المنشورات
في الخد أن عزم الخليط رحيلا ... مطر تزيد به الخدود محولا
الوزن من ثاني الكامل.
الخد: أصله من خددت في الأرض إذا حفرت فيها موضعًا, ومنه اشتقاق الأخدود لأنه حفرة مستطيلة, ويجوز أن يكون خد ابن آدم سمي خدًا لأن الذي تحت لحمه مطمئن, ويجوز أن يكون قيل له: خد من قولهم: تخدد لحمه إذا صارت فيه طرائق تدل على الهزال. وإذا هزل الرجل ظهر في خده نحو من ذلك, والقول الأول أشبه. قال جرير في صفة الخيل: [الكامل]
أفنى عرائكها وخدد لحمها ... ألا تذوق مع الشكائم عودا
يقول: إذا عزم الخليط رحيلًا بكي المحب بكاءً مثل المطر؛ إلا أنه لا ينبت العشب كغيره من الأمطار؛ فالخدود يزيد محلها به. وقد قال بعض الشعراء, ويقال إنه ليموت بن المزرع: [مخلع البسيط]
كم زفرات وكم دموع ... يا عين هذا هو الفظيع
لو نبت العشب من دموعٍ ... لكان في خدي الربيع
يا قمرًا غاب عن عياني ... بالله قل لي متى الرجوع
وقوله:
كانت من الكحلاء سولي إنما ... أجلي تمثل في فؤادي سولا
أصل السول: الهمز لأنه من سألت؛ فإذا كان في حشو البيت فأنت في الهمز وتركه مخير, وإذا كان في قافية هذه القصيدة لم يجز إلا كون الهمزة واوًا لأنها مردفة, ولو وقع في قوافٍ مثل جملٍ ونجلٍ لم يجز إلا الهمز.
وفي كانت ضمير يعود على النظرة في قوله: يا نظرة نفت الرقاد, وفي الكلام حذف وهو معلوم عند السامع؛ كأنه قال: يا نظرةً نفت الرقاد ما أضرك وأبعد نفعك؛ كأنك تمثلت من أجلي. والأصل في الأجل هو المدة التي يؤخر موت الإنسان حتى تنفد.
وقوله:
تشكو روادفك المطية فوقها ... شكوى التي وجدت هواك دخيلا
روادفها: ردفها وما والاه كأنه جعلها جمع رادفةٍ أو رادفٍ وهي مآخير خلقها. يقول: هي عظيمة الجسم فالمطية تشكو ثقلها على ظهرها, وكان أبو الطيب يصف المرأة بالسمن وكثرة اللحم حتى يفرط, ومن ذلك قوله:
يظن ضجيعها الزند الضجيعا
يقول: تشكو المطية حملك كأنها تشكو دخيلًا في قلبها من حبك.
وقوله: (164/ب):
ويغيرني جذب الزمام لقلبها ... فمها إليك كطالبٍ تقبيلا
هذا من أحسن ما قيل في الغيرة؛ لأنه زعم أن زمام هذه الناقة إذا جذب فقلبت فمها نحو الراكبة غار من ذلك؛ لأنه يظن قلبها الفم طلب تقبيلٍ, ومثل ذلك لا يظن بالنوق.
وقوله:
حدق يذم من القواتل غيرها ... بدر بن عمار بن إسماعيلا
زعم أن الممدوح يذم؛ أي يعطي الذمة من كل القواتل إلا من هذه العيون, فقد أفرط في صفة العيون بتمكنها من القتل؛ إلا أنه جعل الممدوح لا يستطيع أن يمنعهن من القتل.
وقوله:
محك إذا مطل الغريم بدينه ... جعل الحسام بما أراد كفيلا
المحك: الذي يلج في المطل, ومطالبة الشيء, ومنه قول زهير: [البسيط]
اردد يسارًا ولا تعنف عليه ولا ... تمحك بعرضك إن الغادر المحك
ويروى: ولا تمعل بعرضك إن الغادر المحك, والمعنى واحد. يقول: هذا الرجل إذا مطل الغريم بدينه جعل الحسام كفيله بقضاء الدين. وإنما يعني بالغريم من جنى جناية يجب أن يعاقب عليها؛ فجعل تأديب الجانين كالدين للممدوح يتقاضاه بالسيف, فكأن السيوف كفلاء له بما يريد.
وقوله:
نطق إذا حط الكلام لثامه ... أعطى بمنطقه القلوب عقولا
يقال: رجل نطق ونطق إذا كان بليغ المنطق حسنه. يقول: إذا هذا الممدوح حط لثامه ليتكلم للأمر والنهي؛ فإنه يعطي من يسمع كلامه عقلًا؛ لأنه ينطق بالحكمة, وما يهتدي به الضالون.
وقوله:
أعدى الزمان سخاؤه فسخا به ... ولقد يكون به الزمان بخيلا
ادعى أن الممدوح أعدى بسخائه الزمان فسخا به على البشر؛ وإنما حمله على السخاء أنه أعداه, ولولا ذلك لكان بخيلًا به.
وقوله:
وكأن برقًا في متون غمامةٍ ... هنديه في كفه مسلولًا
شبه سيفه بالبرق ويده بالغمامة. وهنديه أي سيفه, وجعل اسم كأن نكرةً وخبرها معرفةً وذلك حسن لأن كون الاسم نكرةً والخبر من المعارف, إنما ينكر إذا تغير بذلك الإعراب كقولك: كان الأمير شابًا فهذا وجه الكلام. فإن قلت: كان الأمير شاب لم يجز مثل ذلك إلا في ضرورة, وكونه في كان وأخواتها ينكر لأنه يؤدي إلى تغيير الإعراب, وهو في إن وأخواتها غير نكيرٍ؛ لأنك إذا قلت: إن قائمًا أبوك فالإعراب على حاله؛ وإنما جاء الاسم نكرةً وليس الخبر كذلك, ومما جاء الاسم فيه نكرةً والخبر معرفةً في باب: إن قول الفرزدق: [الوافر]
وإن حرامًا أن أسب مقاعسًا ... بآبائي الغر الكرام الخضارم
فقوله: حرامًا نكرة, والجملة التي هي قوله: أن أسب مقاعسًا في موضع معرفةٍ؛ لأنها تؤدي معنى قوله: وإن حرامًا سبي مقاعسًا.
وقوله:
ومحل قائمه يسيل مواهبًا ... لو كن سيلًا ما وجدن مسيلا
الهاء في قائمه عائدة على سيف الممدوح. والمحل حيث يحله الشيء, وإنما يعني يد الممدوح؛ أي إن يده التي يحلها قائم سيفه أي يكون فيها من قولهم: حللت بالدار. ومواهبًا منصوبة لأنها مفعول, ولما كان قائم السيف لا يعقل جمعوه على قوائم, قال الشاعر في صفة السيوف: [الطويل]
إذا هي شيمت فالقوائم تحتها ... وإن لم تشم يومًا علتها القوائم
زعم أن ما يسيل من كف هذا الرجل لو كان سيلًا لم يصب موضعًا يسيل فيه.
وقوله:
رقت مضاربه فهن كأنما ... يبيدن من عشق الرقاب نحولا
يقول: رقت مضاربه أي مضارب السيف؛ فكأنهن يعشقن الرقاب؛ فكأن العشق أنحلهن.
وقوله:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادخرت الصارم المصقولا
(165/أ) عفره إذا ألقاه في العفر أي التراب. يقول: إذا كنت تعفر الليث بسوطك فلمن ادخرت سيفك؟ والليث موصوف بالشجاعة وعظم البأس.
وقوله:
وقعت على الأردن منه بلية ... نضدت لها هام الرفاق تلولا
يقول: هذا الأسد بلية على البلاد التي هو فيها لأنه إذا مرت به الرفاق افترس بعضهم, فيأكل الجسد ويترك الرأس؛ لأنه عظم, فعنده من هام الرفاق تلول, جمع تل, وهو ما ارتفع من الأرض. وقولهم في الجمع: تلال أكثر من قولهم تلول, قال النابغة: [الوافر]
مضر بالقصور يذود عنها ... قراقير النبيط إلى التلال
وقوله:
ورد إذا ورد البحيرة شاربًا ... ورد الفرات زئيره والنيلا
الورد: الذي يضرب لونه إلى الحمرة, وبالغ في تعظيم الأسد وعلو زئيره, فزعم أنه إذا ورد البحيرة سمع زئيره في الأرض التي فيها الفرات والتي فيها النيل.
وقوله:
متخضب بدم الفوارس لابس ... في غيله من لبدتيه غيلا
يقول: هذا الأسد يفرس الفوارس فهو متخضب بدمائهم. والغيل: شجر ملتف, وتضاف الأسد إليه؛ فيقال: أسد الغيل, قال طرفة: [الرمل]
أسد غيلٍ فإذا ما شربوا ... وهبوا كل نجاةٍ وطمر
ولبدة الأسد ولبدتاه: ما علا كتفيه من الشعر, وجعله الشاعر كالغيل, وهو إفراط في المبالغة.
وقوله:
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا ... تحت الدجى نار الفريق حلولا
يصف عيني الأسد بالحمرة, ولم يمكنه أن يجعلهما نارين لأجل الوزن, فشبههما بنار الفريق وهم الجماعة من الناس يفارقون غيرهم, ونحو من ذلك قول الآخر في صفة الأسد وهو يخاطبه: [الوافر]
تدل بمخلبٍ وبحد نابٍ ... وباللحظات تحسبهن جمرا
وقوله:
في وحدة الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا
يقول: هذا الأسد متوحد كوحدة الرهبان إلا أنه لا يفرق بين الحلال والحرام, والأسد يوصف بالتوحد لأنه يهاب فلا يأنس إليه غيره. وإذا وصفوه بعظم الشأن ذكروا أن الأسد تفر منه. قال الهذلي: [الكامل]
أسد تفر الأسد من عروائه ... بمدافع الرجاز أو بعيون
العرواء: الرعدة, ويجوز أن يكون المعنى: أن الأسد تفر منه لأن العرواء تأخذها من خوفه, ويحتمل أن يكون المراد أنه إذا غضب أخذته العرواء, وهي في الأصل رعدة تأخذ المحموم, والناس يقولون إن الأسد أبدًا محمومة, وقد زعم قوم أن الأسد ربما فرس غيره من الأسد, قال الشاعر: [الوافر]
كذاك الأسد تفرسها الأسود
وقوله:
يطأ البرا مترفقًا من تيهه ... فكأنه آسٍ يجس عليلا
البرا: التراب. يقول: هذا الأسد كأن به تيهًا؛ فهو يطأ الأرض وطئًا مترفقًا؛ فكأنه طبيب يأخذ مجسه عليلٍ.
وقوله:
ويرد غفرته إلى يافوخه ... حتى تصير لرأسه إكليلا
الغفرة: ما على عنقه وقذاله من الشعر؛ وإنما قيل لها: غفرة لأنها تغطي ما تحتها, واليافوح: وسط الرأس وأصله الهمز, يقال: أفخه إذا ضرب يافوخه, وجمع اليافوخ: يآفيخ, قال الراجز: [الرجز]
ضربًا إذا وافى اليآفيخ احتفر
وقوله:
وتظنه مما يزمجر نفسه ... عنها بشدة غيظه مشغولا
الزمجرة: صوت يسمع في الجوف, وكذلك: زمجر السحاب. والأجود أن ترفع نفسه لأنها فاعلة تظن؛ أي الأسد تظنه نفسه مشغولًا عنها باتصال الزمجرة. وهذا أوجه من نصب النفس لأن الزمجرة لم تجر عادتها أن تتعدى إلى مفعول.
وقوله:
قصرت مخافته الخطى فكأنما ... ركب الكمي جواده مشكولا
يقول: قصرت مخافة هذا الأسد الخطى؛ وإنما يعني خطى الخيل؛ لأنها لا تقدم عليه, وكان بعض الملوك يصور صورة أسدٍ ويجعله بين دوابه لتأنس به؛ فإذا رأت أسدًا حقيقيًا لم تهبه. يقول: كأن الفارس ركب الجواد مشكولًا فهو لا يقدم على الأسد.
وقوله (165/ب):
ألقى فريسته وبربر دونها ... وقربت قربًا خاله تطفيلا
يقول: ألقى الأسد فريسته وبربر دونها, والبربرة كلام غليظ, وقد استعير لغير الإنس, قال الشاعر: [البسيط]
لا أرض أكثر منك بيض نعامةٍ ... ومذانبًا تندى وروضًا أخضرا
ومعينًا يحمي الصوار كأنه ... متخمط قطم إذا ما بربرا
يعني بالمعين ثورًا وحشيًا. ويقال: تخمط الفحل إذا هاج وصال, وجعل بعضهم صوت الدف بربرة؛ فقال: [المتقارب]
يغرد في الصبح ذا بحةٍ ... كبربرة الدف يوم النياح
والتطفيل اسم حدث في الإسلام؛ وذلك أن الكوفة كان فيها رجل يقال له: طفيل إذا أحس بوليمةٍ مضى إليها وإن لم يدع؛ فكان يقال له: طفيل الأعراس, فقيل لكل من دخل إلى قوم ليأكل من طعامهم ولم يدعوه إليه: طفيلي, واشتقوا له فعلًا فقالوا: طفل تطفيلصا.
يقول: هذا الأسد ظنك قد طفلت عليه فغضب من ذلك.
وقوله:
فتشابه الخلقان في إقدامه ... وتخالفا في بذلك المأكولا
يقول: أشبه خلقك خلق الأسد في الإقدام, وخالفته في بذلك المأكول؛ لأنك جواد وهو بخيل.
وقوله:
أسد يرى عضويه فيك كليهما ... متنًا أزل وساعدًا مفتولا
يقول: رأى الأسد عضويه فيك: ساعدًا مفتولًا ومتنًا أزل. فإن كان أراد: يرى من رؤية القلب؛ فالمعنى محتمل, وإن كان أراد رؤية العين فالأسد لا يرى متن الرجل إلا وهو مول عنه. والزلل محمود في الرجال مذموم في النساء, وإنما حمد في الرجل لأنه من صفات السباع, ولأن الرجل إذا قل لحم عجزه كان أخف لجسمه, قال الشاعر: [المديد]
مسبل في الحي أحوى رفل ... وإذا يغدو فسمع أزل
فأما الزلل في النساء فمذموم, قال نصيب: [الوافر]
بنفسي كل مهضومٍ حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتصار
إذا ما الزل ضاعفن الحشايا ... كفاها أن يلاث بها إزار
وقال ذو الرمة: [الطويل]
ترى الزل يكرهن الرياح إذا جرت ... ومية إن هبت لها الريح تفرح
وقوله:
في سرج ظامئة الفصوص طمرةٍ ... يأبى تفردها لها التمثيلا
الفرس يوصف بظمأ الفصوص؛ أي قلة اللحم فيهن, وكل رأس مفصلٍ فص, والطمرة: الوثابة, وزعم أن هذها لفرس يأبى تفردها أن يمثل بغيرها.
وقوله:
نيالة الطلبات لولا أنها ... تعطي مكان لجامها ما نيلا
يقول: هذه الفرس إذا طلبت عدوًا أو وحشًا نالته؛ وهي مع ذلك عزيزة النفس لولا أنها تذل للراكب وتغطيه مكان لجامها لما قدر عليه؛ لأنها سابقة لو شردت عن محاول إلجامها لما وصل إليه.
وقوله:
تندى سوالفها إذا استحضرتها ... ويظن عقد عنانها محلولا
السوالف: جمع سالفة وهي صفحة العنق, والفرس لا يحمد لها كثرة العرق ولا قلته؛ لأنه إذا كثر أضعف, وإذا قل حدث عنه البهر؛ فلذلك جعل سوالفها تندى بالعرق, أي تخرجه قليلًا قليلًا. وتظن عقد عنانها محلولًا؛ أي كأنها وإن كانت ذات عنانٍ لا عنان لها. وعقد عنانها: اسم ما لم يسم فاعله.
وقوله:
مازال يجمع نفسه في زوره ... حتى حسبت العرض منه الطولا
مازال: يعني الأسد, وزوره: صدره. يقول: جمع نفسه في زوره حتى حسبت عرضه طوله.
وقوله:
ويدق بالصدر الحجار كأنه ... يبغي إلى ما في الحضيض سبيلا
الحجارة بالهاء أفصح من الحجار, وكذلك هي في القرآن, وفي الشعر الفصيح, قال امرؤ القيس: [الطويل]
ويخطو على صم صلابٍ كأنها ... حجارة غيلٍ وارسات بطحلب
وقال الأعشى: [مجزوء الكامل]
لسنا نقاتل بالعصي ... ي ولا نرامي بالحجاره
والحضيض: أسفل الجبل.
وقوله:
وكأنه غرته عين فادنى ... لا يبصر الخطب الجليل جليلا
ادنى: افتعل من الدنو. يقول: كأن هذا الأسد غرته عينه فلم يبصر ما قدامه, ولو تصور الأمر بصورته لفر من هيبة الممدوح؛ ولكنه مغرور ظن ما جل من الخطوب ليس بالجليل.
وقوله:
أنف الكريم من الدنية تارك ... في عينه العدد الكثير قليلا
هذا البيت عذر للاسد في إقدمه؛ لأنه جعل أنف الكريم من الدنية يغره, فيجعل ما كثر من العدد قليلًا عنده؛ أي هذا الأسد (166/أ) أنف أنف الكرام فاستصغر ما عظم.
وقوله:
والعار مضاض وليس بخائفٍ ... من حتفه من خاف مما قيلا
يقال: أمضني الشيء, وهي اللغة الفصيحة, وقد حكي: مضني, وكأن مضاضًا محمول على مض, وربما جاء أفعل فاشتق منه فعال كما قالوا: أدرك النار؛ وهو دراك. يقول: الرجل إذا خاف من كلام الناس فيه ونسبتهم إياه إلى الجبن أو البخل؛ لم يخف من لقاء الموت؛ لأنه يرى ذلك أحسن من أن يوصف بخلةٍ ذميمة.
وقوله:
سبق التقاءكه بوثبة هاجمٍ ... لو لم تصادمه لجازك ميلا
جاء بالهاء بعد الالتقاء, ولو كان في غير الشعر لكانت إياه أولى من الهاء. والهاجم: الذي يهجم على الشيء بغرته من غير تلبثٍ ولا انتظار. والميل من الأرض: معروف, وقيل: إنما سمي ميلًا لأن الإنسان إذا بلغه مال إلى العلامة التي تدل عليه, وقيل: إنما سمي ميلًا لأنهم كانوا يجعلون عند آخره صخرةً مستطيلةً ليعرف مكانه بها. وشبهوا الصخرة بالميل الذي يكتحل به. يقول: لو لم تصادم الأسد لجازك مقدار ميل, وهذا مدح للأسد ووصف له بالقوة.
وقوله:
خذلته قوته وقد كافحته ... فاستنصر التسليم والتجديلا
كافحته: أي لقيته بشخصك ولقيك بشخصه, وكل شيء لقي شيئًا فقد كافحه, والتسليم من قولهم: سلم الأمر إلى الله, والأسد لا يعرف ذلك ولكنه ادعاه له. والتجديل: مصدر جدله؛ أي ألقاه على الجدالة وهي الأرض, قال الراجز: [الرجز]
قد أركب الآلة بعد الآله
وأترك العاجز بالجداله
منعفرًا ليست له محاله
ويجوز أن يكون التجديل من قولهم: ألقاه على جدوله وهي مثل أعضائه, كما يقال: قطره إذا ألقاه على قطره أي جانبه.
وقوله:
سمع ابن عمته بن وبحاله ... فنجا يهرول منك أمس مهولا
إنما قال الشاعر: ابن عمته لأنه سمع قول أبي زبيدٍ في صفة الأسد: [البسيط]
أفر عنه بني العمات جرأته ... فكلها خاشع من ذاك مكتنع
وليس لابن العمة هاهنا فضل على ابن الخالة. والهرولة فوق المشي ودون العدو, ولم يستعملوا منها فعلًا بغير زيادة. ويجوز أن يكون امتناعهم من ذلك لكراهة اجتماع اللام والراء في كلمة واحدة؛ لأن ذلك مفقود في لغة العرب, ولو لم يزيدوا الواو في الهرولة لقالوا: الهرل والهرل؛ فثقل اجتماع الراء واللام. ومهول أي قد هيل لما شاهد وسمع.
وقوله:
وأمر مما فر منه فراره ... وكقلته ألا يموت قتيلا
هذا الكلام فيه تقديم وتأخير, والتقدير: وفراره أمر مما فر منه. وأمر في أول البيت خبر مقدم, ومثل قتله موته غير قتيل؛ أي إن ذلك خطة صعبة, وإنما يحمل ذلك على التشبيه ببني آدم لأن الشجعان يكرهون الموت على الفرش, قال الحطيئة: [الطويل]
وشر المنايا هالك بين أهله ... كهلك الفتى لم يشهد الحي حاضره
وقوله:
تلف الذي اتخذ الجراءة خلةً ... وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا
يقول: تلف الأسد الذي جعل الجرأة خلةً, أي مثل الخليل, وعظ قرينه من الأسد فاتخذ الفرار خليلًا.
وقوله:
لو كان لفظك فيهم ما أنزل الـ .... ـقرآن والتوراة والإنجيلا (*)
حدث رجل من أهل الأدب أنه كان وكيلًا في ضيعةٍ فقدم رجل يزعم أنه المتنبي, وأحمد بن الحسين يومئذٍ في أول أمره لم ينتشر خبره في الأرض, وكان الرجل يحفظ كثيرًا من شعره, فاجتمع أهل القرية حوله, وجعل ينشدهم من أشعار أبي الطيب وهو لا يلحن ولا يصحف, وكان هذا الرجل [أي: الوكيل] حاضرًا فلم يبن له أمره حتى أنشد هذه القصيدة التي في بدر بن عمار فأنشد:
لو كان لفظك فيهم ما أنزل الـ ... ـقرآن والتوراة والإنجيلا
فضم الهمزة في أنزل ونصب ما بعدها, فعلم الرجل أنه كاذب؛ قال: فخلوت به فقلت له: ويحك أما تستحي من هذا الفعل, فاعتذر بالحاجة والاختلال إلى أهل الضيعة. قال: ثم إن قومًا من أهل الضيعة مضوا يسرقون زيتونًا فمضى معهم؛ فانحل ناموسه عندهم.
وقوله:
لو كان ما تعطيهم من قبل أن ... تعطيهم لم يعرفوا التأميلا
(166/ب) سكن الياء بعد أن في: تعطيهم وتلك ضرورة, وقد استعملها الشعراء المتقدمون والمحدثون. يقول: [لو وصلت] أعطيتك من قبل أن تعطيهم, لما جرت الآمال في قلوبهم؛ لأن العطايا كانت تأتيهم من غير أملٍ.
وقوله:
فلقد عرفتوما عرفت حقيقةً ... ولقد جهلت وما جهلت خمولا
يقول: قد عرفك الناس ولكن شأنك عظيم؛ فلم يعرفوا حقيقتك, وإنهم لجاهلون بك, وما جهلوك لأنك خامل؛ ولكن لعجزهم أن يدركوا ما عندك من الفضل. وقافيتها من المتواتر.
مصادر و المراجع :
١- اللامع العزيزي شرح
ديوان المتنبي
المؤلف: أبو
العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)
المحقق: محمد
سعيد المولوي
الناشر: مركز
الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
الطبعة: الأولى،
1429 هـ - 2008 م
21 أبريل 2024
تعليقات (0)