المنشورات

بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل ... وهذا الذي يضني كذاك الذي يبلي

الوزن من الطويل الأول.
يخاطب ميتًا ويقول: إن بنا منك, وإن كنا فوق الأرض, مثل ما بك وأنت تحتها؛ أي إنك تبلى في قبرك ونحن نفنى في بيوتنا.
وقوله:
تركت خدود الغانيات وفوقها ... دموع تذيب الحسن في الأعين النجل
تبل الثرى سودًا من المسك وحده ... وقد قطرت حمرًا على الشعر الجثل
النجل: الواسعة؛ يستعمل ذلك في العين والطعنة والمزادة, يقال: عين نجلاء, وكذلك الطعنة والمزادة. وسنان منجل إذا كان واسع الطعنة, وقد قالوا: نجال في جمع أنجلٍ, وجمع أفعلٍ على فعالٍ قليل, وقد جاء في حروف مثل قولهم: أبطح وبطاح, وأعجف وعجاف, وقال بعضهم في كلامه: أيدٍ طوال وأعين نجال.
وفي قوله: تبل الثرى سودًا من المسك وحده: شبه من قوله: يضعن النقس أمكنة الغوالي, وذلك أن الدموع توصف بالصفاء؛ فيقال: ماء صافٍ مثل الدموع؛ فأراد أنهن يتطلين بالمسك ويجعلنه في شعورههن, وقد حملهن الحزن على أن قلبن ذوائبهن فصرن قدام رؤوسهن؛ فيمر بالمسك الذي في الذوائب فيسودها بلونه, ولو كانت الذوائب خلفهن لم يكن للدموع إليها سبيل. ويقال: شعر جثل؛ أي كثير الأصول أثيثها, وليس هو مع ذلك بطويل.
وقوله:
فإن تك في قبر فإنك في الحشى ... وإن تك طفلًا فالأسى ليس بالطفل
(141/أ) حدث رجل ثقة أن أبا الطيب لما أنشد هذا البيت قيل له: هذا من قول الأول: [مجزوء الرمل]
إن تكن مت صغيرًا ... فالأسى غير صغير
فقال: الشعر طريق وربما وقع الحافر على الحافر. ويقال للصغير: طفل, وربما بقي هذا الاسم عليه فاستعمل له بعد أن يصير رجلًا؛ فجائز أن يقال للفوارس إذا رؤوا وهم شباب أو كهول: هؤلاء أطفال فلانٍ؛ أي أولاده الذين كانوا أطفالًا. فأما قول زهير: [الطويل]
لأتحلن في الصبح ثم لأدأبن ... إلى الليل إلا أن يعرجني طفل
أي: إلا أن تلقي ناقتي ولدًا فيمنعني من السير.
وقوله:
ألست من القوم الذي من رماحهم ... نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل
الاستفهام هاهنا تحقيق, وقوله: ألست من القوم؛ أي أنت منهم, كما يقول الرجل لصاحبه: ألم أعطك دينارًا؛ أي قد أعطيت إياه. وقوله: الذي, يجوز أن يريد به: الذين؛ فيحذف النون, كما قال الأشهب بن رميلة: [الطويل]
إن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
فإذا حمل هذا على الوجه؛ فالذي وما بعده موضع خفضٍ لأنه نعت للقوم. وفيه وجه آخر وهو أن يكون الذي مبتدأ, وقوله: من رماحهم صلته, ونداهم: خبر الذي, وتكون الجملة في موضع حالٍ؛ لأن الجملة تنعت بها النكرة, وتكون حالًا للمعرفة.
وقوله:
بمولودهم صمت اللسان كغيره ... ولكن في أعطافه منطق الفضل
يقول: طفل هؤلاء القوم لا يقدر على النطق, لأنه كغيره من الأطفال؛ إلا أن من نظر إليه دلته المخيلة في أعطافه على أنه يكون منطيقًا, وقد يجوز أن يكون المراد: أن هذا المولود كأن فضله ينطق وإن كان صامتًا.
وقوله:
تسليهم علياؤهم عن مصابهم ... ويشغلهم كسب الثناء عن الشغل
المصاب في هذا البيت يحتمل أن يكون الطفل الذي أصيب, ويحتمل أن يكون المصيبة نفسها؛ إلا أن الفعل الماضي إذا كان على أربعة أحرف استوى فيه لفظ المفعول والمصدر والزمان والمكان, وكذلك جميع الأفعال الرباعية بزوائد كانت أو غير زوائد.
وقوله:
أقل بلاءً بالرزايا من القنا ... وأقدم بين الجحفلين من النبل
البلاء مصدر باليت, وهذا اللفظ مطرد في مصدر فاعلت؛ إلا أن مصدر باليت غير مترددٍ في الشعر. يقول: هؤلاء القوم لا يبالون برزايا الحرب. وجعلهم أصبر على ما يلقون من الرماح؛ لأنها لا تحس بانحطامٍ ولا كسرٍ ولا تحفل بذلك, وجعلهم أسرع إلى حرب العدو من النبل وهو من أسرع ما يكون.
وقوله:
عزاءك سيف الدولة المقتدى به ... فإنك نصل والشدائد للنصل
نصب عزاءك على الإغراء, كأنه قال: عليك عزاءك؛ أي استعمله, وخبره أنه نصل, والشدائد إنما تلقاها النصال؛ وذلك أن السيف هو الذي يضرب به؛ فيلقى شدة الدرع والجوشن, وطال ما نحطم وانفل كما قال القائل: [الطويل]
وإنا لنعطي المشرفية حقها ... فتقطع في أيماننا وتقطع
وكذلك السنان ربما طعن به فانحطم أو نصل, قال أبو دوادٍ: [المتقاربٍ]
ووالى ثلاثًا فخر السنا ... ن إما نصولا وإما انكسارا
وقوله:
ولم أر أعصى منك للحزن عبرةً ... وأثبت عقلًا والقلوب بلا عقل
تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرجل
قوله: أعصى منك وصف لموصوف قد حذف, كأنه قال: ولم أر رجلًا أعصى منك؛ فلذلك جاء (141/ب) مجيء الهاء في سليله وهي عائدة على المحذوف.
وقوله:
ويبقى على مر الحوادث صبره ... ويبدو كما يبدو الفرند على الصقل
الفرند: جوهر السيف وماؤه, يقال فرند وبرند وهو معرب, وليس له في كلام العرب نظائر؛ لأن نونه إن جعلت أصلية فوزنه: فعل؛ وإنما جاء فعل بالتشديد مثل قولهم: فرس طمر, وحمر في اسم موضع؛ فإن جعلت النون زائدة فوزنه فعنل وليس في كلامهم مثل ذلك؛ إلا أن يكون شاذًا. ولقائل أن يقول: إن النون في فرند زائدة, وإنه مأخوذ من انفراد؛ أي إن هذا الشيء مما ينفرد به السيف, وقد قالوا: فرنداد في اسم موضعٍ, قال ذو الرمة: [البسيط]
تنفي الطوارف عنه دعصتا بقرٍ ... ويافع من فرندادين ملموم
وقوله:
يرد أبو الشبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنمل
هذا البيت مثل في أن العظيم القدر يجوز أن تجيئه الرزية من الحقير الذليل, كما أن الأسد تهابه الوحوش والأنعام وبنو آدم, وربما قتلت ولده النمل, وربما تجتمع عليه حين يولد فلا يقدر الأسد على دفعهن. وكأنه أراد أن الموت كالسارق ليس له شخص يدرك, وكذلك عبر المفسرون اللص إذا رئي في المنام بأنه ملك الموت, ولو ظهر الموت في صورة شخص لجاز أن يدفعه هذا الممدوح.
وقوله:
بنفسي وليد عاد من بعد حمله ... إلى بطن أم لا تحرق بالحمل
الناس يقولون: بنفسي فلان؛ فيرفعون. وهو كلام فيه حذف, وقد يجوز أن يكون على تقدير قولهم: المفدى بنفسي وليد؛ فيرتفع بأنه اسم ما لم يسم فاعله, وهذا إخبار, وكأن فيه معنى التمني؛ أي: ليتني فديته بنفسي. وأراد بالأم: الأرض؛ أي إنها وإن كانت أمًا فهي لا تطرق بالحمل؛ يقال: طرقت الوالدة إذا تعسر عليها خروج الولد, وكذلك القطاة إذا صعب عليها خروج البيضة, قال الشاعر: [الطويل]
وقد جعلت رجلي إلى جنب غرزها ... نسيفًا كأفخوص القطاة المطرق
وقال النابغة الجعدي ووصف أسدًا: [الطويل]
كأن زفير القوم من خوف شره ... وقد بلغت نفس الجبان التراقيا
زفير المتم بالمشيأ طرقت ... بكاهله فما يريم الملاقيا
المشيأ: المختلف الخلق, والملاقي: جوانب الرحم, وهي جمع ملقى.
وقوله:
بدا وله وعد السحابة بالروى ... وصد وفينا غلة البلد المحل
يقال: ماء روي: أي مروٍ بكسر أوله والقصر, وإذا فتح أوله مد, قال الراجز: [الرجز]
يا إبلي ما ذنبه فتأبيه ... ماء رواء ونصي حوليه
وقوله:
وقد مدت الخيل العتاق عيونها ... إلى وقت تبديل الركاب من النعل
يقول: بدا هذا المولود وهو يعدنا أن يروينا بالجود. وصد: أي مال عنا, وبنا غلة البلد الماحل؛ أي: عطشه, وكان ذلك والخيل قد مدت عيونها تنتظر أن يضع هذا المولود رجله في الركاب فتفتخر بذلك, وجعل الركاب يبدل من النعل؛ لأن الطفل أول مشيه إنما يكون بنعلٍ خفيفةٍ, وادعى للخيل ذلك على سبيل المبالغة.
وقوله: وعد السحابة بالروى: جاء بالباء مع الوعد؛ وإنما تجيء مع الوعيد, ولا يقولون: وعدثه بكذا؛ إنما يقال: وعدته خيرًا وشرًا, فإذا قالوا: أوعدت جاؤوا بالباء, قال الراجز: [الرجز]
أوعدني بالسجن والأداهم ... رجلي ورجلي شثنة المناسم
ويجوز أن يحمل قوله: بالروى على تقدير: له في الروى وعد السحابة, ولا يكون الوعد موصولًا بالباء, وتكون الباء مؤديةً معنى «في».
وقوله:
وريع له جيش العدو وما مشى ... وجاشت له الحرب الضروس وما تغلي
(142/أ) الضروس توصف به الحرب, وأصل ذلك قولهم: ضرسه إذا عضه بضرسه, يقال: فرس ضروس, وكذلك ناقة.
وقوله:
أيفطمه التوراب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل
هذا استفهام لا يحتاج إلى جواب؛ لأن فيه معنى الإنكار, كما تقول للرجل يفعل فعلًا تنكره: ويحك أفعلت كذا؛ أي: لم يجب أن تفعله, والفطم يستعمل في قطع الرضاع عن الولد, وقد استعمل ذلك في الناس وغيرهم, قال الراجز: [الرجز]
من كل كوماء السنام فاطم ... تشحى لمستن الذنوب الرادم
شدقين في رأسٍ لها صلادم
والتوراب من أسماء التراب.
وقوله:
وقبل يرى من جوده ما رأيته ... ويسمع فيه ما سمعت من العذل
الصواب أن يقول: وقبل أن يرى فحذف أن, ولابد من تقديرها ليصير الكلام في معنى المصدر. و «أن» تحذف في مواضع كثيرة, وحذفها في موضع النصب أيسر من حذفها في موضع الرفع والخفض, على أنه مكروه في كل المواضع. ومما حذفت فيه والموضع موضع نصبٍ قول طرفة: [الطويل]
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغا ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
سيبويه يرفع أحضر, وأجاز غيره النصب بإضمار أن, ومما حذفت فيه أن والموضع موضع رفعٍ قول ذي الرمة: [الوافر]
وحق لمن أبو موسى أبوه ... يوفقه الذي رفع الجبالا
كأنه أراد: حق له أن يوفقه؛ فأن وما بعدها في محل رفع بما لم يسم فاعله. ومما حذفت فيه أن وهي في موضع خفضٍ بيت ينسبه بعض الناس إلى مدرج الريح وهو: [الرمل]
انظرا قبل تلوماني إلى ... طللٍ بين النقا والمنحنى
ومن نصب أحضر الوغي جاز أن ينصب يسمع في قوله: ويسمع فيه ما سمعت من العذل.
وقوله:
هل الولد المحبوب إلا تعلةً ... وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل
التعلة مصدر عللت, كأنه قال: عللته تعللةً ثم ادغم, وهذا مطرد في المضاعف من هذا الجنس؛ يقال: رببت المرأة ولدها تربة أي تربية, وحلل الرجل يمينه تحلة إذا فعل ما يخرجه من الحنث.
وقوله:
وقد ذقت حلواء البنين على الصبى ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل
يقال: حلوى وحلواء بالمد والقصر, وهي مأخوذة من الشيء الحلو. وقد يجوز أن تكون الحلاوة في المطعم مأخوذةً من قولهم: حلوته الشيء إذا أعطيته إياه, قال الشاعر: [الطويل]
فهل راكب أحلوه كوري وناقتي ... يبلغ عني الشعر إذ مات قائله
وقافيتها من المتواتر وهي اللام والياء, والقافية عند الخليل من راء رمل إلى آخر المصراع.










مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید