المنشورات
لجنيةٍ أما غادةٍ رفع السجف ... لوحشيةٍ لا ما لوحشيةٍ شنف
وهي من الطويل الأول على مذهب الخليل, ومن الضرب الخامس من السحل الأول في قول غيره, وأراد ألف الاستفهام فحذفها, وتلك ضرورة, وقد ذهب بعض الناس إلى أن حذف ألف الاستفهام قد جاء في القرآن في مثل قوله تعالى: {وتلك نعمة تمنها علي} قالوا أراد: أو تلك, وهذا قول يضعف. وكانت العرب إذا استحسنت الشيء نسبته إلى الجن, وكذلك إذا تناهو في صفة الرجل بالشجاعة جعلوه جنيًا, قال النابغة: [الكامل]
سهكين من صدأ الحديد كأنهم ... تحت السنور جنة البقار
وقال زهير: [الطويل]
بخيلٍ عليها جنة عبقرية ... جديرون يومًا أن ينالوا ويستعلوا
والغادة: الناعمة, ويقال: هي التي فيها انثناء, وقالوا: نبت غاد إذا كان ناعمًا متثنيًا, قال كثير: [الطويل]
وبيضاء رعبوبٍ كأن وشاحها ... على ناعمٍ من غاب دجلة غاد
والسجف, بكسر السين وفتحها, والكسر أكثر: ما يستعمل في معنى الستر, وقيل: هو أسفل الستر. وكأن الشاعر شك في هذه المذكورة فجعلها جنيةً, ثم توهم أنها غادة من الإنس, ثم انصرف عن ذلك الرأي, فظن أنها وحشية؛ لأنهم يشبهون المرأة بالظبية, والبقرة من الوحش, ثم أنكر أن تكون وحشيةً لما رأى عليها شنفًا, وهو ما علق في أعلى الأذن إذ كانت الوحوش لا يكون عليها حلي. وقد يجوز أن يحمل البيت على أن ألف الاستفهام غير مرادةٍ فيه, كأنه قال: لوحشيةٍ رفع السجف, وهو لا يشك في ذلك, ثم جاء بأم؛ لأنها تجيء في معنى بل, وليس قبلها استفهام. ومن ذلك قوله تعالى: {الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} , ثم قال: {أم يقولون افتراه} وهذا الوجه أحسن من الأول؛ لأنه يخلو من الضرورة.
وقوله:
نفور عرتها نفرة فتجاذبت ... سوالفها والحلي والخصر والردف
(113/ب) النساء يوصفن بالنفار, وكأنما ذلك محمول على أنهن ينفرن من الريبة, قال الشاعر: [الطويل]
تريع إلى أنس الحديث وإن ترد ... سوى ذاك تذعر منك وهي ذعور
ولذلك وصفوا المرأة بالنوار, قال الباهلي: [الوافر]
أنورًا سرع ماذا يا فروق ... وحبل الوصل منتكث حذيق
وقال العجاج:
يخلطن بالتأنس النوارا
والسوالف: جمع سالفةٍ, وهي مقدم العنق, وكأنها مأخوذة من قولهم: سلف الشيء إذا تقدم. يقول: ألمت بهذه المذكورة نفرة, فتجاذب جيدها وحليها؛ يعني بالحلي ما يكون في العنق, والحلي يقع على الذهب والفضة, ويدخل اللؤلؤ وما جرى مجراه مما تتزين به النساء من زبرجدٍ وجزعٍ, وغير ذلك, قال المرقش: [الطويل]
تحلين ياقوتًا وشذرًا مفصلًا ... وجزعًا ظفاريًا ودرًا توائما
يريد أن المرأة ارتجت للنفرة فوقع التجاذب بين أعضائها.
