المنشورات

هذي برزت لنا فهجت رسيسا ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا

وهو من ثاني الكامل.
قوله: هذي أشبه ما يقال فيه أنهأراد: هذي البرزة برزت لنا أو هذي المرة ونحو ذلك. ويكون موضع هذي نصبًا على الظرف؛ لأنها مشار بها إلى ما يحتمل أن ينصب كنصب الظروف. وإذا وقعت هذا على اسم من أسماء الزمان أو على ظرفٍ من ظروف الأمكنة فموضعها نصب, مثل قولك: جئتني هذا اليوم, أي: في هذا اليوم, وذهب قوم إلى أنه أراد: يا هذي برزت لنا فحذف حرف النداء, والنحويون ينكرون أن يحذف الحرف من الاسم المنادى إذا كان م ما يصلح أن يكون نعتًا للمبهم, فلا يجيزون: هذا الرجل أقبل. وهم يريدون يا هذا؛ لأنها تقع بعد أي في قولك: يا أيهذا الرجل, ويمتنعون من قولهم: رجل أقبل, وهم يريدون يا رجل؛ لأنك تقول: يا أيها الرجل فتنعت به أي, فإن استعمل ذلك فهو ضرورة كأنهم كرهوا أن يحذف حرف النداء من غلم العلم أو المضاف ويحملون على الضرورة قول العجاج: [الرجز]
جاري لا تستنكري عذيري
كأنه أراد: جارية, ويجعلون قول العرب: افتد مخنوق, وأصبح ليل, جاريًا مجرى المثل, والأمثال يجوز فيها ما يجوز في الشعر؛ لأنها تكثر على الألسن وتستخف, قال بشر بن أبي خازم: [الوافر]
فبات يقول أصبح ليل حتى ... تجلى عن صريمته الظلام
والرسيس: بقية الحب في القلب كأنه أخذ من قولهم: ماله رسيس؛ أي: حس. قال الأفوه: [السريع]
في مهمه ما لأنيس به ... حس ولا فيه له من رسيس
ويجوز أن يحمل هذا على البقية. والنسيس: بقية النفس. قال أبو زبيد: [الوافر]
إذا ضمت يداه إليه قرنًا ... فقد أودى إذا بلغ النسيس
ويجوز أن يكون تسميتهم لأخر النفس نسيسًا؛ من قولهم: نسست الضأن وغيرها إذا سقتها, كأنه فعيل في معنى مفعول؛ لأنهم يقولون في صفة الميت: ساق إذا حصل في النزاع وهو يسوق نفسه, وينشد لطهمان بن عمرو الكلابي: [الطويل]
ولو أن ليلى العامرية سلمت ... علي مسجى في الثياب أسوق
إذًا لطننت الموت يتركني لها ... وتفرح عني كربة ومضيق
وقوله:
خود جنت بيني وبين عواذلي ... حربًا وغادرت الفؤاد وطيسا
الوطيس: حفرة تحفر في الأرض ويختبز فيها, ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض الأيام: «الآن حمي الوطيس» يريد الحرب. شبه اشتعالها باشتعال النار في التنور, وهذا البيت يروى لتأبط شرًا: [الكامل]
إني إذا حمي الوطيس وأوقدت ... للحرب نار منية لم أنكل
وقال الأفوه: [السريع]
أدين بالصبر إذا ضرمت ... نيرانها الحرب اضطرام الوطيس
وقوله:
بيضاء يمنعها تكلم دلها ... تيهًا ويمنعها الحياء تميسا
قد مضى الكلام في نحو من هذا؛ وذلك عند قوله: متى ما شئت تبلوه.
والبصريون ينكرون إضمار عوامل الأفعال, والكوفيون يتجوزون في ذلك.
وقد جمع هاهنا بين شيئين: أحدهما: كالضرورة وهو حذفه أن في الموضع الذي يجب دخولها منه, لأن الوجه أن يقول: يمنعها أن تكلم, والآخر ضرورة وهو نصبه الفعل بالعامل المحذوف, وفعل ذلك في موضعين من هذا البيت.
والرواة ينصبون تكلم, وما أجدر أبا الطيب أن يكون على ذلك وضعه ليساوي بينه وبين قوله: تميس. ولو رفع تكلم لم يكن فيه إلا ضرورة واحدة, وذلك أحسن من ضرورتين.
والدل ما يظهر للمرأة من حسنطريقة وسكون. وأكثر ما يستعمل الدل للنساء, وربما استعملوه في الرجال, وذلك قليل. قال الراجز: [الرجز]
لو أن سلمى شهدت مظلي ... تمتح أو تدلج أو تعلي
إذًا لراحت غير ذات دل
تدلج: من الدالج, وهو الذي يحمل الدلو من البئر إلى الحوض. والتعلية: تستعمل في (90/أ) موضعين إذا كانت في السقي: أحدهما: أن يكون رد الحبل إلى البكرة إذا خرج منها, وهي الإمراس, والآخر: أن ينزل الماتحان إلى البئر فيمسك أحدهما الدلو, ويغرف الآخر الماء, فيصبه فيها, فالغرف هو التعلية.
وقوله:
إن حل فارقت الخزائن ماله ... أو سار فارقت الجسوم الروسا
يقال: رأس ورؤوس؛ فهذه اللغة الفصيحة. وقد قالوا: روس فحذفوا, فيجوز أن يكون حذفهم للهمزة إذ كانت مستثقلة, كما قالوا: سواية يريدون: سوائية, حكى ذلك أبو زيد, ويجوز أن يكون خففوا الهمزة فجعلوها بين بين فقربت من الساكن فحذفت لذلك, أو يكون الذين قالوا: {وس حملوا الكلمة على مثل قولهم: لإرس ورد, وخيل ورد, فكأنهم جمعوا راسًا على روسٍ؛ فيكون حذفهم للزائد دون الأصلي؛ لأن الهمزة في رؤوس أصلية, والواو مزيدة, قال الشاعر: [المديد]
إنما هند كشمسٍ تجلت ... يوم عيدٍ فوق روس الجبال
ومما يجري مجرى قولهم: الروس قولهم: الليم في اللئيم. قال الشاعر: [الكامل]
وإذا حبوت الليم منك صنيعةً ... غلب الصنيعة لؤمه فلواكها
فإن كان المحذوف من الروس الهمزة؛ فوزن ما بقي منه (فول) لأن الهمزة كانت موضع العين, وإن كان المحذوف الواو فالباقي (فعل) , وكذلك اللئيم إن اعتقد أن المحذوف الهمزة فوزن ليمٍ (فيل) وإن اعتقد أنه الياء فوزن الباقي (فعل).
وقوله:
ملك إذا عاديت نفسك عاده ... ورضيت أوحش ما كرهت أنيسا
هذا الكلام إذا حمل على ما هو مرتب عليه فهو على إرادة (فاءٍ) , كأنه قال: إذا عاديت نفسك فعاده, وحذف الفاء ربما استعملوه في الجزاء وجواب أما, وهو من الضرورات, ومن ذلك قول عبد الرحمن بن حسان: [البسيط]
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان
كأنه أراد: فالله يشكرها. وقال آخر في حذف الفاء من جواب أما: [الطويل]
وأما إذا ما روح الجدب سرحهم ... ولاح لهم من العشيات سملق
نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
وإذا مشبهة بحروف الجزاء, وربما جزموا بها في الشعر, أراد: فنفى الذم. وأحسن من هذا الوجه أن يحمل بيت أبي الطيب على التقديم والتأخير, كأنه قال: عاد نفسك إذا عاديته. ويدلك على أنه أراد هذا الوجه قوله:
ورضيت أوحش ما كرهت أنيسا
لأنه إذا حمل على الوجه الأول بعد حمله على قولك: عاده, وذلك في الوجه الثاني واضح جيد, كأنه قال: عاد نفسك إذا عاديته, وإذا رضيت أوحش ما كرهت أنيسً, فيعطف ر (رضيت) على (عاديت) , ولم يرد إلا ذلك.
وقوله:
الخائض الغمرات غير مدافعٍ ... والشمري المطعن الدعيسا
الدعيس: فعيل من (دعس) إذا طعن, ويقال للرمح: المدعس؛ لأنه يدعس به؛ أي: يطعن, قال الشاعر: [الطويل]
ونحن صبحنا أهل نجران غارة ... صدور المذاكي والرماح المداعسا
وقال الراجز: [الرجز]
أنا عمير وأبو المغلس ... وبالقناة شمري مدعس
ويقال للأثر الواضح: دعس, كأنه قد دعس بالحوافر والأخفاف؛ أي: طعن.
وقوله:
كشفت جمهرة العباد فلم أجد ... إلا مسودًا جنبه مرؤوسا
جمهرة الشيء: معظمه وخياره, وهو مثل الجمهور, ويقال: كتيبة جمهور؛ أي: هي من خيار الكتائب, قال عمرو بن الأيهم التعلبي: [الخفيف]
ولقد كنت يا غني غنيًا ... عن قراع الكتيبة الجمهور
وجمهور الرمل معظمه, قال ذو الرمة: [الطويل]
خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بجمهور حزوى فابكيا في المنازل
ومرؤوس: من قولهم: رأسهم الرجل إذا صار لهم رئيسًا, وجنبه: منصوب على الظرف, كأنه قال: كل سيد إذا قيس إلى هذا الممدوح كان مرؤوسًا جنبه؛ أي: في ناحيته, وأكثر ما يقولون للرجل رئيس, كأنهم قصدوا فيه المبالغة. وقالوا: رائس الكلاب للذي هو عظيمها, ولعلهم لما استعملوه في الكلاب ميزه من رئيس الإنس فقالوا: رئيس, وهذا إذا حمل على مذهب النحويين جاز أن يكون على مذهب المبالغة, كما قالوا: عالم وعليم, وشاهد وشهيد, فأما قول العامة: ريس فهو قليل في الكلام الأول. وقد جاء في شعر أنشده ابن السكيت وهو: [الكامل]
تلقى الأمان على حياض محمد ... ثولاء مخرفة وذئب أطلس
لا ذي تخاف وذاك ليس يروعها ... تهدى الرعية ما استقام الريس
وإذا حمل الريس على أنه من رأس فأصله الهمز, كأنه رئيس, وفيعل في غير المعتل مفقود لا يوجد (90/أ) مثل: صيرف وحيدر؛ فيحتمل أن يكون رئيس خففت فيه الهمزة تخفيفًا لازمًا, فصار يشبه المعتل مثل: هين ولين. وقد حكي أن بعض القراء قرأ: {بعذاب بيئسٍ} , في معنى بئيسٍ, فإن صح ذلك فهو شاذ لا يقاس عليه. واشتقاق ريسٍ إذا لم يهمز يجوز أن يكون من قولهم: راس يريس إذا تبختر في مشيته؛ لأنهم يصفون السادة بذلك, فيكون حينئذ من المعتل الذي جاء على فيعل, وهو كثير.
وقوله:
بشر تصور غايةً في آيةٍ ... تنفي الظنون وتفسد التقييسا
غاية الشيء: نهايته. وقالوا لراية الجيش: غاية؛ لأن من تبعه ينتهي إليها, وحكوا: غييت غايةً إذا اتخذتها, فدل ذلك على أن الألف منقلبة عن ياء. والآية: العلامة تستعمل فيما صغر وكبر فيقال: آية لقائيك صياح العصفور, فهذا فيما صغر, ويقولون فيما عظم: هذه آية من الله, والآية من القرآن يراد أنها علامة للنبوة, قيل: إنما يراد بها جماعة حروف؛ لأنهم يقولون: خرج القوم بآيتهم؛ أي: بجماعتهم, وأنشدوا للبرج بن مسهر الطائي: [الطويل]
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا ... بآيتنا نزجي العتاق المطافلا
والتقييس: مصدر قيست, وفعلت في هذا قليلة, وإنما يقولون: قايست الأمور. والمعنى أن هذا الممدوح ظهرت فيه من الفضائل أشياء تفسد القياس؛ لأنها خارجة عن العادة.
وقوله:
وبه يضن على البرية لا بها ... وعليه منها لا عليها يوسى
البرية: الخلق, يقال: إن أصلها الهمز؛ لأنها من برأها الله سبحانه؛ أي: خلقها. ولكنهم تركوا همزها تركًا مستمرًا فلم يهمزها إلا أناس قليل, وقيل: هي مأخوذة من البرا؛ أي: التراب, فلذلك لم تهمز.
ويوسى: من الأسى, وهو الحزن. وأصل الواو فيها الهمز, ولا يجوز همزها في هذا الموضع؛ لأن ذلك يؤدي إلى فقد اللين.
وقوله:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا
ذو القرنين: هو المذكور في كتاب الله سبحانه, وقد اختلف في تسميته بهذا الاسم؛ فأشبه ما يقال في ذلك أنه كان له قرنان من شعرٍ؛ أي: ذؤابتان. وبعض أصحاب الكتب المتقدمة يذكر في ذلك شيئًا مستحيلًا, وهو أنه كان قرنا رأسه من نحاسٍ. وقرن الرأس جانبه, وقيل: سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ المشرق والمغرب فكأنهما جعلا قرني الأرض.
وقوله:
أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركةٍ لأعيا عيسى
عازر: اسم ليس بعربي, إلا أنه يوافق من العربية فاعلًا من العزر والتعزيز, يقال: عزرت الرجل إذا هبته وعظمته. وعزرته إذا ضربته دون الحد. والعزر شجر أيضًا.
وهذا البيت يدل على أن أبا الطيب سمع أن عيسى عليه السلام أحيا عزر, وعيسى: كلمة غير عربية أيضًا؛ إلا أنها وافقت فعلى من العيس وهي الإبل البيض التي يعلو بياضها شقرة. يقال: بعير أعيس بين العيس, والعيس أيضًا ماء الفحل, وقالوا: عاس المال يعوسه إذا أحسن القيام عليه, فلو بني من هذا اسم على فعلى لقيل: عيسى, فقلبت الواو ياءًا لانكسار ما قبلها. ومثل ذلك قولهم: قسمة ضيزى, وهي من ضازه يضوزه إذا ظلمه ونقصه من حقه, وقد حكي: ضازه يضيزه.
وقوله:
ولحظت أنمله فسلن مواهبًا ... ولمست منصله فسال نفوسًا
الأنملة: فيها لغتان معروفتان: فتح الميم وضمها, فإذا فتحت الميم فلها أمثال كثيرة, مثل قولهم: أرملة يريدون به الجماعة الفقراء.
فأما قول العامة للمرأة التي قد مات زوجها: أرملة فلا ريب أنها عربية, وهي مأخوذة من أرمل إذا استقى, وإنما قيل للفقير: مرمل؛ لأنه يراد أن ماله ذهب فكأنه بقي على الرمل, ومثل ذلك قولهم: أدقع فهو مدقع؛ أي: ذهب ماله, ولم يبق له ما يحتمل عليه حتى بقي على الدقعاء, وهي التراب الدقيق. وقيل: الدقعاء: ظاهر الأرض, ويدل على أن قولهم للتي مات زوجها: أرملة كلام صحيح عربي قول جريرٍ: [البسيط]
هذه الأرامل قد قضيت حاجتها ... فما تقول لهذا الأرمل الذكر
فصفته الأرمل بالذكر يشهد بأنهم يقولون للأنثى: أرملة. ومثل الأنملة بفتح الميم قولهم للجماعة: أزفلة.
فأما أنملة بضم الميم فمثالها قليل. وقالوا في الجمع: أنمل فجاؤوا به على أفعلٍ. وسيبويه يزعم أنه لم يجئ في الكلام (91/أ) شيء على مثال أفعلٍ من الأحاد, ولا ينكسر قوله بقولهم: أنمل؛ لأن أنملًا جمع, وإن كان جاريًا مجرى الواحد. وهمزة أنملٍ زائدة, كذلك يوجب قياس التصريف؛ لأن الهمزة إذا كان بعدها ثلاثة أحرف من الأصول حكم بأنها زائدة. وحكى بعضهم: رجل مؤنمل إذا كان عظيم الأنامل, وليس ثبات الهمزة في هذا دليلًا على أنها أصلية وإنما يحمل على الشذوذ, كما قالوا: كساء مؤرنب إذا صنع من صوف الأرانب, وقيل: إذا كان لونه لون الأرنب. قالت ليلى الأخيلية: [الطويل]
تدلت على حص الرؤوس كأنها ... كرات غلامٍ في كساءٍ مؤرنب
واشتقاق الأنملة من قولهم: رجل نمل, وجارية نملة إذا كانت كثيرة الحركة؛ يراد أن حركتها تكثر في طلاب الأشياء من مأكل وغيره, وحكى بعضهم: أصبع في إصبعٍ فإن صح ذلك فقد شذ عن سيبويه هذا الحرف, فأما اعتراضهم عليه بالأثمد وهو اسم موضعٍ من قول القائل: [المتقارب]
تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقد
فلا يلزمه ذلك؛ لأن الأثمد جمع ثمدٍ, وهو الماء القليل, سمي به هذا الموضع. وقد قالوا: الآنك لهذا الشيء المعروف, وهو أعجمي معرب, وقد استعملوه قديمًا. وفي الحديث المأثور: «صب في أذنيه الآنك». وذهب قوم إلى أن الأشد من قولهم: بلغ أشده اسم موحد على أفعلٍ, والذي عليه الناس أنه جمع, فمنهم من يقول: هو جمع شدة على حذف الهاء, كما قالوا: ضد وأضد, وهذا البيت يروى لأبي دوادٍ: [المديد]
نحن قتلنا ببرقة ذي غا ... نٍ على رغم العدو الأضدا
وقال بعضهم: أشد لم يستعمل واحده, فيجوز أن يكون جمع شد وشد وشد؛ لأن هذه الثلاثة يجوز أن تجمع على أفعل, فشد وأشد مثل كف وأكف, وإن كان الواحد شدًا فهو مثل قولهم: ضر, وأضر, وإن كان شدًا فهو مثل: ضد وأضد. ويدل على أنه جمع تأنيثهم إياه فيقولون: بلغت أشد الغلام. قال الراجز: [الرجز]
بلغتها فاجتمعت أشدي ... وشذب الباطل عني جدي
وحكى ابن السكيت: أرز وأرز؛ فأرز, بفتح الهمزة على مثال: أفعلٍ, ويدل على ذلك قول بعضهم: رز بحذف الهمزة. ويحتمل أن يدعى في همزة أرز أنها أصلية لقولهم: أرز, وأرز في بعض اللغات. فإذا قيس على قولهم: أرز فهو أفعل, وإذا حمل على قولهم: أرز فهو فعل.
والمنصل: السيف, يقال: منصل ومنصل؛ فأما منصل, بفتح الصاد, فهو القياس؛ لأنه من قولهم: أنصلته إذا أخرجته من غمده, كما يقال: أنصلت الرجل من ماله إذا أخرجته منه.
وأما منصل فشاذ عن القياس, وإنما صمت الصاد لأجل ضمة الميم. ومثل ذلك قولهم: منتن الرائحة, بضم التاء, وإنما القياس كسرها؛ لأنه من أنتن الشيء إذا تغيرت رائحته, وصارت كريهةً, وبيت عنترة ينشد على الضم: [الكامل]
إني امرؤ من خير عبسٍ منصبًا ... شطري وأحمي سائري بالمنصل
ونفوس هاهنا: جمع نفسٍ, والأحسن أن يراد بها الروح؛ لأنه أشد في المبالغة, وقد يسمى الدم نفسًا, وبعضهم يفسر قول أوس بن حجرٍ: [الكامل]
نبئت أن بني سحيمٍ أدخلوا ... أبياتهم تامور نفس المنذر
على أن النفس: الدم. والتامور: دم القلب. وأما قول الأول: [الطويل]
تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير السيوف تسيل
فيحتمل الوجهين, إلا أن المحدثين أشد مبالغةً في الصفات من الشعراء المتقدمين, وإنما سمي الدن نفسصا؛ لأنه بقاء للنفس, ومتى ذهب لم يكن لها في الجسم مقام.
وقوله:
يا من نلوذ من الزمان بظله ... أبدًا ونطرد باسمه إبليسا
الظل: أصله الستر, وإذا قالوا: جلس في الظل وفي الشمس فالمراد به ما استتر عنها, أو ما ستر الجاليس فيه. والفيء ما كان فيه فزالت عنه, ومن الظل قولهم: أظله الأمر كأنه أشرف عليه فكان له كالستر, وجمع الظل أظلال في القلة, وظلول في الكثرة. قال الراجز:
إذا البخيل لج في بخوله ... وغال شح نفسه بغوله
كنت الذي يعاش في ظلوله
وقال آخر: [الطويل]
وقد صرت في شرق البلاد وغربها ... وقد لوحتني شمسها وظلولها
وإذا وصفوا الفرس بالسرعة قالوا: هو يباري ظله, كأنهم يريدون أنه يكاد من سرعته يسبقه. قال لبيد: [الرمل]
يطرد الزج يباري ظله ... بطريرٍ كالسنان المنتخل
وكثر قولهم: فلان في ظل الشجرة, وفي ظل الجدار, حتى قالوا: هو في ظل فلانٍ؛ أي: في عزه ومنعته. وسموا العزر ظلًا في بعض المواضع, قال الشاعر: [الطويل]
فلو كنت مولى الظل أو في ظلاله ... ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلم
فأما قولهم لباطن خف البعير: الأظل, فيجوز أن يكون سمي بذلك لاستتاره لما كان غيره من شخص البعير (91/ب) يضحى للشمس. وزعم قوم أنه يجمع على ظل مثل: أصم وصم, وليس ذلك بمعروف؛ وإنما يستعمل فعل في جمع أفعل إذا كان له فعلاء, مثل: أغر وغراء, وأشل وشلاء, والأقيس في جمع أظل أن يقال: أظال, ولا يمكن أن يجيء في شعر إلا أن يقع في قافيةٍ, وإنما يحتمله حشو البيت في موضعٍ واحدٍ, وليس هو بمجمعٍ عليه, كما أنشدوا هذا البيت, ويقال إنه مصنوع: [المتقارب]
فرمنا القصاص وكان التقاص ... ص فرضًا وحتمًا على المسلمينا
فأما الأظال فما علمته قيل في منظوم ولا منثورٍ, ولكن القياس يجيزه.
وضرب من الطير يقال له: ملاعب ظله.
ومن لفظ الظل قولهم: ظل يفعل كذا إذا فعله نهارًا, كأنهم يريدون فعله في الوقت الذي يحتاج فيه إلى اظل لليستر من حر الشمس, ولا يقولون: ظل يفعله ليلًا, إنما يقولون: بات يفعل, وقد حكي أن (ظل) يستعمل في الليل؛ فإن صح ذلك فلأنهم قالوا: في ظل أخضر؛ أي: في ستر ليلٍ أخضر, قال ذو الرمة: [البسيط]
قد أعسف النازح المجهول معسفه ... في ظل أخضر يدعو هامه البوم
وقالوا: ظل ظليل على معنى المبالغة, كما قالوا: شيب شائب, وشغل شاغل.
وقوله: نطرد باسمه إبليسا أي: اسمه محمد وهو كاسم النبي, والنبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر فر الشيطان. وإبليس ليس باسمٍ عربي. وقول بعض المفسرين: سمي إبليس من (أبلس) من رحمه الله, إذا يئس؛ إنما هو على المجاز, ولو كان مشتقًا من (أبلس) لوجب أن ينصرف؛ لأنه عربي, وإنما امتنع من الصرف للعجمة والتعريف.
وقوله:
صدق المخبر عنك دونك وصفه ... من بالعراق يراك في طرسوسا
معنى هذا البيت أن المخبر عنك لا يوجد كاذبًا؛ لأن وصفه لك دون ما أنت عليه من الفضل والكرم؛ لأن واصف الإنسان إذا غلا في صفته حتى يجاوز ما هو عليه فقد كذب؛ مثل أن يقول: هو يعطي السائل ألف دينارٍ, وتكون عادته أن يعطيه مئةً أو دونها, فهذا كذب لا محالة, فإن قال مخبرًا عمن يعطي ألف دينارٍ: هو يعطي مئةً فقد صدق؛ لأن المئة داخلة في جملة الألف, فهذا وجه له.
ويجوز أن يحمل على أن المخبر عنه يقول: هو فوق وصفي له, فيكون صادقًا في هذا القول.
ونصف البيت الثاني تفسير للنصف الأول؛ كأن الواصف له يقول: رأيته بطرسوس فهذا اقتصاد في الوصف؛ لأنه ادعى أن من بالعراق يراه وهو مقيم بطرسوس, فيراه هاهنا تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من رؤية العين فذلك من مبالغة الشعراء وادعائهم ما ليس بكائنٍ, والآخر: أن يكون من رؤية العلم, فهذا جائز أن يكون, وله في حكم الشعر معنى لطيف كأن الواصف قال: رأيته بطرسوس, وهو يريد النظر, فقال السامع: صدقت قد رأيناه بالعراق؛ أي: من رؤية العلم فقد ساويناك في لفظ الرؤية, أي قد صح معنا فضله وجوده.
وقوله:
بلد أقمت به وذكرك سائر ... يشنى المقيل ويكره التعريسا
قد مضى القول في تخفيف الهمزة في مثل يشنأ, وكل ما كان من الهمز في آخر الكلمة وقبله فتحة, وأنه يجوز أن يجعل ألفًا؛ لأن الناطق به في غير الشعر يقف عليه بالسكون, فإذا سكنت الهمزة وقبلها فتحة جاز أن تحول إلى الألف, فإن كان قبلها ضمة مثل قولهم: لؤلؤ جاز أن تجعل واوًا.
وقد فعل ذلك بعض القرء؛ إلا أنها إذا جعلت واوًا لم يجز أن تقلب إلى الياء, كما يفعل ذلك في الواو إذا وقعت طرفًا وقبلها ضمة, مثل قولهم في جمع دلوٍ: أدلٍ, وأصله أدلو, فإن كان قبل الهمزة المتطرفة كسرة جاز أن تجعل ياءً, مثل قولهم: مخطئ ومبطئ؛ إلا أنك إذا نصبت الحرف الذي هي فيه حسن أن تجعلها ياءً من غير ضرورةٍ, فتقول: رأيت مبطيًا ومخطيًا فتجريها مجرى ياء معطٍ, فإن خففتها في حال الرفع والخفض, فجعلتها ياءً لم يجز أن تقول: هذا مخطي إلا في الضرورة, كما لا يجوز أن تقول: هذا معطي إلا في شعرٍ, ولكن تقول: هذا مخطٍ ومبطٍ, ومررت بمخطٍ وموطٍ فرسه القتيل.
فإن خففت الهمزة في شنئ ماضي يشنأ جعلتها ياءً خالصةً, فإذا فعلت بها ذلك جاز أن تشبهها بياء بقي ورضي في بعض اللغات؛ وذلك رديء جدًا؛ لأن قولهم: رضي, بسكون الياء لغة رديئة إلا أنها قد حكاها البصريون والكوفيون.
والمقيل: المراد به هاهنا الموضع الذي يقال فيه عند الهاجرة, أي يقام به حتى ينكسر الحر. والمقيل يجوز أن يكون مصدرصا, واسم مكانٍ, قال عمر بن أبي ربيعة: [الخفيف]
عرجي ساعةً كما عرج الظل ... ل وقيلي هذا أوان المقيل
وقالوا: مقيل الهام يريدون الموضع الذي يقيم فيه, قال الراجز: [الرجز]
ضرب يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
وقال آخر: [الوافر]
بضرب بالسيوف رؤوس قومٍ ... أزلنا هامهن عن المقيل
والتعريس: أكثر ما يستعمل في النزول عند آخر الليل لينام الراكب. وأصل التعريس الإقامة في الموضع؛ ولذلك قالوا: عريسة الأسد لغابه. والمثل السائر: «كمبتغي الصيد في عريسة الأسد» وحكى قوم: عرس الصبي بأمه إذا لزمها. ويجوز أن يكون اشتقاق العروس من هذا أو من الإقامة. وقالوا لموضع الجنين في رحم الناقة: معرس؛ لأنه يقيم فيه.
قال أبو وجزة: [الطويل]
تجللها غالٍ عتيق وزانها ... معرس مهري به الذيل يلمع
يعني أنها علاها شحم غالٍ من الغلو؛ أي: الزيادة. وعتيق: أي: من أعوامٍ متقدمةٍ, ومهري يعني به ولدها. وقوله: به الذيل يلمع؛ أي: إنها قد شالت بذنبها للقاح فعلم أن في بطنها ولدًا, وقال (92/أ) الشاعر في أن التعريس مع الفجر: [الطويل]
فلو كانت ماء كنت ماء غمامةٍ ... ولو كنت نومًا كنت تعريسة الفجر
وقوله:
فإذا طلبت فريسةً فارقته ... وإذا خدرت تخدته عريسا
أصل الفرس: دق العنق, والفرسة: قرحة تخرج في أصله, ويجوز أن يكون اشتقاق الفرس من ذلك, وإذا قالوا: هذا جمل فريس أو ناقة فريس جاؤوا بالمؤنث على لفظ المذكر؛ لأن التأنيث قد تبين في الاسم الأول. فإذا حذفوا الاسم المنعوت بما هو منعوت على فعيلٍ المعدول عن فعيلةٍ, مثل قولهم: شاة ذبيح, وناقة عقير أثبتوا الهاء فقالوا: هذه ذبيحة وعقيرة ويساوون بين المذكر والمؤنث, فيجوز أن يقولوا للكبش إذا رأوه: هذه ذبيحة فلانٍ, فإن كان قد ذبح فكأنهم ذهبوا بها إلى الجثة المذبوحة, وإن كان لم يذبح, وهو في نية الذبح جاز أن يريدوا الجثة المعدة لذلك, وقيل: إنما أدخلوا الهاء في المذكر على معنى المبالغة, كما قالوا: رجل نسابة وعلامة, وقال جرير: [الطويل]
فلا يضغمن الليث تيمًا بغرةٍ ... وتيم يشمون الفريس المنيبا
يقال: إن الذئب إذا فرس شاةً, وطردة عنها الراعي, جعلت الغنم تشمها, وتنفر منها, فهذا أجراه على الأصل, ولم يدخل فيه الهاء. ويروى لعنترة العبسي: [الطويل]
فلله عينا من رأى مثل مالكٍ ... عقيرة قومٍ أن جرى فرسان
فأدخل الهاء على المذكر.
ويقال: خدر الأسد وأخدر إذا دخل في الغاب, جعلوه له كالخدر, وأسد خادر ومخدر, ومخدره: موضعه من قولهم: أخدر. والعريس: مثل العريسة.
وقوله:
إني نثرت عليك درًا فانتقد ... كثر المدلس فاحذر التدليسا
يعني بالدر كلامه, وتشبيههم الكلام بالدر مسبوق إليه, قد تكلم به في الدهر السالف فقال الحكمي في الأمين: [الطويل]
نثرت عليك الدر يادر هاشمٍ ... فيا من رأى دراً على الدر ينثر
وأصل النقد: ضرب الشيء بطرف الإصبغ, ومنه قالوا: نقدته الحية, ومن ذلك: نقد الصيرفي المال: إذا اختار جيده, وميز بعضه من بعضٍ؛ لأن ينقده بإصبعه, قال الفرزدق: [البسيط]
تنفي يداها الحصى في كل هاجرةٍ ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
كأن صليل المرو بين خفافها ... صليل زيوفٍ ينتقدن بعبقرا
ثم كثرت هذه الكلمة حتى قالوا: نقدت الكلام, ونقدت الشعر, وإنما يريدون تمييز الجيد من الرديء بالفكر والغريزة, وليس ثم نقد باليد. والتدليس: من قولهم: دلس عليه في البيع وغيره إذا غشه أو خانه, ويقال: إن أصل الدلس الظلمة.
وقوله:
خير الطيور على القصور وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا
الطيور: جمع طيرٍ, والطير: جمع طائرٍ, مثل ما قالوا: راكب وركب, وهو يقع على كل ذي جناحٍ من البعوضة فما فوقها من ذوات الريش, وتكلموا في قول الحطيئة: [الطويل]
سقوا جارك العيمان لما جفوته ... وقلص عن برد الشراب مشافره
سنامًا ومحضًا أنبت اللحم فاكتست ... عظام امرئٍ ما كان يشبع طائره
فقيل: أراد أنه قد ذهب لحمه, فلو قتل, وسقط عليه طائر لم يشبع من لحمه لقلته؛ فهذا وجه بين, ويجوز أن يريد أنه الذي كان لا يشبع, وجعل الطائر مثلًا لنفسه, ونحو من هذا قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} , أي عمله وجزاءه الذي يستحقه, ويحتمل أن يكون من قولهم للجائع: «قد صاحت عصافير بطنه»؛ أي: سمع له صوت من فقد الطعام؛ فيعني أن عصافير بطنه لم تكن تصل إلى الشبع, وقلما يقولون للواحد: طير, إلا أنه قد جاء في الشعر الفصيح, قال الشاعر: [الوافر]
لقد جعلت بنو الديل بن بكرٍ ... مودتنا التي جئنا قراضا
بطيرٍ من طيور الغش يأوي ... صدورهم فعشس ثم باضا
فالأشبه أن يكون الطير هاهنا واحدًا ولا يمتنع أن يكون جمعًا, مثل راكبٍ وركبٍ, ثم جمعه جمعًا ثانيًا, وقال: ثم باض فجاء به على لفظ الواحد, كما قالوا: هذا ركب سائر فأجروه مجرى راكبٍ.
والناووس: هذا الذي يتخذه النصارى معروف, ويجب أن يكون أصله غير عربي, وقد تكلموا به قديمًا. ومعنى البيت أن أفضل الطير يكون في قصور الملوك كالببغاء والبازي ونحوهما, وشرها, كالبوم وما جرى مجراه, يسكن الخراب والمواضع الخالية من الإنس. وفي هذا البيت تعريض بذم أهل أنطاكية؛ أي: إن دارك من القصور التي ينبغي أن يحمل إليها أفضل الأشياء, ويكون فيها الغالي الثمن من الطير, وضرب ذلك مثلًا لشعره, وجعل شعر غيره كالطير التي تألف (92/ب) النواويس, وما كان مثلها.
وقوله:
لو جادت الدنيا فدتك بأهلها ... أو جاهدت كتبت عليك حبيسا
من شأن الذين يجاهدون في سبيل الله إذا وقفوا شيئًا على الجهاد أن يجعلوه محبسًا على ذلك, لا يد لغيره في إخراجه إلى سواه. واكتفى بذكره الجهاد عن ذكره الوقف, وإذا وسم الفرس أو كتب على السيف حبيس فالأحسن أن يكون مرفوعًا, كأنه قال: هذا الشيء حبيس, فهو خبر مبتدأ محذوفٍ, وقائل البيت جعل حبيسًا مفعولًا؛ لأنه ذهب مذهب كلمةٍ واحدةٍ أخبر عن كتابها, فليس قبلها شيء محذوف, كما يقال للرجل: اكتب عمرًا, فيكتب الكلمة مجردةً من سواها.












مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید