المنشورات
أحب امرئٍ حبت الأنفس ... وأطيب ما شمه معطس
وهي من المتقارب الثالث.
أفعل, الذي يراد به التفضيل: إنما يبنى من الأفعال الثلاثية, التي لا زوائد فيها, وهي على ثلاثة أضربٍ: صحيح ومعتل, ومضاعف, فالصحيح على ثلاثة أمثلةٍ: فعل مثل ضرب, وفعل مثل حذر, وفعل مثل كرم, والمعتل على ضربين: أحدهما المعتل الأوسط, مثل: قال وباع, وهو يجيء على فعل وفعل كثيرًا, وإنما يكون على هذا الوزن في الأصل, فأما الموجود منه بعد العلة فوزنه فعل. فأما فعل من ذوات الواو فمثل: قال وقام, وفعل, مثل: خاف ونام, وأما ذوات الياء ففعل منها, مثل: باع وزاد, وفعل, مثل قولهم: هاب يهاب, وقد يجيء فعل إلا أنه ليس في الكثرة مثل هذين؛ وذلك مثل قولهم: طال فهو طويل يستدل على أنه فعل في الأصل بقولهم في الاسم: طويل؛ لأن فعيلًا لا يكون اسم فاعل إلا على فعلٍ في وزن فعل, إلا أن يجيء للمبالغة, مثل: عليمٍ ورحيمٍ, وقد أنشد (93/أ) سيبويه بيتًا ظهرت فيه الواو من فعل, يروى بالضم والكسر, وذلك قول نصيبٍ: [الطويل]
سودت فلم أملك سوادي وتحته ... قميص من القوهي بيض بنائقه
ينشد سودت, وسودت, ولم يجئ نظير لسودت بالضم من ذوات الواو, وأما ذوات الياء فلم يجئ منها شيء على فعل ظاهر الياء؛ إلا أن بعض الناس أجاز أن يكون قولهم: كاس الرجل فهو كيس من الكيس؛ أي: العقل والفطنة على مثال فعل في الأصل, كأنه كيس, ولم ينطق به, وهذا الوجه يقوى في رأي الفراء؛ لأنه يجعل وزن سيدٍ وطيبٍ فعيلًا. وفعيل يجري على فعل كثيرًا, فأما قول الأول: [الكامل]
إن الفرزدق صخرة عادية ... طالت فليس - تنالها - الأوعالا
فطالت هاهنا: فعلت؛ لأنها متعدية إلى الأوعال, وليست مثل: طالت المرأة من الطول؛ لأن هذا فعل غير متعد, ولولا ما حكي من قولهم: سودت, بالضم, لكان الأقيس في قولهم: طالت المدة والشجرة أن يحمل على أنه فعلت؛ إذ كان يجوز أن يراد بقولهم: طال الرجل فهو طويل أنه طال غيره من الناس فيكون متعديًا, ويجعل قولهم: طويل على المبالغة, كما قالوا: عليم ورحيم, وقد ظهرت الواو والياء في فعل كثيرًا, فقالوا: حول الرجل وعور وصيد البعير من الصيد, وعلماء خراسان يسمون الثلاثي المعتل الأوسط: الأجوف.
وأما الآخر من ضربي المعتل فهو ما اعتلت لامه, وهو يجيء في ذوات الواو والياء, فأما الواو فتجيء على فعل, مثل: غزا, وغدا؛ لأنه من الغزو والغدو, وعلى فعل, مثل: عشي الرجل, فهو أعشى؛ لأنهم يقولون للأنثى: عشواء, فيستدلون على أنه من ذوات الواو. وقالوا: سرو الرجل, فهو سري, وقد حكي سري, وسرا, وأنشد الفراء: [الكامل]
تلقى السري من الرجال بنفسه ... وابن السري إذا سرى أسراهما
ويحمل سرو على أنه من ذوات الواو لقولهم: سري بين السرو. وتلزم الياء في هذا الباب فعل وفعل, وحكى بعضهم: قضو الرجل, وهو من قضيت, وأما المضاعف فيكثر فيه فعل وفعل؛ ففعل مثل سر يسر وقد يقد, وفعل مثل عض يعض, وصم يصم, ويقل فيه فعل, وحكوا عن يونس: لببت من اللب, ويقوي ذلك قولهم: لبيب؛ لأن اسم الفاعل من فعل يكون على فعيلٍ.
والنحويون يقولون: أصل حبذا: حبب ذا, ولم يذكروا أنهم سمعوا حببت إلينا, ويجوز أن يكونوا قاسوا حبب على حبيبٍ. وحكي عن ابن الأعرابي: عززت الشاة, وهي الضيقة أحاليل الضرع, وهذا أشد من قولهم: لببت؛ لأن قولهم: عززت الشاة قد اجتمع فيه مع الضم إظهار الضعيف في موضعٍ لا يحسن فيه إظهاره, وإنما القياس عزت الشاة.
وقوله: أحب امرئ حبت الأنفس: مبني على قولهم: حب إلينا فلان ليكون أفعل الذي للتفضيل مبنيًا على فعل فاعل؛ لأنه يشبه أفعل الذي للتعجب, ولا يجوز أن يبنى على فعل ما لم يسم فاعله, تقول: كد الفرس فلا يحسن أن تقول: ما أكده, فإن جعلت التعجب من كاد الفرس, فقولك: ما أكده كلام صحيح, وكذلك تقول: ما أضربك إذا تعجبت من ضربه الذي يوقعه, فإن أردت أنه ضرب فعجبت من ضربه لم يحسن ذلك؛ إلا أن يحمل على قولهم: فاعل أي ذو فعلٍ, وحكى ابن حبيب - ويقال: إن حبيب اسم أمه, فإن صح ذلك وجب ألا يصرف, وأكثر أهل العلم يصرفونه, لأنهم لم يبلغهم أنه منسوب إلى أمه: «هو أجن من دقة» فهذا من جن الرجل, ويجوز أن يكون من قولهم: رجل جان؛ أي: ذو جنونٍ, كما قالوا: تامر؛ أي: ذو تمر, وإن لم يسمع جان في هذا المعنى, ولكنه مقدر فيه, ويقال: حبت الأنفس وأحبت, وأحبت أكثر.
وقوله في أول الأبيات: أحب امرئٍ, يسميه بعض المتكلمين الجملة المقتضبة؛ لأنها خبر مبتدأٍ محذوفٍ, كأنه قال: أنت أحب امرئٍ, أو هذا الشخص أحب امرئٍ. ويقال: شممت أشم وهي اللغة العالية. وقد حكي: شممت. والمعطس: الأنف, وهو مأخوذ من العطاس, لما كان المكان الذي تخرج منه العطسة جاء على مفعلٍ, كما قالوا للمكان الذي يجلس فيه: مجلس, ويكثر في الكلام االقديم: أرغم الله معطسه, ورغمت معاطس القوم, وكانت العرب تكره العطاس وتشاءم به. ولذلك قالوا: مضى لشأنه ولم تحبسه العواطس, فأما قول الشاعر:
وخرقٍ إذا وجهت فيه لحاجةٍ ... مضيت ولم تحبسك عنه الكوادس
ففيه قولان: أحدهما أن الكوادس: العواطس. يقال: كدس إذا عطس, ويقوي هذا الوجه قوله: كندس لهذا الشيء الذي يعطس؛ لأنه من كدس والنون فيه زائدة.
والأخر أن الكوادس جمع كادسٍ وهو الذي يقابل الرجل من أمامه, وقال المسب بن علس: [الكامل]
أرحلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع
(93/ب) أي قبل أن يهب النائم فيعطس, فتسمع عطاسه, فتكره الرحيل, وقيل: إنهم يقولون: عطس الفجر إذا بدا.
وقوله:
ونشر من الند لكنما ... مجامره الآس والنرجس
ما: في قوله: لكنما كافة, وإذا كانت كافةً فهي حرف, وزعم بعض النحويين أنها إذا كانت كافةً فهي اسم نكرة, فإن صح هذا القول فهو مؤد إلى القول الأول؛ لأن المجامر ترتفع بالابتداء, وكذلك رفعها في هذا الوجه كأنه قال: لكن شيئًا مجامره, ولا يجب أن يعدل عن رفع المجامر, ولو نصبها ناصب لم يكن لاحنًا إذا جعل ما زائدةً.
وكذلك ما مع أن وجميع أخواتها إذا كان بعدها اسم جاز أن يتأول أن ما زائدة, فلو قيل: إنما أخاك خارج لجاز على أن تجعل ما زائدة, وبيت النابغة ينشد على وجهين: [البسيط]
قلت فيا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد
فيرفع الحمام؛ لأنه نعت لهذا, وتجعل ما كافهً, ويحتمل أن تجعل لغوًا, وينصب الحمام. والمجامر: جمع مجمرةٍ, ويذهب قوم إلى أنها سميت مجمرةً بالمجمر الذي هو عود يتبخر به, وإن كانوا سموا العود مجمرًا فاشتقاقه واشتقاق المجمرة واحد؛ لأنهما مأخوذان من جمر النار, فالمجمرة يجعل فيها ذلك, والعود يلقى على الجمر, وأصل الجمر: الجمع؛ ومنه قيل لضفائر الشعر: جمائر, الواحدة جميرة؛ لأنها تجمر؛ أي: تجمع بعضها إلى بعض, وقيل: جمر النار؛ لأنه لا ينتفع بها إلا أن يضاف بعض الجمر إلى بعضٍ, وذلك في الاختبار والاطباخ والاصطلاء, فأما في المجمرة فقد تكفي الجمرة والجمرتان.
والآس: هذا الممشوم, ويقال: إن أصله فارسي, وقد تكلموا به قديمًا. والنرجس أيضًا: ليس بعربي, لكنهم عربوه, وأدخلوا عليه الألف واللام, وإذا فعلوا بالأعجمية ذلك جرت عندهم مجرى العربي, وهو موافق لقولهم: نرجس: إذا أرادوا فعل الجميع إذا أخبروا عن أنفسهم من قولهم: رجس الرعد: إذا سمعت صوته.
ولو سمي رجل بنرجسٍ لم يصرفوه؛ لأنه موافق وزن الفعل الذي هو نرجس إلا أن ينكروه, وقد حكي كسر النون في النرجس فإذا سمي به على ذلك صرف؛ لأنه قد فارق وزن الفعل بكسر النون, وقد ذهب ناس إلى أنه لا يصرف؛ لأن النون حدث كسرها لأجل كسر الجيم, مثل ما قالوا: منخر فكسروا الميم لكسرة الخاء, وإنما القياس: منخر بالفتح؛ لأنه الموضع الذي يخرج منه النخير.
وقوله:
ولسنا نرى لهبًا هاجه ... فهل هاجه عزك الأقعس
أصل القعس: خروج الصدر, ودخول الظهر, وهو ضد الحدب, وإذا أراد الرجل أن يدفع قرنه, فربما تقاعس ليمنع ما خلف ظهره, وربما حدب ليمتنع. ومن ذلك قول الجعدي في بعض الروايات: [البسيط]
وما نفى عنك قومًا أنت خائفهم ... يومًا كوقمك جهالًا بجهال
فاحدب إذا قعسوا واقعس إذا حدبوا ... ووازن الشر مثقالًا بمثقال
أي: خالفهم فيما يريدون, ومنه قول أبي الأسود الدؤلي: [الطويل]
فإن حدبوا فاقعس وإن هم تقاعسوا ... ليستخرجوا ما خلف ظهرك فاحدب
وإذا قالوا: عزة فعساء, وعز أقعس فغنما يريدون أنه يمتنع على من يروم منه ما لا يريد؛ وذلك كثير في كلامهم قال اليشكري: [الخفيف]
فنمينا على الشناءة تنميـ ... نا جدود وعزة قعساء
وقال الراجز: [الرجز]
إن لنا مجدًا وعزًا أقعسا
وكثرت هذه الكلمة حتى قالوا: تقاعس عن الأمر إذا تثاقل عنه وتأخر, وتقاعس الرجل إذا أظهر أنه أقعس, وإن لم يكن كذلك. قال الشاعر: [الطويل]
تقول ودقت صدرها بيمينها ... أزوجي هذا بالرحى المتقاعس
وقوله:
وإن الفئام التي حوله ... لتحسد أقدامها الأرؤس
الفئام: الجماعة من الناس, وأصله الهمز, وتصيير الهمزة ياء جائز في هذا الموضع؛ لأنها مفتوحة, وقبلها كسرة, قال النابغة: [الوافر]
وإن القوم نصرهم جميع ... فئام مجلبون إلى فئام
وقالوا: مفأم في معنى موسعٍ, وهو راجع إلى معنى الجماعة, قال زهير: [الطويل]
ظهرن من السوبان ثم جزعنه ... على كل قيني قشيبٍ ومفأم
فقيل: أراد بالمفأم هودجًا موسعًا, وقيل: الفئام: شيء يوطأ به في الهودج, وزعم بعضهم أن ما بين عرقوتي الدلو يقال له فأم, والاشتقاق في هذا كله يرجع إلى شيء واحد, وهو: معنى الكثرة والسعة, والرواية: الفئام, بالفاء, ولو رويت بالقاف, لكان ذلك معنى صحيحًا؛ إلا أن قائل البيت اختار الفاء؛ لأن الفئام لا يقع إلا على جماعةٍ كبيرةٍ, والقيام يقع على ثلاثة فما زاد, وهذا المعنى مثل قوله في الأخرى:
فإني قد وصلت إلى مكانٍ ... عليه تحسد الحدق القلوب
إلا أن المدح في هذا البيت للرجل وفي البيت الآخر للبخور. (94/أ)
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
20 أبريل 2024
تعليقات (0)