وقوله:
وخبل منها مرطها فكأنما ... تثنى لنا خوط ولا حظنا خشف
المرط: كساء من صوفٍ, ويمكن أن يقال للكساء من الخز: مرط, وفي الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مروط نسائه» وخبل: أي: أحدث فيها خبالًا؛ أي: اضطرابًا, والخبل والخبل والخبال اشتقاقهن واحد, وهن يستعملن في الفساد والاضطراب, وكثر في الكلام القديم استعمالهم الخبل في قطع اليد والرجل, قال متمم: [الطويل]
وكل فتى في الناس بعد ابن أمه ... كذاهبة إحدى يديه من الخبل
فأما قول الآخر: [الطويل]
من الدارميين الذين دماؤهم ... شفاء من الداء المجنة والخبل
فالخبل: هاهنا يقع على كل داءٍ يفسد الصحة, وإنما سموا الجن خبلًا؛ لأنهم يذهبون إلى أنهم يخلبون الإنس أي: يفسدون عقولهم وأجسامهم. والخوط: الغصن القومي. والخشف: ولد الظبية, وإنما قيل له: خشف من قولهم: خشف في الشيء إذا دخل فيه؛ يريدون أنه يدخل في الأشياء فيستتر فيها.
وقوله:
هراقت دمي من بي من الوجد ما بها ... من الوجد بي والشوق لي ولها حلف
أصل الحلف من قولهم: حلف يمينًا, وقالوا: فلان حلف فلانٍ؛ أي قد حالفه على أمرٍ يفعلانه, والقوم أحلاف. ثم كثرت هذه الكلمة حتى قالوا: فلان حلف كذا؛ أي: لازم له, وإن لم تكن ثم يمين, فيقال: هو حلف جودٍ وحلف غدرٍ؛ أي: كأنه قد حالفه.
وقوله:
ومن كلما جردتها من ثيابها ... كساها ثيابًا غيرها الشعر الوحف
يقال: ومن كلما جردتها من ثيابها ... كساها ثيابًا غيرها الشعر الوحف
يقال: شعر وحف, أي: كثير النبات بين الوحافة والوحوفة, ومنه قولهم: وحفت البعير إذا أحكمت طلاءه بالقطران؛ كأنهم يريدون أنهم جعلوه في السواد مثل الشعر الوحف. ويقال: إن الوحاف حجارة سود, فيجوز أن يكونوا شبهوها في اللون بالحوف من الشعر, وقال قوم: الوحفة: أرض حمراء, وجمعها وحاف, ومن هذا الاشتقاق قول لبيدٍ: [الكامل]
فصوائق إن أيمنت فمظنة ... منها وحاف القهر أو طلخامها
والشعراء تغرق في وصف الشعر بالكثرة والخصب حتى تخرج بذلك إلى حالةٍ لا تحمد, كقول النابغة: [الكامل]
وبفاحمٍ رجل أثيث نبته ... كالكرم مال على الدعام المسند
وقوله:
وقابلني رمانتا غصن بانةٍ ... يميل به بدر ويمسكه حقف
الشعراء تشبه الثديين بالرمانتين, وكثر لك حتى ألقوا حرف التشبيه, كما طرحوه في كثير من المواضع, قال النابغة: [الطويل]
ويخبأن رمان الثدي النواهد وفي حديث أم زرعٍ: «معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين» فذهب قوم إلى أن المراد الثديان ولم ير أبو عبيدة ذلك, وذهب إلى أن المراد رمانتان من هذا الرمان (114/أ) المعروف. وفي هذا البيت من الصنعة أنه جعل الرمانتين في غصن بانٍ, والبان لا يثمر رمانًا, ولكن الشعراء يشبهون القد المستحسن بغصن البان, ويخصونه بذلك دون غير من الشجر, ويقال: إن هذه الكلمة التي هي البان ليست عربيةً في الأصل, وإنها مهموزة, وأما الشعراء فحمولها في العيافة على أنها من البين, وهذا الشعر يروى لسوار بن مضربٍ السعدي: [الوافر]
تنادى طائران ببين سعدى ... على غصنين من غربٍ وبان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي العرب اغتراب غير دان
وكذلك قول الآخر: [الطويل]
فقال غراب باغترابٍ من النوى ... وبان ببينٍ من حبيبٍ تجاوره
والعرب تسميه الشوع, ويروى لأحيحة بن الجلاح الأوسي: [السريع]
إذا جمادى منعت درها ... زان جنابي عطن معصف
في مشرفٍ يسمق جباره ... بحافتيه الشوع والغريف
والحقف: كثيب صغير من الرمل, وأصل اشتقاقه من أن يكون فيه اعوجاج وجمعه أحقاف, وقالوا: ظبي حاقف ففسر على وجهين: أحدهما: أنه الذي قد حقف عنقه؛ أي: حناه, والآخر: أنه في حقف رملٍ, وقالوا: احقوقف الشيء إذا انحنى, قال العجاج: [الرجز]
ناجٍ طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفًا فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا
وقوله:
قليل الكرى لو كانت البيض والقنا ... كآرائه ما أغنت البيض والزعف
الزعف: من صفات الدروع, فقيل: الزغف: الواسع, وقيل: اللين. والواحدة زغفة, ويجيء في الشعر القديم بالسكون والتحريك؛ فيجوز أن تكون فيه لغتان, كما قالوا: نهر ونهر, وزهر وزهر, ويجوز أن يكون التحريك للضرورة, وأما البيض من الحديد فإنما شبه في الأصل ببيض النعام, وهو من التشبيه الذي حذف منه الحرف, قال الراجز: [الرجز]
الدرع والبيضة لا تنجيني ... من قدر الله إذا يأتيني
وقوله:
أديب رست للعلم في أرض صدره ... جبال, جبال الأرض في جنبها قف
القف: غلظ من الأرض, وجمعه: قفاف, قال الشاعر: [الطويل]
لحى الله أدنانا من اللؤم زلفةً ... وأيسرنا عن عرض والده ذبا
وأجدرنا أن يدخل البيت باسته ... إذا القف أبدى من مخارمه ركبا
ولولا أن الكلام منظوم لكان الأحسن أن يقال: جبال الأرض في جنبها قفاف ليقابل جمعًا بجمعٍ, ولكن يمكن أن يجعل هذا من المبالغة؛ لأنه يجعل الجبال وهي جمع كالقف الواحد.
وقوله:
ولما فقدنا مثله دام كشفنا ... عليه فدام الفقد وانكشف الكشف
الهاء في عليه: راجعة على مثله, ولولا أنه منظوم لكان الأشبه بهذا الموضع أن يقال: عنه في موضع عليه. يقول: لما فقدنا مثله طال كشفنا عن مثله لعلنا نجده, فدام فقدنا مثله, وانكشف كشفنا, أي: زال؛ لأنا يئسنا من وجدان مثله, وهو من قولهم: انكشف القوم إذا ولوا.
وقوله:
وما حارت الأوهام في عظم شأنه ... بأكثر مما حار في حسنه الطرف
يقول: ما حارت الأوهام في عظم شأنه بحيرةٍ أكثر مما حار الطرف في حسن وجهه, وإنما حسن دخول الباء هاهنا لمجيء ما في أول الكلام؛ لأنها تدخل على خبرها كثيرًا, وهذا الكلام محمول على معناه؛ كأنه يريد: وما حيرة الأوهام في عظم شأنه بأكثر من حيرة العيون في وجهه, ولو أن الكلام غير منظومٍ وحذفت الباء لم يخل حذفها بالمراد, ودخولها هاهنا يشبه دخولها في قول الشاعر: [الوافر]
فما رجعت بخائبةٍ ركاب ... حكيم بن المسيب منتهاها
وقوله:
ولا نال من حساده الغيظ والأذى ... بأعظم مما نال من وفره العرف
قد جاءت الباء هاهنا كمجيئها في البيت الذي قبله, ومجيئها في البيت الأول أقوى لمجيء «ما» في أوله.
والمعنى: وما الذي نال من حساده الغيظ بأعظم مما نال من وفره العرف؛ أي: إنه قد أهلك ماله بالمعروف, كما أن حساده قد هلكوا بالغيظ.
وقوله:
تفكره علم ومنطقه حكم ... وباطنه دين وظاهره ظرف
الظرف: كلمة قليلة التردد في الكلام القديم, وهي كثيرة في كلام الناس اليوم, وأهل العلم يقولون: إنه (114/ب) يقال: رجل ظريف إذا كان فصيح اللسان, وقيل: رجل ظريف؛ أي: حاذق بالأشياء, والناس في هذا العصر يقولون للحسن المنظر والثياب: ظريف. وفي الحديث: «إذا كان اللص ظريفًا لم يقطع»؛ أي: إذا كان له لسان يحتج به جاز أن يخلص يده من القطع, وأما قول الحكمي: [المنسرح]
..................... ... تيه مغن وظرف زنديق
فيقال: إنه أراد رجلًا كان في زمن السفاح من بني العباس, وكان الزنديق من بني الحارث بن كعبٍ, وكان موصوفًا بالظرف. ولم يرد الشاعر أن الزنادقة كلهم ظراف؛ وإنما أراد أن هذه المذكورة لها ظرف رجلٍ من الزنادقة كما يقال للإنسان: فلان له كرم طائي, وهم يعنون حاتمًا دون غيره, ولا يريدون كل رجلٍ من طيءٍ, وحكى النحويون أنه يقال في جمع ظريفٍ: ظروف, فهو عندهم اسم للجمع. وروى السكري بيت أبي ذؤيبٍ:
وإن غلامًا نيل في عهد كاهلٍ ... لظرف كريم الوالدين صريح
وغيره يروي: لطرف؛ فإن صحت رواية السكري فقولهم: قوم ظروف جمع رجلٍ ظرفٍ كما يقال: ضيف وضيوف. وقال قوم: الظرف إناء الشيء, وإنما قيل: رجل ظريف, كنحو قولهم: رجل جسيم إذا وصف بالجسامة, فأرادوا بهذه اللفظة أن جسمه أفضل من جسم غيره, وذكر الصاحب بن عبادٍ هذا البيت فيما عابه على أبي الطيب؛ لأنه جاء بحرف ساكنٍ في النصف الأول من البيت ولم تجر العادة بمجيء مثله إلا في التصريع, ومثل ذلك مفقود في شعر العرب, والغريزة تنكره بعض الإنكار, وموقع هذا الساكن هو موقع الكاف من قوله: حكم. وفي بعض ما روي أن أبا الطيب ذكر له ذلك فأجاب السائل عنه بأن أنشده قول النابغة: [الطويل]
جزى الله عبسًا عبس آل بغيض ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
فإن صحت هذه الحكاية؛ فإنه أراد أن يخبر أن الشعراء قد جاءت في أنصاف الأبيات بما هو أقبح من هذه الزيادة, وبيت النابغة فيه نقص حرفٍ متحركٍ, وليس هو مردودًا إلى أصلٍ. وبيت أبي الطيب إنما هو إلى أصل الوزن. وهو أقوى من بيت النابغة؛ لأن أصل هذا الوزن أن يكون عدد حروفه ثمانيةً وأربعين حرفًا.
وقوله:
أمات رياح اللؤم وهي عواصف ... ومغنى العلى يودي ورسم الندى يعفو استعار للريح الموت, كما استعاروا لها المرض, فقالوا: ريح مريضة؛ أي: ضعيفة, وجعل للؤم رياحًا عاصفةً؛ لأن اللؤم مذموم, وكذلك الريح العاصفة ليس فيها فائدة. والواو في قوله: ومغنى في معنى إذ أي أمات رياح اللؤم وهي تعصف فتودي بمغنى العلى وتعفي رسم الندى.
وقوله:
فلم نر قبل ابن الحسين أصابعًا ... إذا ما هطلن استحيت الدين الوطف
الأصابع: واحدها إصبع, بكسر الهمزة, وفتح الباء في أجود اللغات, وقد حكي: إصبع وأصبع, ويقال: لفلانٍ إصبع على المال إذا كان حسن القيام عليه, قال الشاعر يصف راعيًا: [الكامل]
صليب العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أمحل الناس إصبعا
والديم: جمع ديمةٍ, وهي مطر يدوم, وليس بالشديد, وقيل: أقل ما يكون يوم وليلة, وأصله من ذوات الواو؛ لأنه من دام يدوم إلا أنهم لما أنسوا بالياء قالوا: ديم المطر, ولم يقولون: دوم, أرادوا أن يفرقوا بين تدييم المطر وتدويم الطائر في الهواء, قال الراجز يصف الفرس: [الرجز]
هو الجواد بن الجواد بن سبل ... إن ديموا جاد وإن جادوا وبل
وقالوا: كثيب مديم؛ أي: قد أصابته الديم من المطر. ووطف: جمع أوطف ووطفاء, وهي السحابة التي لها هيدب؛ أي: غيمها متدل قريب من الأرض, قال امرؤ القيس: [الرمل]
ديمة هطلاء فيه وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر
ومعنى البيت أن هذا الممدوح إذا هطلت أصابعه استحيت الديم الوطف؛ لأن جودها أغلب وأكثر, وهذا كذب تستحسنه الشعراء.
وقوله:
فلم نر شيئًا يحمل العبء حمله ... ويستصغر الدنيا ويحمله طرف
العبء: الثقل, وهو مأخوذ من قولهم: عبأت الطيب إذا جمعت بعضه إلى بعضٍ, وخلطته, قال أبو زبيد الطائي (115/أ): [الوافر]
كأن بنحره وبمنكبيه ... عبيرًا بات تعبؤه عروس
والطرف: الفرس الكريم. يقول: هذا الممدوح يحمل الأعباء, ويستصغر الدنيا الواسعة, وهو مع ذلك يحمله طرف, وقد كانوا يصفون نفوسهم بالخفة على ظهور الخيل, قال الشاعر: [البسيط]
لم يركبوا الخيل إلا بعدما كبروا ... فهم ثقال على أكتافها عنف
وقال أبو دلف العجلي: [المتقارب]
خفيف على حاملي ما ركبت ... ولست على ظالمي بالخفيف
وقوله:
ولا جلس البحر المحيط لقاصدٍ ... ومن تحته قرش ومن فوقه سقف
ذكر أشياء ممتنعةً, وزعم أنها موجودة في الممدوح وشبهه بالبحر المحيط, وقد جلس وتحته فرش, وفوقه سقف, وليس ذلك من عادات البحار. ويقال: سقف وسقف, وسقف في الجمع, والآية تقرأ على وجهين: {سقفًا من فضةٍ} وإنما قيل له: سقف لانحناء قواريه مع ارتفاعه, ومن ذلك قولهم: ظليم أسقف, لانحنائه, وإن كان أسقف النصارى عربيًا فإنما قيل له ذلك؛ لأنه من خشوعه ينحني ظهره.
وقوله:
ومن كثرة الأخبار عن مكرماته ... يمر له صنف ويأتي له صنف
يقال: له صنف وصنف, بفتح الصاد وكسرها, وقالوا: عود صنفي, بفتح أوله, وقيل: صنف التين والعنب إذا تغير لونهما عند النضج, قال عبيد الله بن قيس الرقيات: [المنسرح]
سقيًا لحلوان ذي الكروم وما ... صنف من تينه ومن عنبه
وقوله:
وتفتر منه عن خصالٍ كأنها ... ثنايا حبيبٍ لا يمل لها الرشف
في تفتر ضمير يعود إلى المكرمات, وأصل الافترار فتح الفم, يقال: فررت فم الدابة إذا فرقت بين جحلفتيه لتعرف ما سنه. ويقال في المثل: «عينه فراره»؛ أي إذا نظرت إلى شخصه دلك منظره على مخبره, قال الراجز يصف الذئب: [الرجز]
هو الخبيث عينه فراره ... أطلس يخفي شخصه غباره
في فمه شفرته وناره ... بهم بني مخارقٍ مزداره
يوجد في النسخ القديمة: فراره, بالكسر والضم, وليس في نسخةٍ واحدةٍ؛ بل في نسخةٍ بالضم, وفي نسخةٍ بالكسر. والرشف من قولهم: رشفت الماء: إذا أخذته قليلًا قليلًا, ومن أمثالهم: «الجرع أروى والرشيف أشرب».
وقوله:
ولا الفضة البيضاء والتبر واحدًا ... نفوعان للمكدي وبينهما صرف
إنما قيل لها: فضة؛ لأنها تفض؛ أي: تفرق, وقيل للذهب: تبر؛ لأنه يتبر في النفقة؛ أي: يهلك, وربما خصوا بالتبر ذهب المعدن دون غيره؛ ولذلك قيل له: ذهب؛ لأنه يذهب في مآرب الناس. والمكدي: القليل الخير. ونفوعان: مرفوع؛ لأنه خبر مبتدأٍ محذوفٍ, كأنه قال: هما نفوعان.
وقوله:
ولست بدونٍ يرتجى الغيث دونه ... ولا منتهى الجود الذي خلفه خلف
قد مضى القول في دون, وأنها تستعمل ظرفًا واسمًا, وتجعل مرةً إغراءً؛ فمن كونها ظرفًا قول زهير: [البسيط]
دون السماء وفوق الأرض بينهما ... قيد الذراع فلا فوت ولا درك
ومن كونها اسمًا قول الكميت: [الوافر]
وجدت الناس إلا ابني نزارٍ ... ولم أذممهم شرطًا ودونا
ومن كونها إغراءً قول الراجز: [الرجز]
يا أيها الماتح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيرًا ويمجدونكا
ذهب الكسائي إلى أن التقدير: دونك دلوي, وأن موضع الدلو نصب بالإغراء, وقال غيره: هو إخبار, وقال آخر: [الرجز]
من مبلغ عني يزيد بن الصعق ... دونك ما استحسيته فاحس وذق
هذا إغراء لا غير.
فأما قول الفرزدق: [الطويل]
فلما دنا قلت ادن دونك إنني ... وإياك في زادي لمشتركان
أمر الذئب بالدنو, ثم أغراه.
وقوله:
ولا منتهى الجود الذي خلفه خلف
هذا نحو من قوله: [الطويل]
وغربت حتى ليس للغرب مغرب
وقوله:
ولا واحدًا في ذا الورى من جماعةٍ ... ولا البعض من كل ولكنك الضعف
ذهب بعض الناس إلى أن الألف واللام لا تدخل على كل وبعضٍ, وتروى عن الأصمعي حكاية معناها أنه قرأ آداب ابن المقفع فأنكر فيها قوله: العلم أكثر من أن يؤخذ كله فخذوا البعض. والقياس لا يمنع من دخول الألف واللام على كل؛ لأنهما قد يدخلان على المعارف على معنى الإضافة, فصح بذلك أنهما نكرتان, وقد جاء بيت لسحيمٍ عبد بني الحسحاس, وهو قوله: [الطويل]
رأيت الغني والفقير كليهما ... إلى الموت يأتي الموت للكل معمدا
(115/ب) وضعف الشيء مثله مرتين.
وقوله:
أقاضينا هذا الذي أنت أهله ... غلطت ولا الثلثان منه ولا النصف
أشار بهذا إلى الثناء, فلما تم الكلام استقل ما أثنى به, فقال: غلطت؛ إرادةً للمبالغة, ثم جحد فقال: ولا الثلثان ثنائي مما تستحق ولا النصف. وقافيتها من المتواتر.
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
20 أبريل 2024
تعليقات (0)