المنشورات

إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكل فصيحٍ قال شعرًا متيم

الوزن من ثاني الطويل.
والمعنى: أن الشعراء جرت عادتهم أن يقدموا النسيب في أول القصيدة في المدح والهجاء والافتخار, وإنما ذلك سنة يستعملها أصحاب النظام. والمتيم: المستعبد, ومنه قالوا: تيم الله أي عبده.
وقوله:
فجاز له حتى على الشمس حكمه ... وبان له حتى على البدر ميسم
هذا مبالغة, وكأنها تستحسنها الشعراء, وكان يجب على الممدوح أن ينكرها لأنه مخلوق يوصف بصفة الخالق؛ تعالى الله عن قول المبطلين؛ فجاز له حكمه حتى على الشمس, وبان له ميسم حتى على البدر.
وقوله:
ضروب وما بين الحسامين ضيق ... بصير وما بين الشجاعين مظلم
يقول: هذا الممدوح يضرب إذا دنا القرن من القرن, وقد قرب كل واحد منهما من صاحبه, فالمكان بينهما ضيق.
وقوله: بصير وما بين الشجاعين مظلم: إذا ستر الغبار نور الشمس فأظلم ما بين الشجاعين فبصره ثابت لم يمنعه إظلام الوقت من صحة النظر. ويجوز أن يكون قوله: وما بين الشجاعين مظلم؛ أي كل واحد منهما قد وقع في أمر عظيمٍ, ومن شأن الناس أن يقولوا: أظلمت الدنيا بيني وبين فلانٍ, إذا كلمه بكلام يشق عليه, وإنما لم يكن ثم ظلام مرتفع ولا غيره.
وقوله:
تباري نجوم القذف في كل ليلةٍ ... نجوم له منهن ورد وأدهم
يعني بنجوم القذف النجوم التي يقال إنها رجوم للشياطين؛ وإنما يعني أن خيله سريعة بسرعة النجوم وليست ألوانها كألوانها, لأن الخيل منها الورد ومنها الأدهم, وغير ذلك.
وقوله:
يطأن من الأبطال من لا حملنه ... ومن قصد المران ما لا يقوم
يعني بمن لا حملنه: من لم يحملنه, وقد تردد مثل هذا في شعره. والقصد: الكسر من القنا والعصي. ويقال: عامل مقصود؛ أي مكسور. قال: [الخفيف]
فدعا دعوة المخنق والتلـ ... ـبيب منه في عاملٍ مقصود
والمران: أصول الرماح, ثم سميت الرماح مرانًا.
وقوله:
فهن مع السيدان في البر عسل ... وهن مع النينان في الماء عوم
السيدان: جمع سيدٍ, وهذه اللفظة مما تساوت فيه التثنية والجمع, وعسل: جمع عاسل؛ يقال: ذئب عاسل وعسال, والاسم العسل. قال الراجز: [الرجز]
والله لولا وجع بالعرقوب ... لكنت أبقى عسلًا من الذيب
وقال الفرزدق: [الطويل]
وأطلس عسالٍ وما كان صاحبًا ... دعوت لناري موهنًا فأتاني
والنينان: جمع نون وهي السمكة. قال الأعشى: [الخفيف]
محقبًا زكرةً وخبز رقاقٍ ... وحباقًا وقطعةً من نون
وقيل: إن سيبويه عاب على بشار قوله: النينان في بعض شعره, وفي كتاب سيبويه أن النون تجمع على نينان, وهذا تناقض في الحكاية.
وقوله (184/ب):
وهن مع الغزلان في الواد كمن ... وهن مع العقبان في النيق حوم
كثر الوادي في كلامهم حتي حذفوا منه الياء والأجود إثباتها مع الألف واللام؛ كما قال سحيم: [الطويل]
ألا أيها الوادي الذي ضم سيله ... إلينا نوى الحسناء بوركت واديا
وأما قولهم: [الرجز]
إنك لو ذقت الكشى بالأكباد ... لما تركت الضب يعدو بالواد
فإنمنا حذفوا الياء للقافية. والكشى: جمع كشيةٍ, وهي شحمة تستطيل في بطن الضب. ومن كلامهم الموزون: [الرجز]
عندي دواء الهدبد ... كشية ضب بكبد
الهدبد: العشى في العين.
وقوله:
إذا جلب الناس الوشيج فإنه ... بهن وفي لباتهن يحطم
الوشيج: أصول الرماح, والوشيج أيضًا: نبت. قال كثير: [الطويل]
أحبك ما دامت بنجدٍ وشيجة ... وما خلدت أبلى به وتعار
وما سال وادٍ في تهامة طيب ... به قلب عادية وكرار
الكرار: جمع كر, وهو الغدير.
وقوله:
أجار على الأيام حتى ظننته ... تطالبه بالرد عاد وجرهم
يقول: هذا الممدوح أجار على الأيام من تريد إهلاكه حتى ظننت عادًا وجرهمًا - وهما من العرب العاربة تطالبه - بالرد, وهذا افتراء من القول, والله سبحانه غفور رحيم.
وقوله:
ضلالًا لهذي الريح ماذا تريده ... وهديًا لهذا السيل ماذا يؤمم
نصب ضلالًا على المصدر كأنه قال: أقول: أضلت الريح ضلالًا؛ أي أي شيء تريده. وإنما بنى هذا المعنى على قول الناس: هو يباري الريح جودًا إذا وصفوه بالكرم؛ أي إنها إن هبت تباريك فقك ضلت؛ كأنه دعا عليها بالضلال. وقال: هديًا لهذا السيل؛ كأنه دعا له بالاهتداء؛ كأنه قال: أقول: هديًا لهذا السيل؛ أي هداه الله ماذا يؤمم؛ أي ماذا يقصد.
وقوله:
ألم يسأل الوبل الذي رام ثنينا ... فيخبره عنك الحديد المثلم
كأنه أنكر على الوبل ما هو فيه وجعله قد أراد ثنيهم عما يريدون, فقال: ألم يسأل هذا الوبل الحديد المثلم عنك, فيخبره أنه لم يقدر على ردك, فكيف يقدر المطر على رد من لم يقتدر الحديد على رده؛ لأنه لما أراد ذلك تثلم.
وقوله:
ولما تلقاك السحاب بصوبه ... تلقاه أعلى منه كعبًا وأكرم
يقال: فلان أعلى كعبًا من فلان, وأصل ذلك في الآدميين, وأول ما استعمل ذلك في المتصارعين؛ لأن كعب الغالب منهما يكون أعلى من كعب المغلوب, ثم استعمل هذا اللفظ في كون الإنسان أرفع من صاحبه وإن لم يكن ثم صراع. وأنشد أبو زيد: [الطويل]
أبا قطري لا تصارع فإنني ... أرى غيرك الأعلى وإياك أسفلا
أراك إذا صارعت قرنًا سبقته ... إلى الأرض واستسعت للذل أولا
وقوله:
حواليه بحر للتجافيف مائج ... يسير به طود من الخيل أيهم
يقال: جبل أيهم لا يهتدى للطلوع فيه, وأرض يهماء لا يهتدى للسير فيها. والأيهمان لهما تفسيرا؛ يقول أصحاب الرواية: الأيهمان في البادية: السيل والفحل الهائج, وفي الحاضرة: السيل والحريق.
وقوله:
وكل فتى للحرب فوق جبينه ... من الضرب سطر بالأسنة معجم
يقول: الضربة كأنها سطر في الجبين, وكأن آثار الأسنة في هذا السطر نقط فيه من قولهم: عجمت الكتاب إذا نقطته.
وقوله:
يمد يديه في المفاضة ضيغم ... وعينيه من تحت التريكة أرقم
المفاضة: الدرع الواسعة, والتريكة: البيضة من الحديد, وهي التركة أيضًا, وإنما شبهت ببيضة النعام. قال لبيد: (185/أ) [الرمل]
فخمةً ذفراء ترتى بالعرى ... قردمانيًا وتركًا كالبصل
وقوله:
كأجناسها راياتها وشعارها ... وما لبسته والسلاح المسمم
يريد أن في الجيش راياتٍ مختلفات الشكول, وكذلك الشعار الذي فيه مختلف؛ لأنه يدعي أن فيه قبائل بعضهم يقول: يا ل عقيل, ومنهم من يقول: يا ل تميم, وغيرها. وهذا يشابه قوله: [الوافر]
تناكر تحته لولا الشعار
والمسمم: يجوز أن يكون من السم, ويجوز أن يكون من: سممت الشيء إذا أصلحته.
وقوله:
وأدبها طول القتال فطرفه ... يشير إليها من بعيدٍ فتفهم
يقول: هذه الخيل قد أدبها طول القتال فهي تفهم ما يريد الممدوح إذا أشار إليها بطرفه فكلها يعقل. وقد تزجر الخيل بأصوات وتحث على السرعة بأشياء تعرفها كقولهم: أجد وهجد وهاب وهلا وهقط. قال الراجز: [الرجز]
لما سمعت قولهم هقط ... أيقنت أن فارسًا محتطي
ومن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
أخفضه بالنقر لما علوته ... وأرفع طرفي في فضاءٍ عريض
والنقر: صويت يقوله الفارس إذا ركب الفرس, وقد يستعمل النقر في الإبل, وقد فسر أبو الطيب هذا البيت بالذي بعده وهو قوله:
تجاوبه فعلًا وما تسمع الوحى ... ويسمعها لحظًا وما يتكلم
الوحى هاهنا: الصوت, وكأنه يعني به ما خفي من الأصوات, لأن الوحى يستعمل في مواضع كثيرة؛ فيقال: وحى الله وأوحى إذا ألهم, ووحى الكاتب إذا كتب. وأوحى الرجل إلى صاحبه إذا أسر إليه أو أومأ. وقيل: موت وحي أي سريع؛ أي يكون في مدة قصيرة كأنها إيماء. وقالوا: الوحى في معنى العجلة؛ فقيل: إن الملك يوصف بوحى لسرعة أمره, وعلى ذلك فسروا قول الشاعر: [الكامل]
وعلمت أني إن علقت بحبله ... وصلت يداي إلى وحى لم يصقع
وقوله:
تجانف عن ذات اليمين كأنها ... ترق لميافارقين وترحم
تجانف: أي تمايل عن ذات اليمين؛ أي من الناحية التي من جانب أيمانها؛ لأن ميافارقين كانت في ذات اليمين. وترق من قولهم: رق الرجل لولده أو غيره إذا أشفق عليه. وقد ذكرت ميافارقين في الشعر القديم, وإنما يجب أن يكون ذلك بعد الإسلام. قال الشاعر: [الطويل]
فإن يك في كيل اليمامة عسرة ... فما كيل ميافارقين بأعسرا
وإنما زعم الشاعر أن الخيل تجانف عن ميافارقين لأن فيها قبر أم سيف الدولة.
وحدث رجل كان يتعصب لأبي الطيب, وله كتاب في ذكر محاسنه, أن سيف الدولة قال له بميافارقين: من عنيت بقولك:
ولما عرضت الجيش كان بهاؤه ... على الفارس المرخي الذؤابة منهم
فقال أبو الطيب: عنيت نفسي, فقال له سيف الدولة: وإلا فعليك لعنة الله.
وقوله:
ولو زحمتها بالمناكب زحمةً ... درت أي سورينا الضعيف المهدم
الهاء في زحمتها عائدة على ميافارقين. يقول: لو زحمت الخيل بمناكبها ميافارقين درت أي سورينا - في درت ضمير يعود على ميافارقين - يقول: لو زحمتها خيلنا لهدمت سورها؛ لأنها أشد منها بأسًا, وهذا يشبه صفة الجيش بأنه كالجبال لما قال:
تساوت به الأقطار حتى كأنه ... يجمع أشتات الجبال وينظم
وقوله:
على كل طاوٍ تحت طاوٍ كأنه ... من الدم يسقى أو من اللحم يطعم
يقول: الفرسان كلهم طاوٍ؛ من قولهم: طوى الرجل إذا لم يأكل شيئًا. على كل طاوٍ؛ أي على كل فرسٍ لم يرع ولا علق عليه عليق. يقال: هو طاوٍ بين الطوى بفتح الطاء, وحكاه سيبويه بالكسر وأجراه مجري السمن والشبع, وأنشد بيت عنترة: [الكامل]
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل
والمراد أن هذه الخيل وفرسانها كأنها تسقى من دماء القتلى وتطعم من لحومها. وذهب قوم إلى أنها كالتي تأكل من لحوم أنفسها وتشرب من دمائها. ولا يحتمل هذا (185/ب) القول غرض الشاعر؛ لأن صفتها بأنها كالآكلة لحوم الأعداء والشاربة من دمائهم أبلغ في المديح, وأما القول الآخر فيحسن إذا كان في صفة إبلٍ مسافرةٍ لا يقصد بها الحرب كما قال الراجز: [الرجز]
وبلدةٍ باتت على حزومها ... شاكية الأكوار من لزومها
كأنها ترتع في لحومها
أي كانت إبلًا سمينة فطال سيرها, فهي لا تجد مرعى, فهي تصبر ولحومها تنقص وكأنها تأكل من سمنها القديم.
وقوله:
لها في الوغى زي الفوارس فوقها ... فكل حصان دارع متلثم
يقول: هؤلاء الفوارس قد لبسوا الحديد ليدفعوا به سلاح الأعداء, وصانوا خيلهم بما يقدرون عليه, وكأن كل حصانٍ دارع؛ أي عليه درع. والخيل لا توصف بلبس الدروع وإنما تصان بالتجافيف؛ فجعلها كالدروع في هذا الموضع لأنها السبب إلى الصيانة. واعتذر الشاعر بعد هذا البيت للفوارس باحترازهم من الموت فقال:
وما ذاك بخلًا بالنفوس على القنا ... ولكن صدم الشر بالشر أحزم
قوله: وما ذاك إشارة إلى الفعل الذي فعله الفرسان من التحرز, وما فعلوه خوفًا من الموت ولكن صدم الشر بمثله أحزم.
وقوله:
أتحسب بيص الهند أصلك أصلها ... وأنك منها؟ ساء ما تتوهم
يستفهم سيف الدولة وهو عالم بما يريد؛ يقول: إن ظنت سيوف الهند أن أصلك أصلها فقد توهمت توهمًا فاسدًا؛ لأنك أجل من أن تكون منها. وقد ادعى بعد ذلك دعوى تستحسن في الشعر؛ وهي كذب لا محالة؛ لأنه قال:
إذا نحن سميناك خلنا سيوفنا ... من التيه في أغمادها تتبسم
وقوله:
ولم نر ملكًا قط يدعى بدونه ... فيرضى ولكن يجهلون وتحلم
الهاء في دونه عائدة على سيف الدولة, واستعمل دون هاهنا كاستعمال الأسماء, وإنما هي ظرف - والتقدير: بشيءٍ دونه - وإنما يستعملون في موضع الاسم إذا لم تكن مضافةً كقول القائل: [المتقارب]
إذا ما علا المرء رام العلا ... ويقنع بالدون من كان دونا
وقوله:
أخذت على الأرواح كل ثنيةٍ ... من العيش تعطي من تشاء وتحرم
فلا موت إلا من سنانك يتقى ... ولا رزق إلا من يمينك يقسم
هذه مبالغة يجب على سامعها أن يستغفر الله ويعوذ به منها. والثنية: المطلع في الجبل. زعم أن هذا الممدوح أخذ على الأرواح كل الطريق فهو يعطي من شاء أن يعطيه ويحرم من أراد أن يحرمه. وزعم أن الموت - على اختلاف أصنافه - إنما يجيء من سنانه, وأن الرزق يقسم من يمينه. وإن ذلك لهو الافتراء المبين. وقافيتها من المتدارك.










مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید