المنشورات
أركائب الأحباب إن الأدمعا ... تطس الخدود كما تطسن اليرمعا
وهي من الكامل الأول في رأي الخليل, ومن السحل الثالث في رأي غيره.
وإذا كان البيت مصرعًا, ولم يتم المعنى في النصف الأول, فهو جارٍ مجرى التضمين, وأكثر ما تجيء الأنصاف المصرعة تامة في المعنى, كقوله: [الكامل]
أمن آل مية رائح أو مغتد
وقول الحادرة: [الكامل]
بكرت سمية غدوةً فتمتع
وقوله: إن الأدمع لم يتم به الكلام فاحتاج إلى أن يلحق الألف للترنم, والكلام غير تام فدخل ذلك في جملة التضمين. وتطسن من قولهم: وطس الحجر إذا كسرها. واليرمع: حجارة بيض رقاق تنفت باليد, ومن الأمثال القديمة: «كفا مطلقةٍ تفت اليرمعا» يضرب ذلك مثلًا للرجل النادم على الشيء فعله, فهو يعبث بيده, رواه الأصمعني: كفا مطلقةٍ, ورواه أبو عبيدة: يدا مطلقة, قال الشاعر: [الكامل]
وكأنهم أجادل وكأنه ... خذروف يرمعةٍ بكف غلام
وقوله:
فاعرفن من حملت عليكن النوى ... وامشين هونًا في الأزمة خضعا
خاطب الركائب, وقد علم أنها لا تفهم, وأمرها بان تعرف أن من فوقها من لظعائن لهن كرم وموضع ليس لغيرهن, فيبنغي أن تقابلنهن بالإكرام, وتمشين هونًا؛ أي: مشيًا رويدًا سهلًا, ومنه قولهم: الهوينى للشيء الهين, ويقولون: فلان يستوطئ الهوينى, أي لا يشق على نفسه في الأمور, وهو عندهم عيب, والهوينى اسم مصغر لا يستعملون تكبيره, ومكبره: الهونى, ولا يكادون ينطقون به, قال النابغة: [الوافر]
يقدن مع امرئٍ يدع الهوينى ... ويعمد للملمات العظام
ومخاطبة الركائب والديار شيء اصطلحت عليه الشعراء كما اصطلحت على الكذب والإسراف في الصفات. والركائب: جمع ركوبةٍ, وهو ما ركب, ويقولون: ركوب القوم وركبوتهم, فيجوز أن يقع الركوب على الواحد والجمع, وكذلك الركوبة, وفي كتاب الله سبحانه: {فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} وقد قرئ: ركوبتهم.
وقوله:
حتى كأن لكل عظمٍ رنةً ... في جلده ولكل عرقٍ مدمعا
الرنة: كأنها جارية على قولهم في الماضي: رن رنةً, كما يقولون: أنه أنةً, وحن حنةً, وقد حكي: {ن وأرن؛ إلا أن أرن أكثر, وكان بعض أهل اللغة ينكر: رن, والإرنان: صوت شديد, يقال: أرن الحمار على أتنه, وأرن الطائر على الشجرة إذا رفع صوته. والهاء في جلده عائدة على العظم.
وقوله:
وكفى بمن فضح الجداية فاضحًا ... لمحبه وبمصرعي ذا مصرعا
الجداية: ولد الظبي إذا بلغ ستة أشهرٍ, يقع على الذكر والأنثى, ويقال: جداية, بفتح الجيم, وهو أفصح, وجداية, بالكسر, وقال قوم: الجداية: الذكر من أولادها؛ يذهبون إلى أنه في الظباء مثل الجدي في المعز. قال الراجز: [الرجز]
لأصبحت حمل بن كوز ... علالةً من وكروى أبوز
تريح بعد النفس المحفوز ... إراحة الجداية النفوز
يروى: حمل بن كوز على أن حملًا اسم رجلٍ, ويروى: جمل ابن كوز, بإضافة جملٍ إلى ابنٍ:
وقوله: (109/أ)
سفرت وبرقعها الفراق بصفرةٍ ... سترت محاجرها ولم تك برقعا
يقال: سفرت المرأة إذا ألقت خمارها عن وجهها, وكذلك سفر الرجل إذا ألقى عمامته, وأسفر وجهها إذا أضاء, وكذلك الصبح, وأجاز قوم: أسفرت عن وجهها, وليس بمعروفٍ, وقال توبة بن الحمير: [الطويل]
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
ويقال: سفرت الريح الغيم إذا كشفته, واستعمل أبو الطيب الصفرة عند الفراق؛ لأنه يحدث فزعًا في المفازق. والمحاجر: جمع محجر العين, وهو ما حولها.
وقوله:
فكأنها والدمع يقطر فوقها ... ذهب بسمطي لؤلؤٍ قد رصعا
الهاء في كأنها وفوقها راجعة إلى المحاجر, والسمط خيط ينظم فيه لؤلؤ, ومنه أخذ التسميط في الشعر؛ وهو أن تجيء أبيات على قافيةٍ, ثم يجيء بيت على قافيةٍ أخرى, ثم يردد ذلك, وقد نسبوا مثل هذا إلى امرئ القيس, ولم يره أحد في ديوانه, وافتن المحدثون فيه, وزعم بعض الناس أنه يسمى السمط, ومنه قول القائل: [الطويل]
أمن آل هندٍ مربع ومصايف ... يصيح بعافيها الصدى والعوازف
عفتها السوافي بعدنا والعواصف ... وكل ملث يكثر الوبل رادف
بأسحم من نوء السماكنين هطال
وإنما جرت عادتهم أن يستعملوا ذلك في الرجز, فإذا استعملوه في غيره جاؤوةا بالأبيات مصرعةً, فربما كان البيت الآخر موازنًا لما قبله, أو ناقصًا عنه بشيء يسير, أو زائدًا زيادةً ليست بالمخلة. والمصراع الأخير من الأبيات المتقدمة يزيد على ما قبله بساكنٍ. ومن السمط قولهم: ثوب أسماط, قيل: هو الذي لا بطانة له, وقيل: هو الذي قد تقطع, فكأن كل قطعةٍ منه سمط, قال الراجز: [الرجز]
تليح من حادٍ لها شرواط ... محتجرًا بخلقٍ شمطاط
على سراويل له أسماط
وقوله:
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلةٍ فأرت ليالي أربعا
يقال: شعر وشعر, وتحريك العين أفصح, والجمع القليل: أشعار, والكثير: شعور, وقالوا للزعفران: شعر.
وجعل كل ذؤابةٍ من شعرها ليلةً, يصفها بالسواد, وهذا مذهب يستحسنه الشعراء, وإنما يريدون السواد لا غير؛ إلا أنهم قد يسرفون في ذلك فيدعون ما يحيل المعنى.
وقوله:
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقتٍ معا
القمران هاهنا: يجوز أن يعني بهما قمرين متساويين؛ لأن الوجه المستحسن يشبه بالقمر, ولم تجر عادة الليل أن يكون فيه إلا قمر واحد, ويجوز أن يعني بالقمر الذي أرته: الشمس؛ لأن الشمس والقمر لا يجتمعان, وإنما جعلوا الشمس قمرًا إذا جعلوا معها القمر الطالع بالليل, فغلبوا المذكر على المؤنث.
وقوله:
زجل يريك الجو نارًا والملا ... كالبحر والتلعات روضًا ممرعا
الزجل: شدة الصوت, فيجوز أن يعني به صوت الرعد, والأحسن أن يعني به صوت المطر نفسه؛ لأنه يصفه بالكثرة فيسمع له حفيف. وإذا لم يكن في الغيث رواعد, فهو أهنأ له؛ لأن الراعدة تذعر الماشية, وتوقظ النائم, وربما كانت معها الصاعقة. وقوله: «يريك الجو نارًا» يدل على أنه أراد بالزجل: ذا الرواعد, والدليل على ذلك مبالغته في صفة البرق وكثرته. والملا: الأرض الواسعة, قال الشاعر: [الطويل]
ألا غنياني وارفعا الصوت بالملا ... فإن الملا عندي يزيد المدى بعدا
يقول: ملأ هذا العارض الأرض الواسعة ماء, فصارت كالبحر.
وقوله:
ألف المروءة مذ نشا فكأنه ... سقي اللبان بها صبيًا مرضعا
أصل نشأ: الهمز, وتخفيفه جائز في القياس, وقد جاء في السماع, وهذا البيت يروى لسحيم عبد بني الحسحاس: [الطويل]
أخوهم ومولاهم وصاحب سرهم ... ومن قد نشا فيهم وعاشرهم دهرا
ويقال: هو أخوه بلبان أمه إذا كانا (109/ب) قد رضعا من ثديٍ واحدٍ, ويجب أن يكون مصدر: لابنه يلابنه لبانًا, قال الأعشى: [الطويل]
رضيعي لبانٍ ثدي أم تحالفا ... بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق
وقوله:
نظمت مواهبه عليه تمائمًا ... فاعتدها فإذا سقطن تفزعا
هذا البيت متعلق بالبيت الأول؛ لأن التشبيه متقدم, ولولا ذلك لم يصح المعنى؛ لأنه إذا قال: كأنه صبي حسن أن يقول: نظمت مواهبه عليه. والتمائم: جمع تميمةٍ فيجوز أن يكون هذا الاسم مؤديًا معنى تامةٍ؛ أي: إنها تامة المنفعة, كما قالوا: تميم؛ أي: تام, ويحتمل أنهم أرادوا تمامها في الطول؛ لأنها تكون أطول من غيرها من العوذ, فهم يذكرون التمائم لعلتين: إحداهما أنهم كانوا يدفعون بها الجن, ويخشون على الأطفال, أشد من خشيتهم على الرجال والبالغين.
والأخرى أنهم يدفعون بها العين, قال الشاعر: [الطويل]
بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرضٍ مس جلدي ترابها
وقالوا: تميم في الجمع, قال عبد الله بن قيس الرقيات: [الخفيف]
يتقي أهلها النفوس عليها ... فعليها قلائد وتميم
وقوله:
ترك الصنائع كالقواطع بارقا ... ت والمعالي كالعوالي شرعا
الصنائع: جمع صنيعةٍ, وهو ما يسديه الإنسان إلى غيره من الجميل. والمعنى: أنه ظهرت صنائعه كما تظهر السيوف إذا ضرب بها, فهي بارقات ينظر إليها كل ناظرٍ. وجعل المعالي شرعًا كالعوالي: جمع عالية الرمح, كأنها كانت قبله غير مستعملةٍ, فأشرعها هو أي: جعلها شارعةً. وقولهم: رماح شوارع يريدون أنها كالواردة دماء من يطعنون؛ فكأنها شارعة فيها, كما تشرع الواردة في الماء.
وقوله:
متبسمًا لعفاته عن واضحٍ ... تعشي لوامعه البروق اللمعا
استعار العشى للبرق, وإنما أصله في العين الناظرة إذا ضعف بصرها, وقالوةا: عشي عشًى إذا لم يبصر بالليل. وقال الراجز: [الرجز]
يعشى إذا أظلم عن عشائه
وكأنه يريد أن البرق يقل نوره, ويخفى إذا تبسم هذا الممدوح؛ لأن لمعان ثغره يزول عنده لمع البرق, ويغيب فيه, فجعل فقد نوره كالعشى في العين؛ لأن بصرها يضعف.
وقوله:
الحازم اليقظ الأغر العالم الـ ... ـفطن الألد الأريحي الأروعا
نصب الحازم على إضمار فعلٍ, كأنه قال: أعني الحازم أو أمدحه, أو نحو ذلك من الأفعال. ويقال: يقظ ويقظ؛ أي: لا يغفل عن الأشياء, وإذا وصفوا الرجل بأنه فطن للأشياء غير مغفلٍ للرأي وصفوه باليقظ واليقظان, وإذا عجبوا من غفلته وإضاعته ما يليه شبهوه بالنائم, قال الشاعر: [الوافر]
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
ويصفون الرجل بقلة النوم, قال الراجز: [الرجز]
أعرف فيه قلة النعاس ... وخفةً من راسه في راسي
كيف رأيت عنده مراسي
ويقولون للرجل: أغر إذا وصفوه ببياض الوجه, ويسمون الوجه غرةً, يقولون: هو ميمون الغرة, وأصل ذلك في الخيل. وأصل الألد: الشديد الخصومة؛ كأنهم يريدون أنه يلد خصمه بما يكره, أو أنه يميله في لديده, واللديد: صفحة العنق, ويجوز أن يسمى الجنب: لديدًا, ومنه قولهم: تركته يتلدد؛ أي: يميل في جانبيه, وهم يحمدون البلاغة واستظهار الرجل على خصمه, ويذمون العي والانقطاع, قال الشاعر: [الطويل]
يكاد يزيل الأرض وقع خطابهم ... إذا وصلوا أيمانهم بالمخاصر
لأنهم كانوا إذا أرادوا الكلام أخذوا شيئًا في أيديهم, كأنهم يستمرون به المنطق. والأريحي: الذي يرتاح للمعروف, ولا ريب أن اشتقاقه من الريح, وهي من ذوات الواو, ولكنهم لما قالوا: ريح, وفي الجمع رياح, أنسوا بالياء, فقالوا: أريحي, وكرهوا أن يعيدوه إلى أصله؛ لأنهم كرهوا أن يقولون: أروحي, فيشتبه بالنسب إلى الأروح الرجلين, كما كرهوا أن يقولون في جمع العيد: أعواد, فيشبه جمع عودٍ.
وقوله (110/أ):
الكاتب اللبق الخطيب الواهب النـ ... ـدس اللبيب الهبزري المصقعا
كانت الكتابة في الجاهلية قليلةً, فكان الرجل إذا كتب صار ذلك فضيلةً له, ثم كثرت الكتابة في الإسلام حتى لم يوصف بها إلا من هو متميز من غيره, يحسن الخط أو البلاغة, أو يكون في خدمة رئيس يكتب بين يديه, فيحسن أن يوصف بذلك. واللبق: الذي يلبق به ما يصنعه يقال: لبق ولبيق, وبيت الحارثي ينشد على وجهين: [الطويل]
وإني إذا ما الخيل شمصها القنا ... لبيق بتصريف القناة بنانيا
ويروى: رفيق. والهبرزي: صفة محمودة؛ فبعضهم يقول: هو الجميل الوجه. وقال قوم: الهبرزي: الإسوار من أساورة الفرس, وهو عندهم معرب, ولما كان يقال للإسوار من الفرس: هبرزي؛ وصفوا به من هو عندهم ذا غناءٍ وفضلٍ, كما قالوا للرئيس من العرب: بطريق, وإنما هو للروم في الأصل. وقال قوم: الهبرزي: الجيد من كل شيءٍ, حتى قالوا: خف هبرزي, أي: جيد, وقالوا للدينار: هبرزي إذا كان خالص الذهب, قال الشاعر: [الطويل]
فما هبرزي من دنانير أيلةٍ ... بأيدي الوشاة مشرقًا يتأكل
وقوله:
يهتز للجدى اهتزاز مهندٍ ... يوم الرجاء هززته يوم الوعى
يصفون الرجل بالهزة إذا سئل, وهو مثل قولهم: أريحي. قال الشاعر: [الطويل]
وتأخذه عند المكارم هزة ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب
والوعى: الصوت, مثل الوغى, وقوله: هززته يوم الوعى في موضع وصفٍ لمهندٍ.
وقوله:
أقصر ولست بمقصرٍ جزت المدى ... وبلغت حيث النجم تحتك فاربعا
يقال: ربع إذا أقام. والنجم: يحتمل أن يكون هاهنا الواحد من النجوم, لا يخص به بعض دون بعضٍ, ويجوز أن يعني الثريا؛ لأنهم إذا قالوا: النجم أوقعوه عليها دون غيرها في كثير من المواضع, قال الشاعر: [الطويل]
إذا النجم وافى مغرب الشمس عطلت ... مقاري حيي واشتكى الغدر جارها
لأن الثريا في الشتاء تطلع عشاءً, وإذا طلعت مع الصبح فذلك من دلائل الحر.
وقوله:
أكلت مفاخرك المفاخر وانثنت ... عن شأوهن مطي وصفي ظلعا
الِشأو: الطلق, وإنما هو مأخوذ من قولهم: شاءه يشاؤه إذا سبقه, وقالوا: شأوته وشأيته, إلا أنهم ثبتوا على الواو في الشأو. واستعار المطي للوصف, ويجوز أن يجعل القصائد كالمطي؛ لأنها تحمل المديح, وتسير به في البلاد.
وقوله:
وجرين جري الشمس في أفلاكها ... فقطعن مغربها وجزن المطلعا
قوله: جرين: يجوز أن يعني به المفاخر, وأن يعني به مطي وصفه, وكذلك قوله: وخشين ألا تقنعا: يحتمل الوجهين.
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
20 أبريل 2024
تعليقات (0)