المنشورات

هو البين حتى ما تأنى الحزائق ... ويا قلب حتى أنت ممن أفارق

وهي من الطويل الثاني. وقوله: هو البين: أي هذا الذي تكرهه وتشكوه هو البين, والتأني في الأمور التلبث فيها؛ وإنما يريدون بقولهم: تأنى أنه تمكث حتى بلغ إني الشيء؛ أي: وقته وإدراكه, ومنه قولهم: قد أنى له, أي: قد حان, قال الراجز: [الرجز]
تقول بنتي قد أنى إناكا ... يا أبتا علك أو عساكا
وقوله:
وقد صارت الأجفان قرحى من البكا ... وصار بهارًا في الخدود الشقائق
ذكر أبو الفتح بن جني - رحمه الله - في أول «كتاب الفسر» هذا البيت في حكاية معناها: أنه سأل أبا الطيب: أينشد هذا البيت قرحى في وزن جرحى: جمع قريحٍ, أم قرحًا جمع قرحةٍ بالتنوين؟ فقال أبو الطيب: قرحًا منونًا أما ترى إلى قولي: بهارًا؛ فكان أبو الفتح يستحسن هذا القول؛ لأن قرحًا إذا كان جمع قرحةٍ فليس بينه وبين واحده إلا الهاء, وبهار كذلك, والأحسن أن يكون الجمعان من جنسٍ واحدٍ.
وقوله:
سل البيد أين الجن منا بجوزها ... وعن ذي المهارى أين منها النقانق
البيداء: الأرض المقفرة, وكأنها سميت بذلك لأنها تبيد من يسلكها, أو تبيد زاده وماءه. وجوزها: أي: وسطها, وهذا كلام يستحسن في المنظوم, والمراد به: سل البيداء أين الجن منا إذا سلكناها, فإنا أخبر منهم بالطرق, وأصبر على السير. وسلي عن ذي المهارى: أي: عن هذه العيس التي هي من إبل مهرة بن حيدان. وروي أن يونس بن حبيبٍ كان يعجبه قول ذي الرمة: [الطويل]
وليلٍ كجلباب العروس ادرعته ... بأربعةٍ والشخص في العين واحد
أحم علافي وأبيض صارم ... وأعيس مهري وأروع ماجد
أراد أن الإبل التي يركبونها في البيداء أسرع من النقانق التي هي النعام.
وقوله:
وليل دجوجي كأنا جلت لنا ... محياك فيه فاهتدينا السمالق
ينشد بكسر الكاف في محياك وفتحها. والمحيا: الوجه, وإنما قيل له: محيا؛ لأنه يلقى بالتحية, والتحية تختلف فتكون كلامًا, وتكون غيره؛ فإذا قيل للرجل: سلام عليك أو نحوه فهو تحية. ولم يقصر أبو عبادة في قوله: [الطويل]
سلام وإن كان السلام تحيةً ... فوجهك دون الرد يكفي المسلما
والتحية في كتاب الله سبحانه كلام؛ لأنه قال: {وإذا حييتم بتحيةٍ فحيوا بأحسن منها أو ردوها}. ويقال: حياه بالريحان وبالورد, وبغير ذلك, فأما قول النابغة: [الطويل]
تحييهم بيض الولائد بينهم ... وأكسية الإضريج فوق المشاجب
فإنما يريد أن الولائد يحيينهم بالأزهار, ويجب أن يكون أصل التحية أن يدعى للرجل بالحياة, ثم استعمل ذلك في أشياء مختلفة, حتى سموا الملك تحيةً, قال زهير بن جنابٍ الكلبي: [مجزوء الكامل]
من كل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيه
وقال عمرو بن معد يكرب: [الوافر]
أسير بها إلى النعمان حتى ... أنيخ على تحيته بجند
وخص الوجه بأن سمي محيًا؛ لأنه أجل شخص الإنسان, وهو الذي يلقى بالتحية من الكلام أو غيره؛ وإذا روي محياك, بكسر الكاف قوي ذلك أن يكون قوله: سلي بالياء, كأنه يخاطب مؤنثًا, وإذا كان سل مخاطبةً لمذكرٍ فهو خروج لم تجر عادة أبي الطيب بمثله؛ لأنه ترك النسيب, وخرج إلى ذكر الممدوح.
وقوله:
وهز أطار النوم حتى كأنني ... من السكر في الغرزين ثوب شبارق
الهز: من هزه يهزه؛ يعني هز السير إياه, والغرزان: تثنية غرزٍ, وهو ركاب الرحل, قال ذو الرمة: [البسيط]
تصغي إذا شدها بالكور جانحةً ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب
وثوب (130/أ) شبارق: أي: خلق, يروى بضم الشين وفتحها, فإذا ضمت فهو نعت لواحدٍ, وإذا فتحت الشين فهو جمع, كأن واحده شبرقة أو شبرقة, وأنشد أبو زيد للأسود بن يعفر: [الطويل]
غنينا بسربال الشباب ملاوةً ... فأصبح سربال الشباب شبارقا
وقوله:
شدوا بابن إسحاق الحسين فصافحت ... ذفاريها كيرانها والنمارق
شدوا أي: رفعوا أصواتهم بمدحه, والشدو: يستعمل في الغناء, وهو ما كان يسيرًا منه, وهو من قولهم: شدا شيئًا من علمٍ, أي: قليلًا, وبينه وبين فلان شدًى من خصومةٍ, أي: بقية, قال الشاعر: [الطويل]
فلو كان في ليلى شدى من خصومةٍ ... للويت أعناق الخصوم الملاويا
والذفاري: جمع ذفرى, وهي الناتئ خلف أذن البعير, وهي من الفرس معقد العذار, ويقال في الجمع: ذفاري وذفارٍ, وأكثر ما تستعمل الذفرى في الإبل والخيل, وقد جاءت في الإنس, قال ذو الرمة: [البسيط]
والقرط في حرة الذفرى معلقه ... تباعد الحبل منه فهو مضطرب
واشتقاق الذفرى من الذفر؛ لأنها تعرق من البعير, فتكون لها رائحة. والكيران: جمع كورٍ, وهو رحل البعير, وجمعه القليل: أكوار, والكثير: كيران. والمراد أن هؤلاء الركبان شدوا بابن إسحاق؛ فلما سعت الإبل ذكره ثنت رؤوسها إلى الركب لتسمع ثناءهم عليه, فقدمت ذفاريها من الكيران. والنمارق: التي تحت القوم. وفي هذا البيت أصناف من الدعاوي التي تستحسن وهي مختلقة. وقد بدأ الحكمي بوصف التفات الناقة؛ إلا أنه لم يستكمل هذه الصفة في قوله: [الكامل]
وكأنها مصغٍ لتسمعه ... بعض الحديث بأذنه وقر
وقوله:
فتى كالسحاب الجون تخشى وترتجى ... يرجى الحيا منها وتخشى الصواعق
الأحسن في تخشى وترتجى أن تروى بالياء, يعني الممدوح, وقد تردد القول في أن الجمع إذا كان بينه وبين واحده الهاء جاز تذكيره وتأنيثه وحلمه على الواحد وعلى الجمع, وفي الكتاب العزيز: {وينشئ السحاب الثقال} , فهذا على التأنيث, وحمل الكلمة على الجمع, ولو أنه في غير القرآن لجاز: وينشئ السحاب الثقيل, وإذا رويت الجون, بضم الجيم, فهو جمع جونٍ, والجون هاهنا السود, ويدل على ضم الجيم قوله: يرجى الحيا منها, والحيا المطر العام, والجون يقع على الألوان كلها, فأما قول الراجز: [الرجز]
غير يا بنت الحليس لوني ... كر الليالي واختلاف الجون
وسفر كان قليل الأون
فيجوز أن يكون الجون هاهنا الليل, ويجوز أن يكون النهار, ولعل الراجز أرادهما جميعًا.
وقوله:
إذا الهندوانيات بالهام والطلى ... فهن مداريها وهن المخانق
يقال: سيف هندي على القياس؛ لأنه نسب إلى الهند, وسيف هنداوني, وهندكي على غير قياس. والطلى: جمع طليةٍ, وهي صفحة العنق ويقال لها: طلاة أيضًا, قال الأعشى: [الطويل]
متى تسق من أنيابها بعد هجعةٍ ... من الليل شربًا حين مالت طلاتها
والمداري: جمع مدرى, وأصله شيء تتخذه المرأة تستعين به على تسريح شعرها, ومنه قول سحيمٍ: [الطويل]
أشارت بمدراها وقالت لتربها ... أعبد بني الحسحاس يزجي القوافيا
وإذا كان مع الرجل سلاح دقيق شبهه بالمدرى, قال الراجز: [الرجز]
أنا سحيم ومعي مدرايه ... أعددته لفيك ذي الدوايه
والحجر الأخشن والثنايه
والمعنى: أن هذا الممدوح جعل الهندوانيات مغذاة بالطلى والهام؛ أي: أقامها لها مقام الغذاء, فهي تقع في الرؤوس كأنها مدارٍ, وفي الأعناق كأنها مخانق.
وقوله:
يجنبها من حتفه عنه غافل ... ويصلى بها من نفسه منه طالق
يجنبها - يعني (130/ب) الهندوانيات - من غفل حتفه عنه, ويصلى بها من قولك: صلي بالنار إذا أصابه حرها. وقوله: من نفسه منه طالق: استعار الطلاق للنفس, وإنما هو للمرأة, وقد استعملت الشعراء الطلاق في غير النساء, قال الشاعر: [الطويل]
مراجع نجدٍ بعد فركٍ وبغضةٍ ... يرى ساكتًا والسيف عن فيه ناطق
الهاء في به راجعة إلى الممدوح, والمحاجاة: أصلها أن يسأل الرجل صاحبه عن شيءٍ يعميه عليه لينظر: أحجاه أفضل أم حجى الآخر, والحجى: العقل. يقال للكلام الذي يسأل عنه: أحجية وأحجوه. ومما يتحاجون به قولهم: أحاجيك:
ما ذو ثلاث آذانٍ ... يسبق الخيل بالرديان
يعنون السهم. وقال الشاعر: [الطويل]
أحاجيك: ما مستصحبات على السرى ... حسان وما آثارها بحسان
يعني السيوف. وما: في قوله: ما ناطق, في معنى: أي شيءٍ هو ناطق, وإذا أجاب المسؤول عن هذه الأحجية فجوابه: الحسين بن إسحاق.
وقوله:
سيحيي بك السمار ما لاح كوكب ... ويحدو بك السفار ما ذو شارق
السمار: جعل سامرٍ وهم الذين يتحدثون في ظل القمر, وزعموا أن الليل يسمى سمرًا, ومثل ذلك لا يجوز؛ لأن السمر يكون فيه, وكثر ذلك حتى صار الحديث بالليل سمرًا, وإن لم يكن في القمر, ويقولون: أحيا فلان ليله إذا بات ساهرًا؛ لأن النوم عندهم ضرب من الموت, وفي الكتاب العزيز: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها}. فكأن الذي يبيت ساهرًا قد بات حيًا لم تصبه بالنوم وفاة.
وقوله:
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
اصطلحت الشعراء على أن يقولوا: فلان الناس كلهم, ونحو ذلك من العبارات, وإنما يريدون خيار الناس؛ لأن الرجل لو كان مثل الناس كلهم لكانت فيه عيوب كثيرة؛ لأن فيهم من هو مجنون وصاحب عاهةٍ, ومن ذلك قول الشاعر: [السريع]
إنما أراد العالم الذي له فضيلة, ولو لم يرد ذلك لكان هذا المدح كالهجاء, وقد شرح أبو الطيب الغرض في ذلك في غير هذا الموضع, وخص الفضلاء من الناس دن من هو مذموم الشيم قبيح الأخلاق, فقال: [الكامل]
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدمًا ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا
وقافية هذه القصيدة من المتدارك وهي حرفان متحركان بعدهما ساكن كقوله: «ئقو» من: الحزائق و «رقوا» من: أفارق, والقافية عند الخليل أولها الزاي من: حزائق وآخرها الواو التي للترنم, وكذلك هي من الفاء في أفارق إلى الواو التي بعد القاف.











مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید