المنشورات
فدى لك من يقصر عن مداكا ... فلا ملك إذًا إلا فداكا
الوزن من أول الوافر.
يقال: فدى لك وفدى لك, ويمدون إذا كسروا الفاء, ويقصرون, والمراد الذي قصده الشاعر أن الخلق كلهم فداء للممدوح؛ لأنهم يقصرون عن مداه.
وقوله:
ولو قلنا فدى لك من يساوي ... دعوانا بالبقاء لمن قلاكا
يقول: لو قلنا فدى لك من يساويك لكان ذلك دعاء لأعدائك بطول البقاء إذ كنت ليس لك مساوٍ في الخلق.
وقوله:
وآمنا فداءك كل نفس ... وإن كانت لمملكة ملاكا
يقال: هو ملاك الشيء؛ أي: قوامه, وكسر الميم أفصح, وقد تفتح, وهو مأخوذ من قولهم: ملكت العجين إذا شددته, وملك فلان كفه بالطعنة إذا طعن طعنةً منكرةً, قال قيس ابن الخطيم: [الطويل]
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دنها ماء وراءها
وهذا البيت معطوف على ما قبله؛ أي: لو قلنا: فدى لك من يساويك؛ لآمنا كل نفس أن تفديك وإن كانت نفس ملك.
وقوله:
ومن يظن نثر الحب جودا ... وينصب تحت ما نثر الشباكا
يقال: يطن بطاءٍ مشددةٍ, وبظاءٍ فيها تشديد, وبظاءٍ وطاءٍ, وكل تاء افتعالٍ وما تصرف منه مثل: افتعل ويفتعل ومفتعل إذا كان قبلها ظاء أو طاء قلبت طاءً, وجاز فيها ثلاثة أوجه, وهي التي تقدم ذكرها وبيت زهير ينشد على ذلك, وهو قوله: [البسيط]
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفوًا ويظلم أحيانًا فيظلم
ينشد بطاءٍ مشددةٍ فيقال: يطلم, وبظاء مع تشديد, فيقال: يظلم, وبظاء بعدها طاء, فيقال: يظطلم. وقوله: ومن في أول البيت موضعها نصب لأنها معطوفة على قوله: كل نفسٍ, ويجوز أن تكون مخفوضةً معطوفةً على نفسٍ كأنه يومئ بهذا القول إلى الذي قال فيه: [السريع]
لو كان ذا الآكل أزوادنا ... ضيفًا لأوليناه إحسانا
لكننا في العين أضيافه ... يوسعنا زورًا وبهتانا
فليته خلى لنا طر قنا ... أعانه الله وإيانا
والمعنى: أن بعض الملوك مثله مثل من ينثر الحب للطير كي يوقعها في الشبكة, ويظن أن ذلك جود, وإنما هو احتيال ومكر.
وقوله:
ومن بلغ التراب به كراه ... وقد بلغت به الحال السكاكا
من: هاهنا في موضعها مثل من في البيت الذي تقدم, والأجود أن تكونا جميعًا في موضع نصبٍ. والسكاك: الهواء بين السماء والأرض, يقول: لو قلنا: فدى لك من يساوي لأمنت هذه الجماعة أن تفديك, وفيهم من ك أنه (133/ب) في كرى من غلفته فقد خفض ذلك منزلته, وإن كانت حاله قد رفعته في الهواء.
وقوله:
فلو كانت قلوبهم صديقًا ... لقد كانت خلائقهم عداكا
الصديق: يستعمل للواحد والاثنين والجمع, والمذكرو المؤنث, وجمعه صدقان وصدقان, ويقال: إن رؤبة كان جالسًا وحوله جماعة يوم الجمعة بعد انصرافهم من الصلاة, والجماعة كثيرة قد سدت الطريق, وأقبلت عجوز ومعها شيء قد اشترته, فقال رؤبة: [الرجز]
تنح للعجوز عن طريقها ... قد أقبلت رائحةً من سوقها
دعها فما النحوي من صديقها فيجوز أن يكون أراد من أصدقائها فاستعمل الواحد مكان الجمع, ويجوز أن يكون أراد مضافًا فحذفه كأنه قال: من جنس صديقها أو من صحب صديقها, وقال جميل: [الطويل]
كأن لم نحارب يا بثين لو انها ... تكشف غماها وأنت صديق
يقول: لو كانت قلوب هؤلاء القوم صادقةً في محبك وموالاتك لكانت أخلاقهم أعداء لك؛ لأنك شجاع, وهم جبناء, وجواد وفيهم بخل, ونحو ذلك.
وقوله:
لأنك مبغض حسبًا نحيفًا ... إذا أبصرت دنياه ضناكا
الحسب: من يعده الرجل من آبائه, وما يحسبه من مكارمه, واستعار النحافة للحسب, وقد سبقت الشعراء إلى نحو ذلك, فقالوا: بنو فلان أدقاء؛ أي: ليس لهم شرف. وفلان مهزول الحسب, قال الشاعر: [الرمل]
رب مهزولٍ سمينٍ عرضه ... وسمين الجسم مهزول الحسب
والضناك: قد مر ذكرها, وهي المرأة التي يكثر لحمها حتى يرجم بعضه بعضًا, قال جميل: [الطويل]
ضناك على نيرين أمست لداتها ... بلين بلا الريطات وهي جديد
ويقال: نخلة مضانك إذا زاحمت النخلة التي إلى جانبها, قال غالب بن الحر الجعفي: [الطويل]
يقول لها الزوار أين خيارها ... أهاتيك أم هاتي التي لم تضانك
ومن ذلك قيل: رجل مضنوك: إذا أصابه زكام كأنه يضيق أنفه.
وقوله:
أحاذر أن يشق على المطايا ... فلا تمشي بنا إلا سواكا
السواك: مشي ضعيف, وربما قالوا: هو مشي الجائع, وقال بعض الخوارج: [الطويل]
إلى الله أشكو ما أرى من جيادنا ... تساوك هزلى مخهن قليل
وحدث أبو الحسين علي بن الحسين المغربي - رحمه الله - أن عضد الدولة كان فيما حمله إلى أبي الطيب خمسون ألف درهمٍ, وزن كل درهمٍ درهم ونصف, جعلها في شقة ديباجٍ, وأعطاه سوى ذلك من البخاتي, وغيرها.
وقوله:
أتتركني وعين الشمس نعلي ... فتقطع مشيتي فيها الشراكا
هذا استفهام ليس عن جهلٍ, وإنما هو تقرير وإعلام أن ما يفعله خطأ, ولكنه مضطر إلى فعله, كما تقول للرجل: أتكرمني هذه الكرامة وأفارقك؛ أي: إن ذلك لا يجب, ولا يحسن؛ لأنك قد رفعتني حتى جعلت عين الشمس نعلي فأمشي فيها مشيًا يقطع الشراك؛ أي: لا ينبغي أن أفعل ذلك. ويجوز نصب تقطع ورفعها؛ فالرفع عطف على تتركني, والنصب على إضمار أن؛ لأنه جواب استفهام بالفاء.
وقوله:
أرى أسفي وما سرنا شديدًا ... فكيف إذا غدا السير ابتراكا
الابتراك: أن يعتمد في أحد جانبيه إذا عدا, قال زهير: [البسيط]
مرًا كفيتًا إذا ما الماء أسهلها ... حتى إذا ضربت بالسوط تبترك
وهذا المعنى يتردد كثيرًا. ومن أحسن ما قيل فيه بيت ينسب إلى جميلٍ, وهو: [الطويل]
أشوقًا ولما تمض لي بعد ليلة ... رويد الهوى حتى تغب لياليا
وقوله:
وهذا الشوق قبل البين سيف ... وها أنا ما ضربت وقد أحاكا
يقول: شوقي كأنه سيف ولم أرتحل بعد, ولم أضرب بذلك السيف, وقد أحاك في؛ أي: أثر, وهذه مبالغة في صفة الشوق.
وقوله (134/أ):
إذا التوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصمت لا صاحبت فاكا
يقول: إذا هممت بالتوديع أمرني قلبي بالصمت, ودعا علي فقال: لا صاحبت فاك؛ أي: ليتك لا فم لك تنطق به فتودع.
وقوله:
ولولا أن أكثر ما تمنى ... معاودة لقلت ولا مناكا
مناك: في موضع نصب؛ لأنها كالمعطوفة على قوله: فاك؛ أي: لا صاحبت فمك, ولا أمانيك, وإنما يريد مناه التي تخطر بقلبه لا الأماني التي تبلغ؛ لأنه بخل عليه بأن يتمنى شيئًا لم يكن بعد؛ لأن الأماني ربما تعلل بها أخو الهم, ومن ذلك قول القائل: [البسيط]
إذا تمنيت بت الليل مغتبطًا ... إن المنى رأس أموال المفاليس
ومنه قول مالك بن الريب: [الطويل]
فيا زيد عللنا بمن يسكن الغضا ... وإن لم يكن يا زيد إلا أمانيا
وقوله:
قد استشفيت من داءٍ بداءٍ ... وأقتل ما أعلك ما شفاكا
يقول قلبه: قد استشفيت من داءٍ, وهو فراق هذه الحضرة, بداءٍ, وهو الوداع, وأقتل ما أعلك الذي يشفيك فيما تظن, وهو وداعك.
وقوله:
فأستر منك نجوانا وأخفي ... همومًا قد أطلت لها العراكا
هذه الأبيات كلها حكاية عن القلب. نجوانا: أي: سرارنا؛ يعني القلب مناجاته للهموم.
وقوله:
إذا عاصيتها كانت شدادًا ... وإن طاوعتها كانت ركاكا
الركاك: جمع ركيكٍ, وهو الضعيف, وكل ضعيفٍ ركيك, ومنه قولهم: مطر رك إذا كان ضعيفًا, قال الشاعر: [الرجز]
كأن فاها عبقر بارد ... أو ريح روضٍ مسه تنفاح رك
العبقر: البرد.
وقوله:
وكم دون الثوية من حزين ... يقول له قدومي ذا بذاكا
ومن عذب الرضاب إذا أنخنا ... يقبل رحل تروك والوراكا
تروك: اسم بختيةٍ كان وهبها له عضد الدولة, والوراك: ما يتورك عليه الراكب من أديمٍ أو غيره, والثوية: أرض قريب من الكوفة.
وقوله:
يحرم أن يمس الطيب بعدي ... وقد عبق العبير به وصاكا
العبير: الزعفران, ويقال: بل هو أخلاط من الطيب تجمع. وصاك به الطيب إذا علق.
وكأن (عبق) مستعمل في الرائحة. وصاك الطيب بالجسد إذا تبين أثره عليه.
وقوله:
ويمنع ثغره من كل صب ... ويمنحه البشامة والأراكا
يقال: يمنح ويمنح, وكسر النون أفصح, وأصل المنيحة العارية, ثم سموا العطية منحةً ومنيحةً, والبشام والأراك والضرو والنعض والعتم كل ذلك يستعمل في السواك. والضرو: البطم, والعتم: زيتون البر. وحدث بعض التجار أنه كان بطبرية فجاءت بدوية تشتري لابنةٍ لها كفنًا فرأوا فيها شيئًا من فصاحةٍ, فقالوا: أرثيت ابنتك بشيءٍ؟ فأنشدتهم:
ألا حبذا أنياب مرضية العلى ... إذا ظل يجري بينهن قضيب
قضيب بشامٍ لا قضيب أراكةٍ ... تخيره الجانون وهو رطيب
وقوله:
يحدث مقلتيه النوم غني ... فليت النوم حدث عن نداكا
وإن البخت لا يعرقن إلا ... وقد أنضى العذافرة اللكاكا
خبر عن الذي وصفه بعذوبة الرضاب يحدثه النوم عنه؛ فتمنى أنه النوم يحدث عن ندرى الممدوح, ويعلم المشتاق أن العيس لا يعرقن, أي: يصلن إلى العراق إلا وقد أنضاها ما هي حاملة من المال, وغيره؛ أي: جعلها أنضاءً.
والعذافرة, بفتح العين: جمع عذافرةٍ, واللكاك: كأنه جمع لكيكةٍ. واللكيك: اللحم, ويقال: ناقة لكية؛ أي كثيرة اللك وهم اللحم. قال المثقب العبدي: [السريع]
حتى تلافيت بلكيةٍ ... مشرفة الحارك والمقحد
يعني بالمقحد: أصل السنام, وهي القحدة, يقال: ناقة مقحاد, والجمع: مقاحيد.
وقوله:
وما أرضى لمقلته بحلمٍ ... إذا انتبهت توهمه ابتشاكا
توهمه: يعني العذب الرضاب. والابتشاك: الكذب.
وقوله:
فلا إلا بأن يصغي وأحكي ... فليتك لا يتيمه هواكا
بعد (لا) كلام (134/ب) محذوف, كأنه قال: ولا أرضى بما يراه في المنام, إلا بأن أحكي ويصغي؛ أي يميل أذنه إلى الاستماع, ويتيمه؛ أي: يستعبده.
وقوله:
وذاك النشر عرضك كان أولى ... وذاك الشعر فهري والمداكا
النشر: الرائحة الطيبة. والفهر: مؤنث, وتصغيره فهيرة, والعطار يستعمل الفهر في سهك الطيب, والمداك: صلاءة الطيب, وهي مفعل من داك الشيء يدوكه إذا دلكه, وعركه.
وقوله:
فلا تحمدهما واحمد همامًا ... إذا لم يسم حامده عناكا
يعني بالهمام: البعيد الهمة؛ أي: فلا تحمد فهري والمداك, واحمد نفسك فأنت الذي إذالم يسمه حامده فإنما عناك. يقال: أسميت الرجل وسميته.
وقوله:
أغر له شمائل من أبيه ... غدًا يلقى بنوك بها أباكا
أغر: نعت لهمامٍ, والمعني به الممدوح, وذكر أن لهذا الأغر شمائل من أبيه؛ أي: أخلاقا. وقوله: غدًا يلقى بنوك بها أباك؛ أي: عن قربٍ يكون بنوك يشابهون أباك فيلقون شمائله بمثلها.
وقوله:
أذمت مكرمات أبي شجاعٍ ... لعيني من نواي على ألاكا
نواي: أي: بعدي, وأذمت من الذمام؛ أي: إنه أعطاني ذماما على ألاك - يعني أهله - فزال بعدي عنهم.
وقوله:
فلو سرنا وفي تسرين خمس ... رأوني قبل أن يروا السماكا
السماك يطلع في أول تسرين, وفي كتاب أبي حنيفة الدينوري الموضوع في الأنواء أنه يطلع لتسع يمضين من تسرين الأول, وقال غيره: يطلع لأربع مضين من تسرين. وبيت أبي الطيب يصح إذاحمل على حكاية الدينوري ويستحيل في القول الآخر؛ لأنه ذكر أنه إذا سار بعد خمس رأوه قبل أن يرى السماك, وهو يطلع لأربع, فهذا يتناقض.
قوله:
وألبس من رضاه في طريقي ... سلاحًا يذعر الأبطال شاكا
السلاح: اسم يجمع السيف والرمح والسهام, والغالب على السلاح التذكير, وربما أنث, وينشد قول الطرماح في صفة ثورٍ وحشي كر على كلاب الصيد: [الطويل]
يهز سلاحًا لم يرثها كلالةً ... يشك بها منها أصول المغابن
والشاك: سلاح ذو شوكةٍ؛ أي: حد, يقال: سلاح شائك, وهو فاعل من شاك يشوك, وشاكٍ في وزن قاضٍ, وشاك على حذف الهمزة؛ فيجوز أن يكون أصله على فعلٍ مثل شوكٍ, أو على فعلٍ مثل شوكٍ. والواو إذا كانت متحركةً, وقبلها فتحة قلبت ألفًا. وقالوا: اشتكى الرجل في لأمة الحرب إذا لبسها, وهذا مأخوذ من قولهم: هو شاكٍ في السلاح, قال حميد بن ثور: [الطويل]
فلما اشتكى في بزة الحرب واستوى ... على ظهر محبوك القرا عتدٍ عبل
وقوله:
حيي من إلهي أن يراني ... وقد فارقت دارك واصطفاكا
ذكر محمد بن سعدٍ راوية أبي الطيب أنه رأى هذا البيت بخط أبي الفتح بن جني بكسر الطاء في اصطفاكا على قصر الممدود. والأشبه بأبي الطيب أن يكون قال: واصطفاك, وهو يريد فعلًا ماضيًا, كأنه قال: وقد فارقت دارك وقد اصطفاك الله سبحانه, وكان يذكر أنه سمعه يقول: ليس في شعري قصر ممدودٍ إلا قولي:
خذ من ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمني في الثناء الواجبا
وقافية هذه القصيدة من المتواتر, وهي الكاف وما بعدها, والقافية على رأي الخليل: من فاء اصطفاك إلى آخر البيت.
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
20 أبريل 2024
تعليقات (0)