المنشورات

أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقةً في المآقي

وزنها من أول الخفيف. والعشاق: جمع عاشقٍ, وقال بعضهم: اشتقاق العاشق من العشقة, وهي نبت يصفر فشبهوا العاشق بها لصفرته. والمآقي: جمع مأقٍ على مثال مأوٍ, وهو على ذا القول مفعل, وقد مر ذكره.
وقوله:
كيف ترثي التي ترى كل جفنٍ ... راءها غير جفنها غير راق
يقال: رأى وراء على القلب, كما قالوا: ناء ونأى إذا بعد, قال الشاعر: [الوافر]
عليل راء رؤيا فهو يهذي ... بما قد راء منها في المنام
ووزن رأى: فعل, ووزن راء في الأصل: فلع, والموجود منه فلع؛ لأن همزة رأى عين, وكثر استعمال رأى في الكلام حتى قالوا: أريت يا رجل؟ وهم يريدون همزة الاستفهام, قال الشاعر: [الخفيف]
صاح هل ريت أو سمعت براعٍ ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب
وقالوا: را, فجاؤوا بها على حرفين, وزنهما فل؛ لأنها فاء الفعل ولامه, قال الشاعر: [الوافر]
ومن را مثل معدان بن ليلى ... إذا ما النسع جال على المطيه
وقالت هند بنة عتبة: [مجزوء الكامل]
من عاين الأخوين كالـ ... ـغصنين أم من راهما
وأصل رقأ الدم الهمز, ولزمه تخفيفه في هذا البيت, وإذا كان التخفيف والحذف في القافية فهو أحسن منه في حشو البيت؛ لأن القوافي مواضع الحذف؛ ألا ترى أنهم يخففون المشدد في القوافي المقيدة ولا يتهيبون ذلك, وهو كثير جدًا, وتخفيفه على ثلاثة (125/أ) أضربٍ: منه ما يحدف منه حرف متحرك لا غير, كما قال الشاعر: [الرمل]
سألتني جارتي عن أمتي ... وكذا من عي بالأمر سأل
سألتني عن أناسٍ هلكوا ... شرب الدهر عليهم وأكل
أنشد الناس ولا أنشدهم ... إنما ينشد من كان أضل
فهذا حذف لام أضل الآخرة.
ومنه ما يحذف منه حرف متحرك وتنوين, كقول امرئ القيس: [المتقارب]
إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض واليوم قر
ومنه ما يحذف منه حرف متحرك وياء, كقول لبيدٍ: [الرمل]
يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل
أراد المصلي. وقد جاء حذف رابع هو أشد من هذه الضروب, وهو أن يحذف المتحرك وألف بعده, كما قال: [الرمل]
وقبيل من لكيزٍ حاضر ... رهط مرجومٍ ورهط ابن المعل
وقال جرير في همز رقأ الدمع: [الطويل]
بكى دوبل لا أرقأ الله دمعه ... ألا إنما يبكي من الذل دوبل
وإنما سهل عليهم التخفيف أنهم يقفون على آخر الكلمة فيسكنونه, فإذا كان ما قبل الهمزة مفتوحًا جعلوها ألفًا, فقالوا في رقأ: رقا, وإذا كان ما قبلها مكسورًا جعلوها ياءً, فقالوا في يرقئ, يرقي, وفي راقئٍ: راقٍ.
والمعنى أن هذه المرأة ترى كل جفنٍ رآها باكيًا غير جفنها فهي لا ترثي لأحدٍ.
وقوله:
أنت منا فتنت نفسك لكنـ ... نك عوفيت من ضنى واشتياق
قوله: أنت منا؛ أي: أنت عاشقة نفسك, فقد ساويت غيرك في محبتك؛ إلا أنك معافاة من ضنى المحبين, وشوقهم إليك, وفتنت نفسك؛ أي: أحللت بها فتنةً, وأصل الفتن: قلب الشيء عما هو عليه.
وقوله:
لو عدا عنك غير هجرك بعد ... لأرار الرسيم مخ المناقي
يقال: مخ رار ورير ورير, وهو مخ الهزيل, ويدعى على الرجل فيقال: أرار الله مخه؛ أي: أذابه. قال الشاعر يخاطب ناقةً: [الوافر]
أرار الله مخك في السلامى ... على من بالحنين تعولينا
والسلامى: عظام الرجل, وآخر ما يبقى المخ في السلامى, وفي العين. قال الراجز: [السريع]
لا يشتكين عملًا ما أنقين ... مادام مخ في سلامى أو عين
والمعنى: لو أن الذي يبعدك منا شيء غير الهجر؛ يعني الأرض البعيدة؛ لأعملنا العيس إليك حتى يصير السير مخها ريرًا. والمناقي: جمع منقيةٍ, وهي السمينة, وربما قالوا: المنقية ذات النقي وهو المخ, والمعنى متقارب؛ لأن السمين لا يعدم نقيًا, والمنقي لا يعدم سمنًا.
وقوله:
ولسرنا ولو وصلنا عليها ... مثل أنفاسنا على الأرماق
فهذا معنى يجوز أن يكون قائله لم يسبق إليه. والرمق: بقية النفس. يقول: لو أن المسير إليك ينفعنا عندك لسرنا ونحن على ظهور إبلنا, ولو صرنا كالأنفاس على الأرماق.
والنفس يصعب إذا كان الإنسان في الرمق.
وقوله:
ما بنا من هوى العيون اللواتي ... لون أشفارهن لون الحداق
الحداق: جمع حدقةٍ, وإنما قيل لها: حدقة؛ لأن ما حولها يحدق بها, يقال: حدقوا بالرجل, وأحدقوا إذا أطافوا به, قال الشاعر: [الوافر]
ولما أحدقوا بي واستكفوا ... وإن ناديت ثم فلن أجابا
وقال الأخطل: [البسيط]
المنعمون بنو حربٍ وقد حدقت ... بي المنية واستبطأت أنصاري
هذا استفهام معناه معنى التعجب, كأنه قال: أي شيء بنا من هوى العيون, أي ما أعظمه وأكثره! ولو أنه استفهام خالص لبطل المعنى المقصود؛ لأن الإنسان لا يستفهم عما هو به عارف, ولو كانت (ما) في معنى الذي لكان المعنى صحيحًا, ولم يكن في البيت مبالغة. والأشفار: جمع شفرٍ, وهو الذي عليه هدب الأجفان, وكأن شفر الشيء آخره وطرفه, ومن ذلك قولهم: شفرة السيف؛ لأنها منتهى صفحه, وهو على شفيرٍ؛ أي: على آخر مكانٍ عالٍ, والمراد: أن هذه العيون أشفارها سود كسواد حداقها.
وقوله:
قصرت مدة الليالي المواضي ... فأطالت بها الليالي البواقي
يقول: كانت ليالينا في زمان قربها قصارًا, فلما كان البعد طالت الليالي التي كانت في قربها قصيرةً, وهذا معنى كثير التردد (125/ب) , إلا أن لفظ أبي الطيب له مزية على سواه, وليس بخافٍ أن بيت أبي الطيب أشرف من قول الآخر: [السريع]
ليلي كما شاءت فإن لم تزر ... طال وإن زارت فليلي قصير
وفي قصرت ضمير يعود إلى الموصوفة, وكذلك في قوله: أطالت.
وقوله:
كاثرت نائل الأمير من الما ... ل بما نولت من الإيراق
الإيراق: هاهنا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من قولهم: أورق الصائد إذا لم يصد شيئًا, وأورق طالب الحاجة إذا لم يصل إليها, وأصل ذلك أن الصائد إذا خاب جمع ورق شجرٍ في مخلاته كأنه يريده لبهيمةٍ يملكها أو لغير ذلك مما يحتاج إليه بنو آدم. فيكون المعنى أن هذه المذكورة كاثرت نائل الأمير بضده؛ لأنه جواد, وهي بخيلة, فعطاؤه يعم وعطاؤها لا يوصل إليه.
والآخر أن يكون من قولهم: أرق الرجل وأرقه غيره إذا أسهره؛ فيكون المعنى أن إيراقها للناس؛ أي: منعها إياهم من النوم كثير جدًا تكاثر به نائل الأمير, وكلا الوجهين حسن.
وقوله:
طاعن الطعنة التي تطعن الفيـ ... ـلق بالذعر والدم المهراق
الأجود تحريك الهاء في المهراق. يقال: أرقت الماء وهرقته, والأصل الهمز فأبدلوا من الهمزة هاءً لقتارب المجريين, قال امرؤ القيس: [الطويل]
وإن شفائي عبرة مهراقة
ووزن مهراقٍ مهفعل في الأصل وموجوده مهفعل, والذين قالوا: مهراق, بسكون الهاء, يزعم النحويون أنهم جعلوا الهاء عوضًا من اعتلال العين, وقالوا للفاعل: مهريق, قال الشاعر, وهو العديل بن الفرخ العجلي: [الطويل]
فكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آلٍ فوق رابيةٍ صلد
والمعنى: أن هذا المذكور يطعن الطعنة فتهول من يراها لسعتها وما تهريقه من الدم, وهذا الغرض يشاكه غرضه في قوله: [الخفيف]
ما مضوا لم يقاتلوك ولكن ... ن القتال الذي كفاك القتالا
وقوله:
ذات فرغٍ كأنها في حشى المخـ ... ـبر عنها من شدة الإطراق
المراد أن هذه الطعنة إذا سمع بها المخبر عنها ظن أنها في حشاه؛ فاتصل إطراقه إلى الأرض, ويجوز أن يكون الإطراق هاهنا ليس من إطراق العين, ولكنه إلقاء نفسه في الطريق كأنه قد غشي عليه.
وقوله:
فوق شقاء للأشق مجال ... بين أرساغها وبين الصفاف
الأشق: هاهنا فرس متباعد ما بين القوائم, وهم يحمدون ذلك في الخيل. وروى أصحاب الأخبار أن جيشًا من العرب غزا, فهزم, فجاء شيخ من الفل, فاجتمع إليه جواري الحي يسألنه عن أخبار آبائهن, فقال: أخبرنني عن خيل آبائكن أخبركن عنهم, فقالت إحداهن: كان أبي على شقاء مقاء طويلة الأنقاء, تمطق أنثياها بالعرق تمطق الشيخ بالمرق, فقال: سلم أبوك. تعني بالأنثيين: الأذنين. تريد أن العرق يخرج منهما قليلًا قليلًا؛ لأن العرق إذا كثر لم يحمد, وكذلك إذا أفرط في القلة. وقد مضى ذكر ذلك مع تمام الخبر فيما تقدم. وقد أسرف أبو الطيب في هذا البيت؛ لأنه جعل الأشف من الخيل له بين أرساغ هذه الفرس وصفاقها مجال, والصفاق جلد تحت الجلد الأعلى, أو لحم رقيق, وإنما جاء به للقافية, وهذا كذب لا يجوز أن يكون مثله ولا فائدة فيه.
وقوله:
همه في ذوي الأسنة لا فيـ ... ـها وأطرافها له كالنطاق
يقول: هذا الفارس همه في قتل ذوي الأسنة, ولا يحفل بأن أطرافها مطيفة بخصره, فقد صارت كالنطاق.
وقوله:
ثاقب العقل ثابت الحلم لا يقـ ... ـدر أمر له على إقلاق
ثاقب العقل: أي: إذا أبهمت الأمور, ولم يكن منفذ؛ فعقله يجعل لها منافذ.
والثاقب: في القرآن يفسر على وجهين: قيل: المضيء, وقيل: المرتفع, وإنما قيل للمضيء: ثاقب؛ لأنه كالذي يثقب في الظلمة ثقبًا, وكذلك ثقبت النار إذا ظهر ضوؤها؛ لأنهم كانوا يوقدونها في الظلام, ثم قالوا: حسب ثاقب؛ أي: مضيء.
وقوله (126/أ):
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي
هذا مقارب قول أبي تمام: [البسيط]
لم يرم قومًا ولم ينهد إلى بلدٍ ... إلا تقدمه جيش من الرعب
وقوله:
وإذا أشفق الفوارس من وقـ ... ـع القنا أشفقوا من الإشفاق
هذه مبالغة لطيفة, وهو يشبه قولهم: فلان قد تاب من التوبة, وكذلك هؤلاء القوم إذا أشفق الفوارس من لقاء الرماح أشفقوا من أن يكونوا مشفقين من وقع القنا كغيرهم من الناس.
وقوله:
كل ذمرٍ يزيد في الموت حسنًا ... كبدورٍ تمامها في المحاق
الذمر: الشجاع, وهو من قولهم: ذمر نفسه إذا حضها على الشيء, والقوم يتذامرون إذا حث بعضهم بعضًا على القتال, قال عنترة: [الكامل]
لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمم
ادعى أن هؤلاء القوم يحسنون في الموت فكأنهم بدور, تمامها في ليالي المحاق. والمعنى يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكونوا في الوقت الذي يحذر فيه الموت أحسن ما يكونون في أيام الحياة, لأن وجوههم تحسن وتشرق إذا اصفرت وجوه الشجعاء.
والآخر: أنهم إذا لقوا الموت في الحرب حسن ذكرهم بين الناس, وحمدوهم على الصبر ولقاء الحمام.
وقوله:
جاعلٍ درعه منيته إن ... لم يكن دونها من العار واق
هذا معنى لطيف, والغرض فيه أن هذا الذمر لا يلبس درعًا, لأن العرب تفضل الذي يشهد الحرب حاسرًا على الذي شهدها دارعًا, قال الشاعر: [الطويل]
فلم أر يومًا كان أكثر سالبًا ... ومستلبًا سرباله لا يناكر
وأكثر منا ناشئًا يطلب العلى ... يجالد قرنًا دارعًا وهو حاسر
ويقال: إن كثيرًا لما أنشد عبد الملك قوله في مدحه: [الطويل]
على ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... أجاد المسدي سردها وأذالها
قال له عبد الملك: ما قال الأعشى أحسن مما قلت؛ يعني قوله: [الكامل]
وإذا تجيء كتيبة ملمومة ... شهباء يخشى الدارعون نكالها
كنت المقدم غير لابس جنةٍ ... بالسيف تضرب معلمًا أبطالها
والذي أراد أبو الطيب أن هذا الفارس جعل منيته مثل الدرع يتقي بها الذم.
وقوله:
كرم خشن الجوانب منهم ... فهو كالماء في الشفار الرقاق
يريد أنهم كرام وكرمهم خشن جوانبهم فهو محمود في التخشين, كما أن الماء يخشن شفار السيوف فلها به فخر, وقد وصفت الشعراء الكريم, وشبهته بالسيف في خشونته ولينه, قال الشاعر: [الطويل]
كريم يغض الطرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوان
وكالسيف إن لاينته لان مسه ... وحداه إن خاشنته خشنان
وقوله:
يابن من كلما بدوت بدا لي ... غائب الشخص حاضر الأخلاق
شبهه بأبيه, وهذا يشبه قوله: [الطويل]
وأنت أبو الهيجا ابن حمدان يا بنه ... تشابه مولود كريم ووالد
يقول: أنت تشبه أباك في الخلق والخلق, فكلما بدوت فكأنه لي بادٍ, إلا أن شخصك؛ وإن كان مثل شخصه, فليس هو شخص الأب, وإنما هو مشابه له؛ لأن أباك غائب, وأخلاقك مثل أخلاقه.
وقوله:
لو تنكرت في المكر لقومٍ ... حلفوا أنك ابنه بالطلاق
يقول: لو تنكرت في المكر لئلا يعرفك من جرت عادته بعرفانك لحلفوا أنك ابن المكر, لا ابن والدك المشهور, وإنما حملهم على ذلك أنهم يجدونك فيه سالمًا, فكأنه أب لك يشفق عليك من أن يصيبك جرح من سيفٍ أو طعنةٍ. وإن حمل على أنهم يريدون أنه ابن أبيه لشبهه به فهو يحتمل ذلك.
وقوله:
كيف يقوى بكفك الزند وإلآ ... فاق فيها كالكف في الآفاق
هذه مبالغة ليست بالخافية, فهي مع إسرافها مستحسنة لا يلحقها ما لحق مبالغته في ذكر الفرس؛ لأن من يمدح يجتهد في وصفه بما لا يقدر عليه من سعة النفس والشجاعة والكرم.
وقوله (126/ب):
قل نفع الحديد فيك فما يلـ ... ـقاك إلا من سيفه من نفاق
اللقاء على ضربين:
لقاء مسالمٍ, ولقاء محاربٍ, فلقاء المسالم يجوز أن يكون فيه صادقًا فيما يظهره ويخفيه, ولا يمتنع أن يكون يتقي بالنفاق.
والمحارب لا يمكنه أن يلقى هذا الممدوح إلا بسيفٍ من منافقةٍ, كأنه يستأمن إليه, ويقول: أنا وليك وعبدك, وإنما يريد بذلك سلامة نفسه.
وقوله:
إلف هذا الهواء أوقع في الأنـ ... ـفس أن الحمام مر المذاق
هذا البيت, والذي بعده يفضلان كتابًا من كتب الفلاسفة؛ لأنهما متناهيان في الصدق, وحسن النظام, ولو لم يقل شاعرهما سواهما, لكان فيهما له جمال وشرف.
وقوله:
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق
يقول: ينبغي للإنسان أن يسهل أمر العاجلة على نفسه, فإذا كان حيًا فما ينبغي أن يحزن؛ لعلمه أن فراق نفسه يكون؛ لأنه لم يكن بعد, وإذا فارقته نفسه فقد أمن من الأسف, ورجع إلى حال العدم, وفراق الحس.
وقوله:
كم ثراءٍ فرجت بالرمح عنه ... كان من بخل أهله في وثاق
جعل ثراء البخل كأنه في وثاقٍ عنده, وذكر أن هذا الممدوح طعن ذلك المثري فقتله, وخلص ماله من الوثاق؛ لأن هذا الممدوح فرقه على العفاة.
وقوله:
والغنى في يد اللئيم قبيح ... قدر قبح الكريم في الإملاق
يقول: غنى اللئيم يستقبح بمقدار ما يسمج إملاق الكريم, وقد أحسن الحكمي كل الإحسان في قوله: [الطويل]
كفى حزنًا أن الجواد مقتر ... عليه ولا معروف عند بخيل
وقوله:
ليس قولي في شمس فعلك كالشمـ ... ـس ولكن في الشمس كالإشراق
جعل لفعل الممدوح شمسًا, وفضل نورها على نور ما يقول, أي: إن شمس فعلك لا يحسنها قولي, وهي تحسنه, كما أن الإشراق يحسن الشمس.
وقوله:
شاعر المجد خدنه شاعر اللفـ ... ظ كلانا رب المعاني الدقاق
إنما قيل للشاعر: شاعر؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره؛ أي: يعلم. وقول الناس: ليت شعري؛ أي: ليت علمي, فجعل القائل الممدوح يشعر من المجد بما لا يشعر به سواه من الأمجاد.
وقوله:
لم تزل تسمع المديح ولكن ... ن صهال الجياد غير النهاق
يقال: صهيل وصهال, ونهيق ونهاق. وفعيل وفعال يشتركان كثيرًا, كما قالوا: طويل وطوال, وسريع وسراع, وإذا كان فعيل نعتًا جاء فيه فعال وفعال بالتشديد, وأنشد الفراء: [الرجز]
جاؤوا بصيدٍ عجبٍ من العجب ... أزيرق العينين طوال الذنب
وكان يعتقد أن سيدًا وطيبًا أصله فعيل, كأن أصل سيدٍ سويد, واحتج بانهم قالوا: طيب وطياب, كما قالوا: طوال, وأنشد: [الرجز]
إنا بذلنا دونها الضرابا ... لما وجدنا ماءها طيابا
وقوله:
ليت لي مثل جد ذا الدهر في الأد ... هر أو رزقه من الأرزاق
أنت فيه وكان كل زمانٍ ... يشتهي بعض ذا على الخلاق
هذا معنى لم يسبق إليه أحد من الشعراء؛ لأنه جعل الدهر الذي فيه الممدوح له جد؛ أي: حظ لم يرزقه سواه, وجعل الأزمنة كلها تشتهي بعض ذلك على الخلاق جلت عظمته. وقافية هذه القصيدة من المتواتر, وهي القاف والياء التي بعدها, وهي على رأي الخليل من آخر ساكنٍ في البيت إلى أول ساكنٍ يليه مثل قوله: شاقي, من العشاق, وهاقي, من النهاق ونحو ذلك (127/أ).










مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي
المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد سعيد المولوي
الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید