المنشورات
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا
وهي من البسيط الأول في رأي الخليل, ومن السحل الثاني في رأي غيره.
قال: هذا؛ لأنه ذهب بالناس مذهب الخلق والبشر, وذلك جائز, لا اختلاف فيه, ولو أن الكلام منثور لكان الأولى أن يقول: من هؤلاء الناس لأن أكثر ما تجيء هذه الكلمة, والخبر عنها خبر جمعٍ. وفي كتاب الله سبحانه: {إن الناس قد جمعوا لكم} و {يا أيها الناس اتقوا ربكم}. وقال القطامي: [البسيط]
والناس من يلق خيرًا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
فإن حمل جبنوا وشجعوا على أكثر فهو أحسن من حمله على هذا الناس؛ لأنهم يقولون: أكثر الناس خرجوا, فيكون أحسن من قولهم: أكثر الناس خرج, وفي كتاب الله عزت كلمته: {وأكثرهم الكافرون}. ولو قال قائل: إن الناس قد خرج إلى موضع كذا لقبح ذلك, وإذا أدخلت الألف واللام على ناس حذفت الهمزة, وأصحاب القياس مجمعون على أنها (99/أ) أناس في الأصل, وأن الألف حذفت لكثرة الاستعمال, وكان أول ذلك أنهم ألقوا حركة الهمزة على اللام, ثم ادغموا اللام في النون, كثر استعمالهم هذه اللفظة فجاؤوا بها في النكرة, قال الشاعر: [الطويل]
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد
وربما قالوا في الشعر: الأنس, وينشد: [مجزوء الكامل]
إن المنايا يلطعـ ... ــن على الأناس الآمنينا
ويروى لعمران الخارجي: [البسيط]
إما سقيت بكاسٍ دار مشربها ... على الأناس فذاقوا جرعة الكاس
وأناس: مأخوذ من الأنس والإنس, وإذا صغروا ناسًا قالوا: نويس, وأجازوا أنيس يردونه إلى الأصل, ومن قال: إن إنسانًا مأخوذ من النسيان جاز أن يدعي في ناسٍ مثل ذلك, وأنهم أرادوا عالمًا ناسيًا أو خلقًا, وكثر الاستعمال حتى حذفت لام فاعلٍ فبقي على فاعٍ, وقرأ بعضهم: {إلا من هو صالو الجحيم} فالوجه أن يكون صالو جمع صالٍ وحذفت النون للإضافة. وأجاز قوم أن يكون صال في معنى صالٍ وقد حذفت ياء فاعل وذلك رديء بعيد في القياس. ومما يشبهه ما روي أن ابن مسعودٍ قرأ: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} , بضم الراء, فهذا يشبه قولهم: صال في معنى صالٍ, وقد رجع أبو الطيب إلى أن خبر عن الناس كما يخبر عن الجماعة؛ لأنه قال:
إن قاتلوا جبنوا أوحدثوا شجعوا
ولو حمل على قوله هذا الناس؛ لوجب أن يقال: إن قاتل جبن أو حدث شجع؛ لأنه ذهب به مذهب الجيل والجنس.
والمعنى أن بعض الناس يدعي الشجاعة إذا لم يكن في حربٍ, فإذا شهد القتال وجد جبانًا, وهذا الخلق موجود في العالم كثير فيه, والأجود إذا وقف على آخر البيت أن يقول: شجعوا بالواو, وذلك مذهب فصحاء العرب. وقد حكى سيبويه وغيره أنهم يحذفون هذه الواو في الوقف إذا كانوا منشدين لا مترنمين, وأنشد سيبويه أبياتًا منها: [البسيط]
لا يبعد الله جيرانًا لنا ظعنوا ... لم أدر بعد غداة البين ما صنعوا
فزعم أن بعضهم يقف بغير واوٍ.
وقوله:
أهل الحفيظة إلا أن تجربهم ... وفي التجارب بعد الغي ما يزع
أهل الحفيظة: خبر مبتدأٍ محذوفٍ كأنه قال: هم أهل الحفيظة, والحفيظة: الغضب, وكأن أصلها من حفظ الشيء, فكأنهم يريدون أن الغضبان يحفظ الحقد في صدره أو يفتقر إلى أن يحفظ نفسه ممن أغضبه.
والتجربة: تحتمل أن يكون أصلها مأخوذًا من جرب الإبل؛ لأن صاحبها إذا جربت لزمه أن يعرف أدواءها؛ فكأنهم قالوا: جربها إذا قام عليها في الجرب, كما قالوا: مرض العليل إذا ولي أمره في المرض وخدمه, ثم كثر ذلك حتى قالوا: جرب الأمور؛ أي: عرف ما يحتاج إليه من الممارسة والمدارة, وقالوا في المثل إذا وصفوا الرجل بالحكمة ومعرفة الأشياء: «عنيته تشفي من الجرب». والعنية: أشياء تخلط وتجعل فيها أبوال الإبل ويداوى بها الجربى.
ويزع: أي: يكف. ومن الكلام القديم: لابد للسلطان من وزعةٍ, وربما قالوا للحكم في مكان السلطان. والوزعة: جمع وازعٍ, وهو الذي يكف الناس, وفي حديث المغيرة بن شعبة مع أبي بكر: «إنما المغيرة وازع»؛ أي: يزع من يراه قد خالف.
وقالوا للذي يرتب الصفوف في الحرب, ويمنع الناس من الاختلاف: وازع. والمعنى أن الإنسان لا ينبغي أن يركن إلى كلام الناس؛ لأنه قد عرف كذبهم, وأنهم يقولون ما لا يفعلون.
وقوله:
وما الحياة ونفسي بعدما علمت ... أن الحياة كما لا تشتهي طبع
الطبع: كثرة الدنس يستعمل ذلك في السيوف وغيرها, ويقال: طبع الرجل إذا فعل أفعالًا ذميمةً, كأنها تستر فضله كما يستر طبع السيف رونقه, قال لبيد: (99/ب) [الكامل]
لا يطبعون ولا يبور فعالهم ... بل لا تميل مع الهوى أحلامها
وموضع نفسي: رفع في أجود الوجهين, ويجوز النصب على مذهب من أضمر فعلًا؛ كأنه قال: وما تصنع الحياة ونفسي, وقد أنشدوا قول الهذلي نصبًا: [المتقارب]
وما أنا والسير في متلفٍ ... يبرح بالذكر الضابط
والمتقدمون يمثلون الإضمار ها هنا بكنت وأكون, ولا يمتنع إضمار كل فعلٍ يحسن إضماره في ذلك الموضع فيتأول على أن المعنى: ما أصنع والسير, أو ما أفعل, ونحو ذلك.
وقوله:
ليس الجمال لوجهٍ صح مارنه ... أنف العزيز بقطع العز يجتدع
المارن: ما لا من طرف الأنف, وهو مأخوذ من المرونة, وهي اللين والملاسة, ومنه اشتقاق المران, وهو أصول القنا, قال الشاعر: [الطويل]
وألجمه فأس اللجام فعضه ... وأغضى على غضاض أنفٍ ومارن
الغضاض: ما حول الأنف. ويجتدع؛ أي: يقتطع, وأصل الجدع القطع, وأكثر ما استعملوا ذلك في الأنف والأذنين, وقد قالوا: منجدع الغلان: يريدون ما قطع من الشجر, قال الشاعر: [الكامل]
حتى إذا خفت الصياح وصرعت ... قتلى كمنجدعٍ من الغلان
والغلان: أودية كثيرة الشجر. وقالوا للسنة الصعبة: جداع معدولا, كأنهم أرادوا أنها تجدع أموال الناس؛ أي: تقطعها, أو تحملهم على أن يبخلوا فيدعى عليهم, فيقال: جدعًا لهم, قال أبو حنبل الطائي: [الوافر]
لقد آليت أغدر في جداع ... وإن أعطيت أمات الرباع
وقوله:
أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه ... وأترك الغيث في غمدي وأنتجع
الكتف: بفتح الكاف وكسر التاء, أكثر في كلامهم من قولهم: الكتف, وهو مثل قولهم: الكبد والكبد. ومن الأمثال: «فلان يعلم من حيث تؤكل الكتف»؛ أي هو عالم بالأشياء عارف بما يأتي, ويذر, قال الشاعر: [المنسرح]
إني على ما ترين من كبري ... أعلم من حيث تؤكل الكتف
والانتجاع: طلب الكلأ, ثم قيل لكل طالبٍ: منتجع. وجلس أبو جهم بن حذيفة العدوي من عدي قريشٍ مع معاوية على المائدة, فجعل ياكل من بين يدي معاوية, فأنكر عليه فقال أبو جهم: من أجدب انتجع.
والمعنى أن الشاعر أنكر على نفسه أن يطلب الشرف بغير الرمح وما جرى مجره, وأن يحاول الرزق بغير السيف؛ فأخبر أن المجد على كتفه محمول؛ لأنه صاحب قناة, وأن الغيث في غمده, فكيف ينتجع والغيث في ملك يمينه, وهذا نحو من قول القائل: [الرجز]
واعمد إلى السيف وشفرتيه ... فاستنزل الرزق بمضربيه
ولو أن هذا البيت في قصيدةٍ منصوبة لجاز نصب أنتجع على إضمار أن, كما تقول: أكرم الناس وأدع نفسي؟ ! وأنت منكر لذلك؛ أي: أيكون مني إكرام لهم, وأن أدع نفسي.
وقوله:
والمشرفية لازالت مشرفةً ... دواء كل كريمٍ أو هي الوجع
جمع الوجع: أوجاع ولم يجمع على غير هذا المثال, وهو في الأصل مصدر كان ينبغي ألا يجمع؛ إلا أنه لما اختلفت أنواعه جمع. قال الراجز: [الراجز]
داو بها ظهرك من أوجاعه ... من خزراتٍ فيه وانقطاعه
الخزرات: جمع خزرة, وهو وجع يأخذ في الظهر. والفعل وجع يوجع, وإذا كان الماضي على فعل, وأوله واو جاء مستقبله على يفعل, وظهرت الواو ساكنةً في يفعل, فقيل: يوجع ويوجل ويوحل, فهذا الأصل, ويجوز فيه بعد ذلك ثلاث لغاتٍ؛ فمنهم من يكسر الياء فتنقلب الواو التي بعدها ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها, فيقولون: يبجع, ويبجل, وييحل, ومنهم من إذا كسر الياء فر من كسرة الياء الأولى, ومجيء الثانية بعدها إلى فتح أول الفعل فيقول: يبجع. ويبجع أكثر وأقيس, ومنه قول متممٍ: [الطويل]
فقعدك ألا تشعريني ملامةً ... ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا
وبعضهم يقلب واو يوجع ألفًا؛ فيقول: ياجع وياجل, وإنما يقول: ييجع فيكسر من يقول في المضارع: اعلم وإخال, وهي لغة قيسية.
وقوله:
وفارس الخيل من خفت فوقرها ... في الدرب والدم في أعطافها دفع
يريد: فارس فرسان الخيل, فحذف المضاف لعلم المخاطب بما يريد القائل. وخفت, (100/أ) وإن كان ظاهره للخيل, فالمعني به الفوارس؛ لأن الخفة إذا أريد بها التسرع وضد الحلم, فإنما يستعمل ذلك في الإنس. والتوقير: التفعيل من الوقار, يقال: قر الرجل, ووقر, ووقره غيره, وكذلك وقر الفرس والدابة.
قال الراجز: وذكر بعيرًا: [الرجز]
يكاد ينسل من التصدير ... على مدالاتي والتوقير
والمدالاة: الرفق والمداراة. والدفع: جمع دفعةٍ, وهي دم يخرج بكثرةٍ, وإنما يريد أنها تطعن أو تضرب بالسيف فيندفع منها الدم, ويحتمل أن تكون الدفع التي تصيب أعطافها من دماء من يقتل على معنى الادعاء, والأول أشبه.
وقوله:
وأوحدته وما في قلبه قلق ... وأغضبته وما في لفظه قذع
أوحدته: أي: افترقت عنه وتركته وحيدًا, والقذع: ما لا يبنغي من القول كالشتم وما يجري مجراه؛ كأن هذه الخيل لما انهزمت أغضبت الممدوح, فلم يحمله الغضب على أن يقول كلامًا فيه قذع. يقال: ما بيننا أجل من القذع.
والقذع, بسكون الذال, والتحريك أجود, وبيت زهير ينشد على وجهين: [البسيط]
ليأتينك مني منطق قذع ... باقٍ كما دنس القبطية الودك
ينشد: قذع, بكسر الذال, وقذع, بفتحها.
وقوله:
بالجيش تمتنع السادات كلهم ... والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع
يقال للقوم يجتمعون للحرب: جيش, وهو اسم, أصله مصدر مأخوذ من قولهم: جاش البحر يجيش جيشًا إذا زخر, أرادوا أن الأرض تجيش بهم إذا كانوا كموج البحر, ويجوز أن يكون من قولهم: جاش الصدر بالحقد؛ أي: هؤلاء القوم غضاب, فصدورهم تجيش كما تجيش المراجل, قال الشاعر: [الكامل]
إلا بجيشٍ لا يكت عديده ... سهكين من صدأ الحديد غضاب
وقوله:
قاد المقانب أقصى شربها نهل ... على الشكيم وأدنى سيرها سرع
المقنب: ما بين الثلاثين إلى الأربعين, يزعم قوم أنه لا يقال إلا للفرسان, وقيل: بل يقال للفوارس وللرجل, وكان السليك بن السلكة يقال له: سليك المقانب, يريدون أنه يغزو فيها, أو يقاتلها, قال الشاعر: [الطويل]
لزوار ليلى منكم آل برثنٍ ... على الهول أمضى من سليك المقانب
والنهل: أول الشرب. والشكيم: جمع شكيمة اللجام, يقال: شكيمة وشكيم, كما يقال: شعيرة وشعير, وشكيمة وشكائم, كما يقال: صحيفة وصحائف, وشكيمة وشكم, كما يقال: صحيفة وصحف. والسرع: كسر السين فيه أفصح, وحكى ابن الأعرابي أنه يقال بالفتح. والمعنى أن الممدوح قاد المقانب وهو لا يمكنها من الشرب؛ لأنه على عجلٍ, فهي تقتصر على أول الجرع, وتشرب واللجم في أفواهها؛ لإيثار التقدم.
وقوله:
لا يعتقي بلد مسراه عن بلدٍ ... كالموت ليس له ري ولا شبع
يعتقي في معنى يعتاق, يقال: عاقه عن كذا وعقاه, فهو عائق وعاقٍ. وقال الطهوي: [الوافر]
فلو أني سمعتك حين تدعو ... لعاقك عن لقاء الحي عاق
وقوله:
حتى أقام على أرباض خرشنةٍ ... تشقى به الروم والصلبان والبيع
الأرباض: جمع ربضٍ, وهو ما حول المدينة, والربض: المدينة نفسها, وقيل: بل هو ما تشمل عليه. والصلبان: جمع صليب, وهو في معنى مصلوبٍ في الأصل؛ لأن الذين يتخذونه يزعمون أن المسيح صلب, فهم يعظمون هذا المتخذ لذلك.
والبيع: جمع بيعةٍ, وهي كلمة تشبه كلام العرب؛ فيجوز أن تكون من البيع, والبيع عندهم من الأضداد, فكأنهم يريدون أنهم يبيعون فيها الكفر بالإيمان. والبيع يشتمل على أخذ شيءٍ وإعطاء من يؤخذ منه عوضه.
واسم البيعة يحتمل الوجهين, أن تكون من الشراء ومن البيع, أي: كأنهم يشترون الآخرة بالدنيا وتركها. وقالوا: بايع القوم الخليفة, وهم يذهبون إلى هذا الوجه كأنهم باعوه أنفسهم بما يعطيهم, ولايبعد أن البيعة التي هي أخذ العهد لما كان التابع فيها يأخذ يد المتبوع معاقدًا له على الوفاء, شبه ذلك بالمبايعة في التجارة والأسواق.
وقوله:
للسبى ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
لو أن الكلام (100/ب) منثور لكان الوجه أن يقال: للسبي ما نكحوا, وللقتل ما ولدوا؛ فتعاد اللام في الجمل الثلاث التي بعد الجملة الأولى, وحذفها في هذا الموضع يسميه النحويون: العطف على عاملين, وهما اللام والابتداء؛ لأن المعنى: ما نكحو للسبي, ومثله قولهم: أخوك في الدار, والبيت أبوك, يريدون: وفي البيت. وأصحاب سيبويه يختلفون في مذهبه؛ فيذهب قوم إلى أنه كان يجيز العطف على عاملين, وبعضهم ينكر ذلك.
وقوله: للسبي ما نكحوا, والقتل ما ولدوا وأوقع «ما» على الإنس؛ لأنها تقع على صفات الآدمييت, فإذا قال القائل: ما أميركم؟ جاز أن يقول له: طويل أو قصير أو جائر أو عادل, وإذا قال القائل: ما نكح بنو فلان؟ جاز أن يقال له: العجز أو الشواب أو الحسان أو القباح, فتقع «ما» على الصفات, وكذلك إذا قيل: ما ولدوا؟ جاز أن يقال: الجبناء أو الشجعاء, وما هو مجانس هذا اللفظ.
وقوله:
مخلًى له المرج منصوبًا بصارخةٍ ... له المنابر مشهودًا بها الجمع
مخلًى في موضع نصبٍ على الحال, والهاء في له عائدة على الممدوح, والمرج: اسم ما لم يسم فاعله, وهو مأخوذ من قولهم: مرجت الخيل بعضها مع بعض إذا أرسلتها في رعيٍ أو غيره, وكل أمرٍ أهملته فقد مرجته, ومنه قولهم: «أمر مريج»؛ أي: مخلى مختلط. وقيل للموضع الذي تخلى فيه الخيل ونحوها للرعي: مرج, لما كان يمرج فيه. وصارخة اسم قد وافق فاعلةً من الصراخ. والجمع: جمع جمعة, يقال: جمعة وجمعة, وقد قرئ بهما إلا أن أكثر القراء على ضم الميم, ويقال: إن بني عقيلٍ يقولون: جمعة, فيفتحون ميمها, وإنما أخذت من اجتماع الناس فيها للصلاة أو لغيرها, وكانت العرب تسميها عروبة غير مصروفةٍ, قال الشاعر: [الكامل]
يوم كيوم عروبة المتطاول
وأدخل عليها القطامي الألف واللام فقال: [البسيط]
نفسي فداء بني أم هم خلطوا ... يوم العروبة أورادًا بأوراد
وكان ينبغي إذا حمل الأمر على القياس أن تكون الجمعة اسمًا حدث في الإسلام,ولكن الأمر ليس كذلك, وسموا الأيام الخمسة بأسماءٍ مأخوذةٍ من العدد فقالوا: الأحد والاثنان والثلاثاء والأربعاء والخميس, فلو اطردت التسمية لوجب أن تسمى الجمعة باسمٍ مشتق من الستة, ويسمى السبت باسمٍ مشتق من السبعة؛ لأن الجمعة سادسة, والسبت سابع. والله أعلم بحقيقة الأمور.
فأما السبت فقيل: إنه مأخوذ من سبت الشيء إذا قطعه؛ لأنه آخر الأيام, فكأنها تنقطع عنده, ثم يبتدأ بغيرها. ولو كان الناس مجمعين على ما يفعله اليهود في يوم السبت من التودع والراحة لجاز أن يكون السبت من ذلك؛ لأنهم سموا النوم سباتًا؛ لأنه يستراح فيه. ويقال: سبتت المرأة شعرها إذا مدته وبسطته؛ لأن ذلك كالراحة له, قال الشاعر وذكر الشعر: [الطويل]
وإن سبتته مال جثلًا كأنه ... سدى ناسجاتٍ من نواسج خثعما
وقوله:
يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع
هذا بيت زاد فيه أبو الطيب على من قبله من الشعراء؛ لأن هذا البيت يروى للأفوه: [الرمل]
وترى الطير على آثارنا ... رأي عينٍ ثقةً أن ستمار
ثم قال النابغة: [الطويل]
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب
ثم قال الحكمي في الإسلام: [المديد]
تتآيا الطير غدوته ... ثقةً بالشبع من جزره
وهؤلاء الشعراء الثلاثة لم يزد أحدهم على الآخر في الصفة, وإنما الفضيلة لمن سبق منهم. وقد جعل علقمة بن عبدة الطير تتبع الحي المحتملين؛ لأنهم يزينون الهوادج بحمر الثياب فتحسبها الطير محمرةً لأجل الدم؛ وذلك قوله: [البسيط]
عقلًا ورقمًا تظل الطير تتبعه ... كأنه من دم الأجواف مدموم
وقوله:
ولو رآه حواريوهم لبنوا ... على محبته الشرع الذي شرعوا
(101/أ) الحواريون: هاهنا مراد بهم أصحاب عيسى - عليه السلام - الذين ذكروا في القرآن في غير موضع, وزعم المفسرون أنهم سموا حواريين؛ لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب, أو لعلهم كانوا يبيضون لباسهم إيثارًا للطهارة, وإزالة الدنس, كما يفعله المتدينون, أو لأنهم كرهوا أن يلبسوا ما يلبسه المثرون من الثياب الحمر والصفر والموشية. وقيل لهذا الضرب من الخبز حوارى لبياضه, وفي الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الزبير ابن عمتي وحوايي من أمتي». وأصحاب الحديث يزعمون أن الحواري هاهنا مثل الوزير, فإذا أخذ بهذا القول فيجوز أن يكون قيل له: حواري؛ لأنه يحاور صاحبه, ويشاوره في الأمور, فيكون اشتقاقه من المحاورة التي هي مراجعة الكلام, ولا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شبه أصحابه بالحواريين الذين كانوا مع المسيح, صلى الله عليه, فأما قول اليشكري: [الطويل]
فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا يبكنا إلا الكلاب النوابح
فأصحاب اللغة يزعمون أن الحواريات في هذا البيت نساء الأنصار سمين بذلك لبياضهن, وإذا أريد بهذا المعنى البياض؛ جاز أن تكون الحواريات واقعةً على كل امرأةٍ بيضاء من أهل الأمصار وغيرهن. ولما مدح ذو الرمة بلال بن أبي بردة جعل جده أبا موسى الأشعري حواريًا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: [الوافر]
حواري النبي ومن أناسٍ ... هم من خير من وطئ النعالا
ويقال: شرع النبي شرعًا للأمة: إذا جعل لهم دينًا يتبعونه, وهي الشريعة, ومعنى البيت: أن الحواريين الذين ذكروا في الكتاب العزيز لو رأوا هذا الممدوح لجعلوا شرعهم مبنيًا على محبته؛ أي كانوا يأمرون من تبعهم أن يجعل محبته من الديانة, وهذا غلو يجب أن يستغفر منه.
وقوله:
ذم الدمستق عينيه وقد طلعت ... سود الغمام فظنوا أنها قزع
يقال في المنثور: عينيه, بهاءٍ مكسورةٍ, وهي أفصح اللغات. ويجوز أن تتبع الكسرة بياءٍ لتبين. وضم الهاء جائز, وإن كان قبلها ياء, فيقال: عينيه, ويتبعون الضمة واواً حرصاً على البيان في بعض اللغات. والشعراء يصرفون هذه الهاء على ما يحتمله الوزن, فإن كان يحتاج إلى أن تتبع ياء كراهة زحافٍ أو كسرٍ جاؤوا بالياء, وهذا الموضع جيء بها فيه لأنها لو تركت لحدث في البيت زحاف يكرهه السمع. ولو ضم الهاء منشد لوجب أن يتبعها واواً؛ لأنه إذا لم يفعل حدث ذلك الزحاف. والقزع: سحائب مفترقة, وفي الحديث: «فعندها يضرب يعسوب الدين بذنبه فتجتمع إليه فرق المسلمين كما يجتمع قزع الخريف». ويقال للشعر المفترق في الرأس: قزع. وفي الحديث المأثور: «أنه نهى عن القزع» وذلك أن يحلق الرأس ويترك في نواحيه شيء من الشعر. ومنه اشتقاق القنزعة والنون زائدة, وتستعمل القنزعة في الشعر والريش. قال ذو الرمة: [الطويل]
ينؤن ولم يكسين إلا قنازعًا ... من الريش تنواء القلاص الهزائل
والمعنى أن أوائل جيش هذا الممدوح نظر إليها الدمستق فظن أنها خيل قليلة, مثل قزع السحاب ولم يعلم أنها في جيشٍ لجبٍ كأنه الغمائم السود في ألباس السماء, ويجوز أن يعني بالقزع غبارًا قليلًا مفترقًا وبسود الغمام عجاجًا ساترًا.
وقوله:
فيها الكماة التي مفطومها رجل ... على الجياد التي حوليها جذع
أصل الجذع أن يستعمل في أسنان الخيل, وذوات الحافر, وفي الإبل, وغيرها من الضأن والمعز؛ إلا أنها كلمة كثرت حتى قالوا للأمر إذا كان قد أدبر أو خلص منه, ثم فعل فاعل ما يرده: قد رده جذعًا؛ أي: أعاده في أوله, ويقولون في الحرب: ردها جذعةً؛ أي: ردها في أول أمرها, ثم اتسعوا في الحرب, فقالوا: حرب رباعية (101/ب) , فيجوز أن يريدوا تشبيهها بالرباعية من الدواب؛ لأنها أقوى من الجذعة. قال الشاعر: [المديد]
إنها حرب رباعية ... مثلها آتى الفتى ذكره
وقال آخر: [البسيط]
لأصبحن ظالمًا حربًا رباعيةً ... فاقعد لها ودعن عنك الأظانينا
وزعم بعض الناس أن أصل قولهم: ردها جذعةً أن رجلًا حذف ذنب فرسه وعرفها, فقيل: ردها جذعةً؛ أي: كأنها لم تسن, ولم يطل شعر ذنبها وعرفها. والجذاع حي من بني تميم بن مر وهم المعنيون في قول الشاعر: [الطويل]
أراد حصين أن يسود جذاعه ... فأضحى حصين قد أذل وأقهرا
والفطام: يستعمل في الناس, وغيرهم, قال الراجز: [الرجز]
من كل كوماء السنام فاطم
تشحى لمستن الذنوب الراذم
شدقين في رأسٍ لها صلادم
ويقال: فطمت الرجل من كذا إذا كان قد تعود أمرًا فمنعته منه, وكان بعض من رد على أبي الطيب قد ادعى أنه قال:
فيه الكماة الذي مفطومها رجل ... على الجياد الذي ...
فاستعمل الذي في موضعين؛ وذلك مكذوب لا محالة, ولو صحت الرواية لكان له وجه, وهو أن يجعل الذي مبتدأً ويضمر بعده هو؛ فيكون التقدير: فيها الكماة الذي هو مفطومها رجل, ومثل هذا ما حكاه الخليل عن العرب من قولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئًا؛ أي: بالذي هو قائل لك. وقالوا للذي تذهب عليه سنة من وقت النتاج: حولي ومحول, وقال امرؤ القيس: [الطويل]
من الناعمات البيض لو دب محول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا
ويروى: من القاصرات الطرف. وقال حسان: [الخفيف]
لو يدب الحولي من ولد الذر ... ر عليها لأندبتها الكلوم
وكثر استعمال ذلك حتى قالوا: حولي الحصى يعنون صغاره, كذلك زعم بعض الناس, ويجوز أن يكون الذين قالوا: أقلب حولي الحصى إنما أرادوا نسبة الحصى إلى ما حول الإنسان لا إلى حول السنة.
وقوله:
يذري اللقان غبارًا في مناخرها ... وفي حناجرها من آلسٍ جرع
اللقان وآلس موضعان في بلاد الروم, واللقان: موافق من العربية لفظ فعالٍ من لقن الشيء إذا فهمه, وآلس: موافق لفظ فاعلٍ من ألس إذا خان وغش. وحكي عن علي ابن عيسى الربعي, وكان يذكر أنه قرأ ديوان أبي الطيب عليه في شيراز, وأن عضد الدولة أمره بذلك, أنه كان يروي آلس, بضم اللام, فأما رواية الشاميين فبالكسر. ومعنى البيت أنه يصف الخيل بالسرعة فقد وردت الماء بآلس, وسارت حتى جاءت اللقان فأذرى الغبار في مناخرها ومعها بقية من ورد آلس, وهو في حناجرها, وهذه مبالغة عظيمة في الصفة, لا يجوز أن يكون مثلها, ونحو منها قول الأول: [الطويل]
خلطن بباقي ماء نخلة غدوةً ... وقد رحن عنه ماء بطن الأميلح
وإن القطا الكدري يطلح دونه ... وإن كن قد وافينه غير طلح
ولكن أصحاب النظام يرونها من المحاسن. والحنجرة هذه: الناتئة في الحلق. يقولون في جمعها: حناجر, وحنجر, قال الشاعر: [الكامل]
منعت حنفية بالأسنة منكم ... تمر العراق وما يلذ الحنجر
ويجوز أن تكون النون في حنجرةٍ زائدةً, واشتقاقها من الحجر؛ لأن فيها صلابةً ليست فيها حولها.
وقوله:
كأنها تتلقاهم لتسلكهم ... فالطعن يفتح في الأجواف ما يسع
هذه من المبالغة التي تستحسن في الشعر, وهي موفية على ما قال قيس بن الخطيم: [الطويل]
.................. ... يرى قائم من خلفها ماء وراءها
لأن الإنسان قد ينفذ بصره في الشيء الضيق, وفي (يسع) ضمير, كأنه أراد ما يسعها فحذف المضمر, والمعنى دال عليه, وهو يشبه ما قال الآخر في صفة ضربةٍ وأنها قسمت جسم الرجل قسمين: [السريع]
فصار ما بينهما نفنف ... يسلكه الفارس والراجل
وقوله:
تهدي نواظرها والحرب مظلمة ... من الأسنة نار والقنا شمع
تحريك الميم في الشمع أجود اللغتين, وقد حسن المعنى جزالة لفظه, وكونه في وزن تام لأن المعنى إذا حصل في الوزن القصير كان أقل لحسنه, وقد سبق إلى هذا المعنى, وروي لعبدالله بن المعتز: [مجزوء الرجز]
وشمعةٍ جاء بها الـ ... ـفراش والليل غهب
كأنها وما عليـ ... ــها من شعاعٍ ولهب
رمح بكف فارس ... فيه سنان من ذهب
ولم يقصر (102/أ) صاحب هذه الأبيات القصار, وهي على ضيق الوزن ليست بالمزدراة.
وقوله:
دون السهام ودون الفر طافحة ... على نفوسهم المقورة المزع
طافحة: من قولهم: طفح المكان بالماء إذا امتلأ حتى يفيض, وطفحت القدر إذا جاشت بالزبد. والمقورة: من الاقورار, وهو مذكور في الأضداد, يجعله بعضهم الضمر, وبعضهم السمن, قال الأفوه: [الرمل]
كل قوداء كمرداة الفلا ... وطمر سابحٍ فيه اقورار
فالاقورار: هاهنا الضمر؛ لأن الخيل التي توصف بلقاء الحروب لا يحمد سمنها. وقبل هذا البيت: [الرمل]
نحن قدنا الخيل حتى انقطعت ... شدن الأفلاء عنها والمهار
فهذا دليل على الضمر. وبيت حميد بن ثور الهلالي يحمل على السمن وهو قوله: [الطويل]
وقربن مقورًا كأن وضينه ... بنيقٍ إذا ما رامه الغفر أحجما
والمقور: في الحالين مشبه بالقارة, فإذا أريد به الضامر ذهب إلى أنه صلب فهو كالقارة في الصلابة وهي الأكمة الصغيرة, وإذا أريد به السمن فهو مشبه بها في العظم, والصلابة جميعًا. ويجوز أن يحمل المقور إذا أريد به الضمر على قولهم: قرت الأديم إذا قطعته, كأنهم يريدون أن لحمه قطع منه.
والمزع: جمع مزوعٍ, يقال: مزع الفرس مزعًا إذا عدا عدوًا سهلًا, وكذلك مزع الظبي. وطافحة يجوز فيها الرفع والنصب, فإذا نصبت فهي حال من الجياد التي تقدم ذكرها, وإذا حمل على هذا الوجه فالمقورة بدل من الضمير الذي في طافحةٍ, ويحتمل أن تكون طافحة حالًا من المقورة, كما يقال: في الدار قائمًا أخوك, وهذا الوجه أحسن من الوجه المتقدم, وترفع المقورة على أنها في تقدير المبتدأ, كأنه قال: دون السهام والفر المقورة طافحةً على نفوسهم. وإذا رفعت طافحة جاز أن تكون المقورة في تقدير المبتدأ, ويكون قوله: دون السهام ودون الفر كالظرف الملغى إذا تقدم فقيل: في الدار قائم أخوك, ومن قال: قائم أخوك وهو يجعل قائمًا مبتدأً وأخوك قد سد مسد الخبر, وهو فاعل جاز أن يرفع المقورة بأنها فاعلة طافحةٍ, وقد سدت مسد خبرها, وطافحة مبتدأ. ويجوز أن يجعل الكلام تامًا عند قوله: طافحة على نفوسهم؛ أي: داهية قد طفحت على النفوس, ثم تجعل المقورة المزع بدلًا منها, والمعنى أن هذه الخيل تدركهم قبل إدراك السهام, وتعجلهم عن الفرار.
وقوله:
إذا دعا العلج علجًا حال بينهما ... أظمى تفارق منه أختها الضلع
أظمى يعنى رمحًا, والظما هاهنا غير مهموزٍ, وهو من قولهم: شفة ظمياء يراد بها السمرة وقلة اللحم, فإذا قيل للرمح: أظمى أريد به صلابته وسمرته, ويجوز أن يكون قولهم للمرأة ظمياء مأخوذًا من هذا اللفظ, لأنه لو كان من الظمأ الذي هو العطش لوجب أن يقال في المؤنث: ظمأى بالهمز على مثال: سكرى أنثى السكران؛ لأن المذكر: ظمآن, وإذا قيل في صفة الرماح: الظماء احتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من هذا الذي تقدم ذكره, والآخر أن يكون من الظمأ الذي هو العطش؛ لأنهم يصفون الرماح بذلك, ويقولون: الأسل الظماء, والأسل النهال, ورويت الرمح, قال الشاعر: [الطويل]
رماني ثلاثًا ثم أني طعنته ... فرويت منه صعدتي وسنانيا
وقال حسان: [الوافر]
................ ... على أكتافها الأسل الظماء
وقال أبو شجرة السلمي: [الطويل]
ورويت رمحي من كتيبة خالدٍ ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
ولا يمتنع أن يكون هذا اللفظان أصلهما واحد؛ إلا أنهم فرقوا بينهما بالهمز, كما قالوا: سبأت الخمر وسبيت العدو. والضلع عندهم أفصح من الضلع, والضلع بسكون اللام وهي لغة معروفة, والضلع مؤنثة, قال الشاعر: [الطويل]
هي الضلع العوجاء لست مقيمها ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
واشتقاقها من الضلع, وهو الاعوجاج (102/ب) يقال: رمح ضلع, وكذلك السيف.
قال الشاعر: [الطويل]
وقد يحمل السيف المهند ربه ... على ضلعٍ في متنه وهو قاطع
ولو ذكرت الضلع في الضرورة؛ لأن تأنيثها غير حقيقي لم يبعد ذلك, ومعنى البيت أن العلج إذا دعا العلج الآخر ليغيثه حال بينهما رمح إذا طعن به فرق بين الضلع وأختها, والأخوة بينهما أعظم من الأخوة بين الرجلين اللذين يجمع بينهما أب وأم, لأنهما يخلقان في وقتٍ واحدٍ, ثم لا يفترقان إلا بعد فراق الحياة, وأشد أخوةٍ تكون بين الرجلين أن يكونا توأمين, والتوأم لابد له أن يفارق أخاه, كما يفارق الشخص الشخص للحاجة التي تعرض, والتصرف في شؤون الحياة, والضلع ليست كذلك. وهذا الغرض من أحسن المبالغة.
وقوله:
أجل من ولد الفقاس منكتف ... إذ فاتهن وأمضى منه منصرع
الفقاس: لقب لرجلٍ من الروم بعض ولده المعروف بنقفور, وقد صار إليه ملك الروم, وهو الذي قتلته أم بسيل وقسطنطين, وكانت قد تزوجته وابناها صغيران؛ فخشيت أن يخرجهما من المملكة, فدست عليه وهو نائم ليلًا قومًا, منهم ابن شمشقيق الذي ذكره أبو الطيب فقتلوه. وكان والد نقفور دمستقًا وهو والد قسطنطين الذي أسره سيف الدولة في وقعة الأحيدب, وفي أيامه كانت الوقعة التي قيلت فيها هذه القصيدة, ويقال: إنه كان مع ابنه نقفور, وقد جعل الأمر إليه لما افتتحت حلب سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة. وبعض الناس يخبر أن الفقاس كان من آل جفنة الذين دخلوا إلى الروم في أيام عمر بن الخطاب. ويجوز أن يكون الفقاس كلمةً روميةً قد عربتها العرب فأخرجتها إلى مثال فعالٍ من قولهم: فقست البيضة. وفي هذا البيت تسلية للمدوح عن انفلات الدمستق وهو ولد الفقاس.
يقول: أجل منه قد أسر وكتف, وأمضى منه قد قتل فهو منصرع.
وقوله:
وما نجا من شفار البيض منفلت ... نجا ومنهن في أحشائه فزع
ما: في أول البيت نافية, والمعنى: لم ينج, ونجا الثانية في موضع نعتٍ لمنفلتٍ, يقول: ما نجا من السيوف منفلت في أحشائه منهن فزع.
وقوله:
يباشر الأمن دهرًا وهو مختبل ... ويشرب الخمر حولًا وهو ممتقع
يقال: امتقع لون الرجل إذا تغير من فزعٍ أو غيره, والميم هي اللغة الفصيحة, وحكى الفراء: انتقع, بالنون. ويباشر هو من التزاق بشرة الإنسان ببشرة غيره. والبشرة: ظاهر الجلد, ثم كذر ذلك حتى قالوا: فلان يباشر الأمر؛ أي: يمارسه, كما يباشر أحد المباشرين الآخر. والمعنى أن الذي نجا من القتل لم ينج نجاءً كاملًا, إذ كان قد حصل في المأمن وعقله مختبل من الذعر, وهو يشرب الخمر بعد خلاصه حولًا ولونه ممتقع, وهذه مبالغة؛ لأن الخمر شأنها أن تظهر في الوجه لونًا محمرًا, والامتقاع: هو ذهاب الدم من الوجه.
وقوله:
كم من حشاشة بطريقٍ تضمنها ... للباترات أمين ما له ورع
الحشاشة: بقية النفس وأصلها - والله أعلم - مأخوذ من حش الشيء إذا يبس, ومنه قولهم لما يبس من الكلأ: حشيش. فإذا احتش الرجل لدابته حشيشًا, وبقي منه شيء قيل له: حشاشة؛ كما يقال لما فضل من الطعام: فضالة, ولما أغدر من الشيء المأخوذ: غدارة, فأريد أن الحشاشة بقية نفسٍ قد أخذ معظمها. والباترات: السيوف؛ لأنها تبتر؛ أي: تقطع. وأمين هاهنا يعني به القيد الذي يجعل في الأسير؛ أي: إنه إذا أودعه الإنسان فهو مأمون على الوديعة, لأن المقيد به لا يقدر على الهرب. والورع هاهنا: من قولهم: رجل ورع إذا كان يتحرج من المآثم, ولا يقدم على خيانةٍ ولا قبيح؛ أي: هذا القيد أمين, وليس هو من أهل الورع, الذين يحملهم على ذلك الأمانة, وقد جاء في الشعر القديم وصف القيد بأمين إلا أنه يراد به هذا المعنى (103/أ)؛ وذلك في البيت المنسوب إلى ابن الطثرية, وهو في صفة بعيرٍ مقيدٍ: [الطويل]
إذا رام فيها مطلعًا كف غربه ... أمين القوى عض اليدين فأوجعا
فالأمين هاهنا: قيد وثيق قد أمن انقطاعه. والأمين الذي ذكره أبو الطيب يراد به الأمين من الأمانة التي هي ضد الخيانة؛ إلا أنه يرجع إلى الأمين الذي هو قوي شديد, لأنه إنما يمنعه من الخيانة ما هو فيه من القوة.
وقوله:
يقاتل الخطو عنه حين يطلبه ... ويطرد النوم عنه حين يضطجع
هذا البيت في صفة القيد, وأنه يمنع المقيد من الخطو, ويطرد النوم عنه إذا اضطجع؛ لأنه يؤلمه, وقد وصف المتقدمون القيد بتقصير الخطو, قال الشاعر: [الوافر]
حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل يدنو لصيد
قصير الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدًا أني بقيد
فهذا جعل قيده من الكبر قاصرًا خطوه, كما قال الآخر: [الكامل]
والدهر قيدني بقيدٍ مبرمٍ ... فمشيت فيه فكل يومٍ يقصر
وقال الحكمي في صفة مقيد: [الطويل]
إذا قام غنته على الساق حلية ... لها خطوه عند القيام قصير
وقوله:
تغدو المنايا فلا تنفك واقفةً ... حتى يقول لها عودي فتندفع
هذا البيت يجب أن يكون في صفة القيد أيضًا؛ لأنه متصل بصفته, ولولا ذلك لكان تصييره للمدوح أشبه, ولكن الكلام طال, واتصل هذا البيت بما قبله اتصالًا يشهد بأنه مشفوع به, والمعنى: أن هذا المقيد تغدو عليه المنية فتنظر: إن كان يقتل حكمت فيه, وإن كان يترك القيد عليه رجعت عنه؛ لأن تركه بقيده يدل على أن قتله لم يؤمر به؛ إذ العادة جارية بأن يؤخذ قيده لينتفع به في تقييد سواه.
وقوله:
قل للدمستق إن المسلمين لكم ... خانوا الأمير فجازاهم بما صنعوا
المسلمين: أي: الذين أسلموا إليكم فقتلتموهم أو أسرتموهم, وادعى على القوم أنهم خانوا الأمير فجازاهم على خيانتهم بإسلامهم إلى العدو, وهذا من الافتراء الذي يحسن به أمر الممدوح, ويقام به العذر في الهزيمة.
ولعل الذين أسلموا للروم كانوا أعظم الجيش نصيحةً, وأشدهم بعدًا من الخيانة.
وقوله:
وجدتموهم نيامًا في دمائكم ... كأن قتلاكم إياهم فجعوا
يذكر من يدعي علمًا بغزوات سيف الدولة بن حمدان أن أصحابه مروا في هذه الغزاة, وهي التي كانت تسمى في ذلك العصر غزاة المصيبة, مروا في هزيمتهم بمقتلةٍ من الروم فظنوا أن أولئك القتلى لا يجاوزهم أحد من العدو, فنزلوا في ذلك الموضع ليستريحوا, فجاءت خيل الروم فوجدتهم على تلك الحال, فنالوا منهم المراد من قتلٍ وأسرٍ.
ومعنى البيت: أنكم وجدتم هؤلاء القوم نيامًا بين قتلاكم, كأنهم الذين فجعوا بهم, وذلك أن من شأن من قتل له قتيل أن يكب عليه, ويحمله الجزع على أن يتلطخ بدمه, كما أن المحزون يمترغ على القبر ويقبله لشدة الأسف.
وقوله:
ضعفى تعف الأعادي عن مثالهم ... من الأعادي وإن هموا بهم نزعوا
نزعوا عن الشيء: إذا أقلعوا عنه. والمعنى أن هؤلاء القوم الذين أخذتم كانوا ضعفاء لا قوة لهم بالدفاع, قد جرت عادة الأعداء ألا تقتل مثلهم في الحروب؛ لأن النهي في الإسلام قد جاء عن قتل الشيخ والأسيف والعسيف. وقيل: إن الأسيف هاهنا العبد. والعسيف الأجير, ويفسر الأسيف في غير هذا الموضع بأنه الكثير الأسف والحزن والذي يسرع إليه البكاء. والأعادي جمع أعداءٍ, وأعداء جمع عدًى وعدًى, وهذا البناء اسم للجمع؛ لأنه جمع عدو, ولا يجمع فعول على فعلٍ ولا فعلٍ, وقد استعملوا العدو في الواحد والاثنين والجميع, وقالوا للمرأة: عدو, وعدوة, ولو شددت الياء من الأعادي لكان ذلك قياسًا, ولم يأت في السماع, لأن أعداءً على أفعالٍ (103/ب) فكان ينبغي أن يجيء على مثال أصرامٍ وأصاريم, وأنعامٍ وأناعيم, ولكنهم ألفوا تخفيف الياء, ولم يفعلوا به ما فعلوا بصحاري لأنهم شددوا الياء, في بعض اللغات, وخففوها, فقالوا: صحارٍ, وأبدلوها فقالوا: صحارى.
وقوله:
لا تحسبوا من أسرتم كان ذا رمقٍ ... فليس تأكل إلا الميت الضبع
الرمق: بقية النفس, والضبع: توصف بأكل القتلى, ونبش القبور, وجاء في الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلًا جاءه فقال: يا رسول الله, أكلتنا الضبع, وتقطعت عنا الخنف, وأحرق بطوننا التمر» , يعني بالضبع السنة الشديدة.
وليس يرى النحويون أن فيها ضميرًا يحجز بينها وبين الفعل, والأشبه أن تكون خاليةً من الضمير, وتكون في معنى ما.
وقوله:
هلا على عقب الوادي وقد صعدت ... أسد تمر فرادى ليس تجتمع
يروى: عقب وعقب, فإذا كسرت القاف فهو مأخوذ من عقب الإنسان وذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون أراد بالعقب آخر الوادي كما أن العقب آخر الجسد.
والآخر: أن يكون العقب هاهنا ما كان قريبًا منه, كما يقال: جئت على عقب فلانٍ؛ أي: أثره, والعقب هاهنا: جمع عقبةٍ وهي معروفة. وليس في قوله: «ليس تجتمع» لو أن الكلام منثور لكان دخول التاء فيها أحسن؛ لأن ذكر الأسد قد تقدم.
وقوله:
تشقكم بفتاها كل سلهبةٍ ... والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع
تشقكم: أي: تشق صفوفكم وجماعاتكم. وفتاها: أي: الفتى على ظهرها, وهم يتسعون في الإضافة حتى يضيفوا إلى الشيء ما هو بعيد منه, وإن كانوا يردون الإضافة إلى أصلين, وهما: اللام, ومن الخافضتان. وكل: كلمة تعم, ومن العرب من يدخل عليها الهاء فيقولون: كلة رجلٍ, وإذا أضيفت إلى المؤنث كسبت منه التأنيث, فيقال: جاءتني كل امرأةٍ. ولو قيل: جاءني, لم يبعد, غير أن التأنيث أبين وأحسن.
وقوله:
وإنما عرض الله الجنود لكم ... لكي يكنونوا بلا فسلٍ إذا رجعوا
يقال: عرض السلطان الجند: إذا اختبر أمورهم, وأحضرهم بين يديه, فنظر من يجب أن يسقط منهم, ومن يجب أن يزاد في الرزق, وطالبهم باتخاذ آلات الحرب, وارتباط الخيل السابقة. والفسل: الساقط من الناس, والمصدر: الفسالة, والفسولة. وقد قالوا: فسول الدراهم لما ردؤ منها, ومن ذلك قالوا: فسيل النخل لما صغر منها, قال الشاعر: [المتقارب]
بات يروي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل
وقوله:
الدهر معتذر والسيف منتظر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع
مصطاف: موضع يصاف فيه, وهو مفتعل من صاف يصيف, والطاء مبدلة من تاء الافتعال وكذلك يفعلون بها إذا وقعت بعد حرفٍ من حروف الإطباق, وهي: الصاد والضاد والطاء والظاء, فيقولون: مصطبر ومضطجع ومطلع ومظلم, وفي هذه ثلاث لغاتٍ: مطلم, بطاء مشددة, وبظاءٍ فيها تشديد, وبظاءٍ بعدها طاء, وهذه أردأ اللغات. فأما مصطبر فيجوز فيه مصبر, بتشديد الصاد, وقرأ بعض الناس {أن يصلحا بينهما صلحًا} ويجوز في مضطجعٍ: مضجع, بضادٍ مشددةٍ, فأما ما كان فاء الفعل منه طاءً, مثل: مطلبٍ ومطلع فليس فيه إلا لغة واحدة, والمرتبع: الموضع الذي يحل فيه أيام الربيع. يقال: مرتبع ومتربع ومربع.
وقوله:
وما الجبال لنصرانٍ بجاميةٍ ... ولو تنصر فيها الأعصم الصدع
الأعصم: من صفات الوعل. والعصمة: بياض في أوظفته. والوعول: توصف بإلف الجبال, قال أبو خراشٍ الهذلي: [الطويل]
تراه قصيرًا يحسر الطرف دونه ... ولو كان طودًا فوقه فرق العصم
وقال المرقش: [السريع]
لو كان حي ناجيًا لنجا ... من يومه المزلم الأعصم
في باذخاتٍ من عماية أو ... ترفعه دون السماء خيم
والصدع: الوعل بين الوعلين, لا بالعظيم ولا بالشخت, ويوصف به الرجل أيضًا. وقد حكي تسكين الدال, وقيل: إن ذلك إذا استعمل مقصور على الرجل دون الوعل, قال ذو الرمة: [الطويل]
عسفت اعتساف الصدع مجهول أرضها ... إذا ظلت الآجال عني تضوع
(104/أ) ويروى: حولي تصوع, فهذا البيت في وصف أرضٍ واسعةٍ ليست مما يسلكها الوعل, وقال الأعشى: [البسيط]
والدهر يحدث في خلقاء راسيةٍ ... وهيًا وينزل منها الأعصم الصدعا
والمعنى أن الأعصم لو تنصر لأنزله من معقله الذي يأمن فيه, فلا يغترن الروم بما شمخ من جبالهم فإنك تنزلهم منها راغمين.
وقوله:
وما حمدتك في هولٍ ثبت له ... حتى بلوتك والأبطال تمتصع
الامتصاع: مثل الاضطراب, يقال: تماصع القوم, وامتصعوا, مثل تخاصموا واختصموا, ومصعه بالسيف إذا ضربه به, وبين القوم مصاع, وأنشد ابن الأعرابي: [الوافر]
سلي عني إذا اختلف العوالي ... وجردت الصوارم للمصاع
وبلوتك: أي: اختبرتك.
وقوله:
إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع
الناس ينشدون هذا البيت برفع كل, ولو نصب لكان ذلك وجهًا قويًا يجعل السبع اسم ليس, وكل ما بعدها في موضع الخبر, وإذا رفعت كل فهو مثل البيت المنسوب إلى هشام أخي ذي الرمة, وهو: [البسيط]
هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداء مبذول
وقد ذكر سيبويه هذا البيت في موضعين, كلاهما يبين فيه أنه يختار إضمار شيءٍ في ليس, كأنه يريد ليس الأمر ونحو ذلك, إلا أنه ذكر في الموضع الثاني كلامًا معناه: أن بعض العرب يجري (ليس) مجرى (ما) في هذا البيت, وضعف ذلك, واختار الوجه الأول. ومن تأمل مذاهب العرب علم أن من يقول الشعر بالغريزة لا يتصور الإضمار في ليس؛ لأن ذلك تكلف شديد, والذي يوجبه القياس أنهم أجروا (ليس) مجرى (ما) في بعض المواضع, كما أجروا (ما) مجرى (ليس) في اللغة الحجازية. وحكى عن العرب: «ليس الطيب إلا المسك» فهذا على معنى: ما الطيب إلا المسك.
وذكر عن سعيد بن مسعدة أنه كان يضمر في (ليس) , ويجعل الكلام محمولًا على التقديم والتأخير, كأنه قال: ليس إلا الطيب المسك, وهذا قول من تأمله تأمل منصفٍ غير محابٍ, علم أن العرب لا تتعسف إلى هذا النحو؛ لأنهم يؤثرون ما سهل من الكلام, وكذلك قول من قال في بيت حميدٍ الأرقط: [البسيط]
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى يلقي المساكين
إذا نصب كل أضمر في ليس كيلا يليها شيء انتصب بغيرها, وهذا بعيد جدًا, وإنما (ليس) في معنى (ما) كأنه قال: وما يلقي المساكين كل النوى, فهذا أشبه بمذاهب العرب من الإضمار, وكذلك قول الآخر: [الطويل]
قنافذ دراجون حول خبائهم ... بما كان إياهم عطية عودا
يزعمون أن في كان ضميرًا, والأمر أيسير من ذلك التأويل, وإذا أضمروا في كان لزمهم أن يرفعوا عطية بالابتداء, وإنما هو مرفوع بكان
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
20 أبريل 2024
تعليقات (0)