس إذا جعل ذلك له كالخلق اللازم, كما يقولون: فرق وأشر ... ويجب أن يقال في الماضي تعس؛ لأن أسماء الفاعلين إذا كانت على فعل فالأغلب عليها أن يجيء الماضي على فعل كقولهم: حذر فهو حذر, وأمر الشيء فهو أمر إذا كثر.
وقوله:
ولا وقفت بجسمٍ مسي ثالثةٍ ... ذي أرسمٍ درسٍ في الأرسم الدرس
يقال: جئتهم مسي ثالثةٍ, ومسي ثالثةٍ: يعنون الليلة الثالثة. والمسي مؤد عن معنى المساء. وينشد: [الطويل]
لقيت ابنة الهندي زينب عن عفر ... ونحن حرام مسي عاشرة العشر
واستعار (88/ب) الأرسم للجسم لما كان يشبهه بالديار, وحسن ذلك أنهم يقولون لشخص الرجل: طلل, كما يقال ذلك للربع إذا كان لأثره شخوص, فإذا درست تلك الصورة فهي رسوم.
وقوله:
صريع مقلتها سآل دمنتها ... قتيل تكسير ذاك الجفن واللعس
خفض قوله: صريع مقلتها لأنه حمله على جسم, فإن أراد به التنوين فهو نكرة جارٍ على نكرةٍ, وإن جعله معرفةً جعله بدلًا من جسم, ولو نصب صريعًا وما بعده من المضافات على أنه حال من التاء في (وقفت) لكان ذلك حسنًا.
والدمنة آثار القوم في الديار. واللعس: سمرة في الشفتين.
وقوله:
ما ضاق قبلك خلخال على رشأ ... ولا سمعت بديباجٍ على كنس
يقول: أنت تشبهين الرشأ في بعض الصفات, ولكنه لا يلبس خلخالًا فيضيق عليه, وأنت من شأنك أن تلبسي الحلي, ولا سمعت أن كناس ظبيٍ يجلل بالديباج؛ لأن الظباء إنما تكنس في أصول الشجر, وأنت إذا ركبت في الهودج فكأنه كناس لك؛ لأنك تأوين إليه كما تأوي الظباء إلى الكنس, وهي جمع كناسٍ, وإنما قيل لموضع الوحشي: كناس؛ لأنه يزيل عنه التراب أو الرمل ليتمكن إذا ربض, فكأنه يكنسه, ثم صار ذلك الفعل كأنه غير متعد. فقيل: كنس الظبي إذا حصل في الكناس, ومنه قوله تعالى: {الجوار الكنس} شبهها إذا توارت بالظباء المتوارية في الكنس.
وقوله:
إن ترمني نكبات الدهر من كثبٍ ... ترم امرأً غير رعديدٍ ولا نكس
من كثبٍ: أي: من قربٍ. والمعروف في ذم الرجل ووصفه بالضعف: نكس, وقلما يقولون: نكس, ويجب أن يكون هذا الوصف محمولًا على نكس ينكس كما أن حذرًا محمول على حذر يحذر, وربما اجترؤوا على حذف الياء من فعيل, قال الهذلي: [البسيط]
ولا السماكان إن يستعمل بينهما ... يطر بشدة يومٍ شره أصل
أي: أصيل. فإن كان أراد نكيسًا فحذف الياء فقد يمكن ذلك إن كان حمله على نكس؛ لأن فعيلًا إذا كان اسم فاعل فهو أقرب إلى فعلٍ من فعيلٍ إذا كان معدولًا عن مفعولٍ.
وقوله:
أبا الغطارفة الحامين جارهم ... وتاركي الليث كلبًا غير مفترس
الغطارفة: جمع غطريفٍ, وهو من صفات السادة, فقيل: هو السخي, وقيل: الشجاع, وبعض الناس يذهب إلى أنه مأخوذ من السرعة كأنه يسرع إلى المكارم.
وقوله:
دانٍ بعيدٍ محب مبغضٍ بهجٍ ... أغر حلوٍ ممر لينٍ شرس
يحتمل أن يعني بدانٍ أنه يقرب من العافين, أو يدنو إلى كل خلقٍ حميدٍ, وبعيدٍ: أي: يبعد من كل خلقٍ مذمومٍ, وعلى عدوه إذا أراده بكيدٍ, ويدخل تحت قوله: دان بعيدٍ أشياء كثيرة منها أنه يقرب من الجلساء, ولا يعلم بما في ضميره من الأسرار؛ لأن كتمان السر مما يوصف به الممدوح وبذلك أوصى الحكماء. ومن هذا النحو قول الآخر: [الطويل]
قريب ثراه لا ينال عدوه ... له نبطًا صدق المقام أريب
يريد أن ثراه إذا طلب ما عنده من المعروف موجود, ولا يبعد, وهو مع ذلك لا ينال عدوه نبطه, أي: لا يعلم سره, ولا يظفر منه بالمراد, وهو مأخوذ من نبط البئر, وهو الماء الذي يستنبط منها. وقوله: محب مبغضٍ: أي: يحب أفعال الكرام, ويبغض ما خالفها من الفعل المذموم. ويقال: بهج وبهيج: يراد بهما بهجة الوجه؛ أي: حسنه, وقيل: يراد بالبهج الذي يبين فيه البهجة أي: الفرح بالزوار, وقوله: حلوٍ ممر: أي: يحلو لمن قصده أو حل بداره ويمر على الأعداء؛ وذلك وصف يتردد في الشعر القديم والمحدث. قال الهذلي: [البسيط]
حلو ومر كعطف القدح مرته ... بكل إنيٍ حذاه الليل ينتعل
وهم يصفون الرجل باللين, وإنما يريدون أنه يلين للعافين والطالبين, لا أنه يلين للمحارب, وقال بعض العلماء: يقال: هين لين للرجل يمدح بذلك, كما قال الكلابي: [البسيط]
هينون لينون أيسار بنو يسرٍ ... سواس مكرمةٍ أبناء أطهار
المعروف: أيسار, فإذا قالوا: هين لين فهو ذم, والسماع قد جاء بخلاف ذلك؛ لأنه قد جاء في الحديث المأثور: «المؤمن هين لين كالبعير الآنف إن قدته انقاد, وإن أنخته على صخرةٍ استناخ» , وقال المتنخل الهذلي: [المتقارب]
لعمرك ما إن أبو مالكٍ ... بوانٍ ولا بضعيفٍ قواه
ولكنه هين لين ... كعالية الرمح عرد نساه
فهذا يدل على أن قولهم: هين لين وهين لين لا يفرق بينهما في الصفات إلا في لفظ التشديد وتركه.
وقوله:
ندٍ أبي غرٍ وافٍ أخٍ ثقةٍ ... جعدٍ سري نهٍ ندبٍ رضًى ندس
ندٍ: من الندى (89/أ) , الذي يراد به السخاء, وأبي: من الإباء, وهو أشد مبالغةً من آبٍ كما أن عليمًا زائد في ذلك على عالم. وقوله: غرٍ: يجوز أن يكون ذهب إلى أنه يغرى بالمكارم فيحمله على غري يغرى إذا لهج بالشيء. وحكى بعض أهل اللغة أنهم يقولون: غري في صفة الرجل يريدون الحسن, والمصدر الغراوة, وينشد: [الكامل]
أحثو التراب على محاسن جسمه ... وعلى غراوة وجهه النضر
فإن كان أراد غريًا, وخفف الياء فليس ذلك بممتنع. وقوله: أخٍ: أي: إنه إذا صادق صديقًا وفي له, فكأنه أخ في النسب. وقوله: نهٍ أخذه من النهى, وهي جمع نهيةٍ؛ أي: عقلٍ, وإنما قيل للعقل: نهية؛ لأنه ينهى صاحبه عن القبائح. وندب: سريع الإجابة إلى قضاء المآرب, كأنه يعين من ندبه لأمرٍ. ورضى: أي: يرضى به, وهو حرف يستعمل للواحد والاثنين والجميع على لفظٍ واحدٍ. قال زهير: [الطويل]
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم ... هم بيننا فهم رضًى وهم عدل
وندس: أصل الندس من قولهم: ندسه بالرمح إذا طعنه به, قال جرير: [الطويل]
ندسنا أبا مندوسة القين بالقنا ... ومار نجيع من دم الجوف ناقع
وربما قالوا: الندس الجيد الطعن. ويقوم قوم: الندس العالم بأخبار الناس. ويقال: ندس وندس.
وقوله:
لو كان فيض يديه ماء غاديةٍ ... عز القطا في الفيافي موضع اليبس
الفيافي: جمع فيفاء, وهو مكان مقفر مأخوذ من الفيف, والقطا تكون في الأماكن البعيدة لتتخذ بها الأفاحيص.
وعز: في معنى غلب وأعيا. واليبس: الأرض لا ماء فيها. وقد يقال لها: يبس إذا يبس نبتها. وقالوا: حطب يبس, وكذلك العرق إذا يبس, قال الشاعر وأنشده الفراء: [الطويل]
فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته ... على العيس في أعطافها عرق يبس
وقوله:
أكارم حسد الأرض السماء بهم ... وقصرت كل مصرٍ عن طرابلس
اصطلحت العرب على أن تسمي المدينة العظيمة: مصرًا. وكانت الكوفة والبصرة في صدر الإسلام يقال لهما: المصران. ويجوز أن يكون الراجز عناهما بقوله: [السريع]
قد خفت أن يحدرنا للمصرين ... زحف من الجراد بعد الزحفين
فأما مصر التي على النيل فاسمها قديم, ويقال: إنها منسوبة إلى مصراييم, وهو من ولد سام بن نوح.
وإذا حمل المصر على كلام العرب جاز أن يكون من قولهم للحاجز بين الشيئين: مصر, أي: هذا البلد يحجز بين مكانين غير مسكونين, وذلك موجود في كل الأمصار, إلا أن يكون ما لا يعلم, لأن كل مصرٍ لابد أن يكون حواليه مواضع للزرع والغراس لا يكثر فيها الناس ككثرتهم فيه, وهذا البيت يروى لعدي بن زيدٍ, ولأمية بن أبي الصلت: [البسيط]
وجعل الشمس مصرًا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
والسماء: الغالب عليها التأنيث, وربما جاء بالتذكير, وفي الكتاب العزيز: {السماء منفطر به} , فيروى عن الخليل أنه قال: المعنى ذات انفطارٍ؛ كأنه جعلها من جنس قولهم: امرأة حامل ومرضع؛ أي: ذات حملٍ, وذات إرضاع, وهذا لا يخرجها من حد التأنيث, وقيل: ذكرها على معنى السقف؛ لأن القرآن فيه: {والسقف المرفوع} وإنما المراد: السماء. قال الشاعر: [الطويل]
وقالت سماء البيت فوقك مخلق ... فلما نيسر أحبلًا للركائب
وقال قوم: يقال سماء وسماءة, فإذا جعل مثل سحابٍ وسحابةٍ جاز أن يقال: سماء ممطر كما يقال: سحاب روي, فيذكر, وجاز أن يقال: سحاب رواء وثقال, ويقال: مطرت السحاب فيؤنث على معنى الجمع, وكل مالا تأنيث له حقيقي فتأنيثه وتذكيره جائزان. وحقيقة التأنيث أن تكون المؤنثة مما يلد أو يبيض, وإذا فصلوا بكلام بين الفعل المؤنث سهل عندهم التذكير كقول العرب: حضر القاضي اليوم امرأة؛ فهذا أيسر عندهم من أن يقال: حضر امرأة اليوم القاضي, وبيت أبي الطيب قد فصل فيه بين الفعل والفاعل, وأشد منه قول القائل: [الوافر]
لقد ولد الأخيلط أم سوءٍ ... لدى حوض الحمار على مثال
فتأنيث أم حقيقي, وليس كذلك تأنيث السماء.
وقوله: وقصرت كل مصرٍ: هو مثل قول العرب: ذهبت بعض أصابعي لما كان بعض يقع على الإصبع حسن أن يجاء بالتاء, ولو كان الكلام في غير الموزون لكان الأحسن أن يقال: وقصر كل مصرٍ, لأن الغالب على المصر التذكير, وإنما يقولون: مصر عظيم, ويجوز تأنيثه إذا أريد به البلدة أو المدينة.
وقوله:
أي الملوك وهم قصدي أحاذره ... وأي قرنٍ وهم سيفي وهم ترسي
(89/ب) قد مضى القول في أن الثلاثي إذا كان ساكن الأوسط, ولم يكن الحرف المتوسط من حروف اللين جاز تحريكه وإسكانه كقوله: جند وجند وصبح وصبح, فإذا كان المتوسط واواً, مثل قولهم: الموق في المصدر من المائق قبح أن تحرك فيقال: موق, فإن اتفق أن يكون جمًا, مثل سورٍ جمع سوارٍ, وسؤالٍ جمع سؤال جاز تحريكه في الشعر, كما قال الأول: [المتقارب]
أغر نقيًا شتيت النبا ... ت تمنحه سوك الإسحل
أراد جمع سواكٍ. وقالوا في جمع ترسٍ أتراس في أقل العدد, وتروس في الكثير, قال الراجز:
تخال شمسًا ركبت شموسًا ... أسيافنا والبيض والتروسا
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
20 أبريل 2024
تعليقات (0)