المنشورات

صلة الهجر لي وهجر الوصال ... نكساني في السقم نكس الهلال

الوزن من أول الخفيف.
يقول: مواصلة الهجر وهجر المواصلة نكساني في السقم نكس الهلال؛ أي كنت صحيح الجسم كامل الخلق فنكسني هذان الشيئان نكس الهلال؛ وذلك أني زدت كما يزيد في أول الشهر, ثم نقصت كما ينقص إلى أن لحقه السرار. وقد شببت الشعراء بالقمر وزيادته ونقصه, وينشد لبعض العرب: [الطويل]
ومهما يكن ريب الزمان فإنني ... أرى قمر الليل المعلل كالفتى
يكون هلالًا ثم يزداد نوره ... وبهجته حتى إذا تم واستوى
تقارب يخبو ضوؤه وبهاؤه ... وينقص حتى يستسر فلا يرى
كذلك زيد المرء ثم انتقاصه ... وعودته في عمره بعد ما مضى
وقوله:
قف على الدمنتين بالدو من ريا كخالٍ في وجنةٍ جنب خال
الدمنتان: تثنية دنة, وهي أثر الدار وجمعها دمن, قال الشاعر: [البسيط]
يا صاحبي سلا الأطلال والدمنا ... متى يعود إلى عسفان من ظعنا
والدو: الأرض الواسعة المقفرة. والخال: الشامة. يقول: هاتان دمنتان مخالفتان للون الأرض التي هما فيها, كما أن الشامة تخالف الخد في لونه.
وقوله:
بطلولٍ كأنهن نجوم ... في عراصٍ كأنهن ليال
شبه الطلول بالنجوم لأنها عنده مستحسنة لأجل من كان يحلها ممن يحب. والعراص: جمع عرصةٍ, وهي الموضع الواسع من الدار. وجعل العراص كالليالي لأن المرتحلين عنها كانوا فيها كضياء النهار, فلما فارقوها ذهب نورها: فكأن كل عرصةٍ منها ليلة في الإظلام.
وقوله:
ونؤي كأنهن عليهن ... ن خذام خرس بسوقٍ خدال
نؤي: جمع نؤي لأن فعلا يجمع على فعولٍ, ومثل: جند وجنود. وحقيقة جمعه: نؤي فجعلت الواو ياء كما فعل بها في ثدي. واشتقاق النؤي من النأي وهو البعد؛ وذلك أنهم أرادوا أن ينؤوا به الماء عن البيت كيلا يدخل السيل إلى رحالهم.
والهاء والنون في عيلهن يجوز أن ترجع إلى الطلول وإلى العراص, ورجوعها إلى الطلول أشبه. وشبه النؤي بالخدام وهي الخلاخيل؛ لأن النؤي يكون مطيفًا بالبيت كما يطيف الخلخال بالساق, ويقال للخلخال: خدمة وخدم وخدام في الجمع, قال الشاعر: [المنسرح]
والضاربو الهام في الحروب إذا ... أبدى العذارى مواضع الخدم
يريد: إذا فزع النساء فشمرن ذيولهن للهرب فانكشفت خلاخيلهن. وقال آخر: [الخفيف]
كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدامٍ عقيلة عذراء
وبعضهم ينشد: عن خدام العقيلة العذراء؛ كأنه أراد التنوين فحذف. والخدال: جمع خدلةٍ وهي الساق الكثيرة اللحم, ويقال: امرأة خدلة وساق خدلة, قال ذو الرمة (169/أ) / [الطويل]
مليحات الوجوه مبطنات ... جواعل في البرى قصبًا خدالا
يعني بالقصب: عظام الأسوق.
وقوله:
ما تريد النوى من الحية الذو ... واق حر الفلا وبرد الظلال
شبهت الشعراء المتقدمة الرجل بالحية وهم يريدون المدح, وإنما يذهبون إلى أنه مهيب لا يجترأ عليه, قال الشاعر: [البسيط]
إذا رأيت بوادٍ حيةً ذكرًا ... فاذهب ودعني أمارس حية الوادي
ويقولون: حية جبلية إذا وصفوها بالشر, قال الشاعر: [الكامل]
ما تزدري من حيةٍ جبليةٍ ... سكاتٍ إذا ما عض ليس بأدردا
وقوله: الذواق حر الفلا وبرد الظلال, يصف نفسه بأنه كالحية الذكر لا يستقر في موضع؛ فهو يذوق برد الزمان وحره؛ أي إني قد جربت الأمور ولقيت الشدائد على اختلافها.
وقوله:
فهو أمضى في الروع من ملك المو ... ت وأسرى في ظلمةٍ من خيال
أصل الملك: ملأك فخففت الهمزة, قال الشاعر: [الطويل]
فلست لإنسي ولكن لملأكٍ ... تنزل من جو السماء يصوب
وقالوا في الجمع: ملائكة فجاؤوا بالهمزة, وقالوا للرسالة: مألكة. وقولهم: الملائكة على أن مألكةً كالمقلوبة من ملؤكةٍ. يقال: مألكة ومألك؛ فقيل: مألك جمع وقيل واحدة, وقالوا في الجمع مآلك, فدل ذلك على أن الأصل ألك, وقالوا في الأمر: ألكني إلى القوم رسالةً وكأنهم يريدون: ألئك لي؛ فألقوا حركة الهمزة على اللام, قال الشاعر: [الطويل]
ألكني إلى قومي السلام رسالةً ... بآية ما كانوا ضعافًا ولا عزلا
وقوله:
ولحتفٍ في العز يدنو محب ... ولعمرٍ يطول في الذل قال
يريد: وهو لحتف في العز محب, ولعمرٍ في الذل قال, عطف هو المضمرة على قوله: فهو أمضى, وكذلك في قوله: ولعمرٍ, أي: وهو لعمر في الذل قالٍ, والقلى: البغض.
وقوله:
نحن ركب ملجن في زي ناسٍ ... فوق طيرٍ لها شخوص الجمال
العرب إذا أرادوا المبالغة في صفة الإنس شبهوهم بالجن, قال الشاعر: [الوافر]
خيلٍ كالقداح مضمراتٍ ... عليها معشر أشباه جن
يقول: نحن ركب من الجن في زي ناسٍ, وركبانا طير لها شخوص جمالٍ.
وقوله:
من بنات الجديل تمشي بنا في الـ ... بيد مشي الأيام في الآجال
الجديل: فحل من فحول الإبل تنسب إليه, فيقال: فحل جدلي, ويقال إنه كان لمهرة ابن حيدان, قال الراعي: [الكامل]
صهبًا تناسب شدقمًا وجديلا
فأما قول ذي الرمة: [الطويل]
نجائب مما ذمرت في نتاجها ... بناحية الشحر الجديل وشدقم
فإنه أراد مما ذمرت أصحاب الجديل وشدقم. والتذمير: أن يجس الناتج أصل العنق من النتيج؛ فإن كان صلبًا علم أنه ذكر, وإن كان لينًا علم أنه أنثى.
وقوله:
كل هوجاء للدياميم فيها ... أثر النار في سليط الذبال
الهوجاء: الناقة التي تركب رأسها في السير. ولا يقولون: بعير أهوج. ويقولون: ريح هوجاء إذا وصفوها بشدة الهبوب, قال ابن أحمر: [الكامل]
ولهت عليه كل معصفةٍ ... هوجاء ليس للبها زبر
والدياميم: جمع ديمومةٍ, ويقال: إنها التي يدوم فيها السراب, وهي من دام يدوم. والبصريون يذهبون إلى أن أصلها ديمومة؛ فخففت الياء, وقالوا في ميتٍ: ميت, وفي هينٍ: هين, وإذا أخذ بهذا القول فأصلها: فيعلولة, والموجود منها قيلولة؛ لأن العين ذهبت وهي الياء المتحركة وأصلها الواو. ويقولون: ديموم؛ فيجوز أن يكون جمع ديمومة كما يقولون: رملة ورمل, قال الراجز: [الرجز]

قد جعلت نفسي في أديمي ... ثم رمت بي عرض الديموم
في بارحٍ مطرد السموم ... عند طلوع وغرة النجوم
الوغرة: شدة الحر. يريد عند طلوع النجم الذي يشتد الحر عند طلوعه؛ وكأنه أراد أن يقول: عند وغرة طلوع النجم, فلم يستقم له الشعر. يقول: هذه الإبل قد أثرت فيها الدياميم تأثير النار في السليط؛ أي الزيت الذي يجعل في الذبال وهي الفتل.
وقوله:
من يزره يزر سليمان في الملـ ... ـك جلالًا ويوسفًا في الجمال
وربيعًا يضاحك الغيث فيه ... زهر الشكر من رياض المعالي
نفحتنا منه الصبا بنسيمٍ ... رد روحًا في ميت الآمال
شبه الممدوح بسليمان (169/ب) في الملك, والممدوح يعلم أن ذلك كذب؛ ولو كان الشعر في مدح ملكٍ لكان أليق منه إذا كان في قاضٍ, أو تانئٍ.
ونسق ربيعًا على سليمان, ونعت الربيع بقوله: يضاحك الغيث فيه زهر الشكر؛ أي إنه إذا جاد روضت معاليه فظهر فيها زهر الشكر. ونفحتنا الصبا من قولهم: ريح نافحة إذا كانت لينةً طيبةً وهي ضد اللافحة؛ لأن اللافحة تستعمل في الحارة. ونسيم الريح أول هبوبها وما ضعف منها. يقول: كانت آمالنا ميتةً فلما نفحتنا منه الصبا بالنسيم رد روحًا في الأمل الميت.
وقوله:
والجراحات عنده نغمات ... سبقت قبل سيبه بسؤال
زعم أن الجراحات عند الممدوح نغمات تسبق من السؤال سيبه؛ أي يشق عليه ألا يكون سبق إلى المعروف قبل أن يطلب.
وقوله:
فخذا ماء رجله وانضحا في الـ ... ـمدان تأمن بوائق الزلزال
وامسحا ثوبه البقير على دا ... ثكما تشفيا من الأعلال
يقول: خذا الماء الذي يغسل به رجله وانضحاه في المدن. والنضح: إصابة بماء يكون قليلًا وكثيرًا, وهو هاهنا القليل. وجمع مدينةً على مدنٍ, وهذا يدل على أن الميم أصلية في المدينة, وأنها من مدن بالمكان إذا أقام به, ولو كانت زائدة لم يجز معها حذف الياء كما لا يجوز في معيشةٍ: معش. والزلزال إذا كسر أوله فهو مصدر, وإذا فتح فهو اسم. والبوائق: الدواهي. وامسحا ثوبه البقير؛ أي هو مبارك يستسعد بان يمسح ثوبه, وأن يصيب الإنسان شيء من ماء طهوره. والثوب البقير: يقال: إنه الذي لم تكمل خياطته, ويقال: البقير ثوب يشق ويلبس.
وقوله:
وله في جماجم المال ضرب ... وقعه في جماجم الأبطال
فهم لاتقائه الدهر في يو ... م نزالٍ وليس يوم نزال
استعار الجماجم للمال, وجعل هباته كضرب جماجمه, وحسن أن يستعير الجماجم للمال؛ لأن في آخر البيت جماجم الأبطال. يقول: يهب المال فيعلم الأبطال أنهم إذا أجروا إلى خطأ أو تعدوا على ضعيف كان قادرًا على معاقبتهم؛ وكف أيديهم بالقوم الذين يعطيهم ماله؛ فالأبطال معه طول زمنهم في نزالٍ وإن لم يكن ثم حرب ولا منازلة.
وقوله:
رجل طينه من العنبر الور ... د وطين العباد من صلصال
فبقيات طينه لاقت الما ... ء فصارت عذوبةً في الزلال
ادعى للممدوح أنه خلق من العنبر الورد, والعباد خلقوا من صلصال مسنونٍ, وهو كريه الرائحة. وزعم أن بقايا طيبه لاقت الماء فصارت عذوبةً فيه. والطيب ليس للعذوبة, وكان تشبيهه بغير ذلك أحسن في هذا الموضع؛ فلو قال: بقايا طيبه وافى زهر الربيع أو نحو ذلك؛ لكان أشبه من عذوبة الماء.
وقوله:
وبقايا وقاره عافت النا ... س فصارت ركانةً في الجبال
زعم أن بقايا وقار الممدوح عافت الناس؛ من قولهم: عفت الشيء إذا كرهته, وأكثر ما يستعمل ذلك في الطعام والشراب. قال الشاعر: [الوافر]
نزعت ثيابكم والقر مودٍ ... ومالي غير ما جلدي قميص
وعفتكم وفي بطني خماص ... وشر الزاد ما عاف الخميص
والركانة: مصدر قولهم: رجل ركين إذا كان حليمًا ثابتًا.
وقوله:
لست ممن يغره حبكم السلـ ... ـم وأن لا ترى شهود القتال
ذاك شيء كفاكه عيش شانيـ ... ـك ذليلًا وقلة الأشكال
يقول: لست أنا ممن يغره حبك السلم وأن لا ترى أن تشهد القتال؛ فيقول: ليس هو بشجاع؛ وإنما تركت شهود القتال (170/أ) لأنك لا تحتاج إليه, وقد فسر البيت بالذي بعده فقال: ذاك - أمر يعني تركه شهودالقتال - كفاكه ذل شانيك؛ أي مبغضك. وأصل شانيك الهمز. وأغناك عن ذلك أيضًا قلة أشكالك ونظرائك, وإنما يحارب الإنسان من يدانيه في العز والشجاعة.
وقوله:
واغتفار لو غير السخط منه ... جعلت هامهم نعال النعال
عطف اغتفارًا على قوله: قلة الأشكال وما قبله. والاغتفار: الافتعال من غفر الذنب؛ أي لو غير السخط اغتفارك لجعلت هام أعاديك نعالًا لنعال خيلك.
وقوله:
لجيادٍ يدخلن في الحرب أعرا ... ءً ويخرجن من دمٍ في جلال
أعراء جمع عريٍ. وقوله: يدخلن في الحرب أعراء؛ أي إنك لا توقي خيلك كما يفعل مشاهد الحروب؛ لأنهم يلبسون الخيل التجافيف, ويجتهدون في حمايتها من الرماح والسيوف والنبل. وقد استعملت العرب التجافيف في الشعر القديم, قال المسيب بن علس: [الطويل]
خلوا سبيل بكرنا إن بكرنا ... يجب سنام الأكلف المتماحل
هو الفيل يمشي خارجًا وسط عرعرٍ ... بتجفافه كأنه في سراول
ويقال: فرس مجفف إذا جعل عليه التجفاف, قال عبيد الله بن قيس الرقيات: [الوافر]
كأن مجففات الخيل فيه ... إذا مرت برازيقًا فيول
البرازيق: الجماعات من الناس, وهي في غير هذا الموضع من الفرسان.
وقوله:
واستعار الحديد لونًا وألقى ... لونه في ذوائب الأطفال
يقول: احمر الحديد بالدم فكأنه استعار لونًا غير لونه, وكأنه ألقى لونه في ذوائب الأطفال أي الشيب؛ لأن السيوف توصف بالبياض, وكذلك الشيب, ولهذا الوجه قال أبو عبادة: [الطويل]
وددت بياض السيف يوم لقينني ... مكان بياض الشيب لاح بمفرقي
وقافيتها من المتواتر.









مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید