المنشورات

ذكر الصبا ومرابع الآرام ... جلبت حمامي قبل وقت حمامي

الوزن من ثاني الكامل.
قوله:
وكأن كل سحابةٍ وقفت بها ... تبكي بعيني عروة بن حزام
خص عروة لأنه موصوف بالصبابة وشدة الشوق, وهذا البيت كالناظر إلى قول الطائي: [الطويل]
كأن السحاب الغر غيبن تحتها ... حبيبًا فما ترقا لهن مدامع
وقوله:
قد كنت تهزأ بالفراق مجانةً ... وتجر ذيلي شرةٍ وعرام
قال في أول القصيدة: جلبت حمامي, ثم لم يزل يخبر عن نفسه حتى قال: قد كنت تهزأ بالفراق؛ فترك الإخبار بالياء وخرج إلى المخاطبة؛ وإنما يخاطب نفسه, وذلك معروف في الشعر وغيره. والناس يستعملون المجانة في معنى الهزء بالشيء والتهاون به. يقولون: فلان ماجن إذا كان مسرفًا في اللهو والقول لما لم يكن. وأما أهل العلم فيقولون: مجن إذا مرن على الشيء. يقول لنفسه: قد كنت تجر ذيلي شرةٍ وعرام؛ أي في أول أمرك؛ ثم انتقلت عن ذلك إلى سواه.
وقوله:
ليت الذي خلق النوى جعل الحصى ... لخافهن مفاصلي وعظامي
(186/أ) الهاء في خافهن عائدة إلى الركاب. والخف يستعمل للإبل, ويستعار للنعام, ويقال للجمل المسن: خف. قال الراجز: [الرجز]
أعطيت عمرًا بعد بكرٍ خفا ... والدلو قد تسمع كي تخفا
يقال: أسمعت الدلو إذا شددت أسفلها لتخفز يقول: ليت الذي خلق النوى - أي البعد - جعل مفاصلي وعظامي تطؤها الركاب كوطئها الحصى, وهذه أمنية غير صادقٍ فيها الزاعم.
وقوله:
لو كن يوم جرين كن كصبرنا ... عند الرحيل لكن غير سجام
يقول: دموعنا غزيرة وكثيرة فلو كان كصبرنا يوم الرحيل لكن قائلا لا يجرين.
وقوله:
لم يتركوا لي صاحبًا إلا الأسى ... وذميل دعلبةٍ كفحل نعام
يقال: ناقة ذعلب وذعلبة إذا كانت سريعة. قال النابغة: [الطويل]
ذكرت سعادًا فاعترتني صبابة ... وتحتي مثل الفحل وجناء ذعلب
ويعني بفحل النعام: الظليم, والناقة تشبه بالنعامة, وبالثور الوحشي, والبقرة الوحشية, وحمار الوحش.
وقوله:
أنت الغريبة في زمانٍ أهله ... ولدت مكارمها لغير تمام
الغريبة: يعني الدرة الغريبة في زمانٍ ولدت مكارم أهله لغير تمامٍ. واستعار الولادة هاهنا للمكارم؛ وإنما أراد تشبيهها بالأولاد الذين يولدون من قبل أن تتم شهور الحمل؛ قال الشاعر: [الكامل]
أعجلن مجهضةً لستة أشهرٍ ... وحذين من بعد النعال نعالا
وقال الراجز يصف نوقًا ألقين أولادهن: [الرجز]
يتركن بالمهامه الأفعال ... كل جنين خلق السربال
حي الشهيق ميت الأوصال
والناقة تلد لسنةٍ؛ فإذا زادت على ذلك حمدت الزيادة وقيل هي منضجة. قال الشاعر يصف جملًا: [الوافر]
هو ابن منضجات كن قدمًا ... يزدن على العديد قراب شهر
ولم يك بابن كاسفة الضواحي ... كأن غرورها أعشار قدر
قوله: كاسفة الضواحي؛ يعني أن لونها يضرب إلى السواد. والورق من الإبل يصفونها بالبطء في السير. يقول: هذا الجمل من ناقةٍ كريمةٍ ليست ورقاء ولا رمكاء. وغرورها: جمع غر, وهو أثر التكسر في جلدها.
وقوله:
صغرت كل كبيرةٍ وكبرت عن ... لكأنه وعددت سن غلام
يقول: إنه صغر كل كبيرة لأن الناس إذا نظروا إلى أفعاله استصغروا ما يفعله غيره.
وقوله: وكبرت عن لكأنه يشبه قوله: [الطويل]
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه ... فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
أراد أنه يكبر عن التشبيه وأن يقول القائل: كأنه الأسد وكأنه السحاب ونحو ذلك. وأدخل لام الابتداء على كأن, وذلك قليل جدًا, والقياس يمنع منه لأنه الكاف أول كلامٍ. وقولهم: كأن زيدًا عمرو مؤدٍ معنى قولك: كزيدٍ عمرو؛ فجاز دخول اللام على الكاف كما جاز دخولها في قولك: لفلان أفضل من فلانٍ. ثم ختم البيت بقوله: وعددت سن غلام؛ أي إنك شاب مع فعلك هذه الأفعال العظام.
وقوله:
ورفلت في حلل الثناء وإنما ... عدم الثناء نهاية الإعدام
استعار الحلل للثناء, وجعل الممدوح يرفل فيهن؛ وإنما يرفل الإنسان في ثيابه إذا طالت عليه. وسموا حصاة القسم التي يقسم عليها الماء في السفر: رافلةً؛ لأن الماء يغمرها, فكأنها ترفل فيه. وقالوا: رفل بنو فلانٍ فلانًا إذا سودوه؛ يريدون أنهم عظموه فطول ثيابه فهو يرفل فيها. قال ذو الرمة: [الطويل]
إذا نحن رفلنا امرأً ساد قومه ... وإن لم يكن من قبل ذلك يذكر
وقوله:
عيب عليك ترى بسيفٍ في الوغى ... ما يصنع الصمصام بالصمصام
قد تردد في شعر أبي الطيب حذفان في مواضع الإثبات كقوله: عيب عليك ترى وإنما الكلام: أن ترى, وقد مر ذكر ذلك. والصمصام: السيف القاطع. والذين يقولون: إن أصل رقرق: رقق, وأصل تجفجف الورق: تجفف؛ يذهبون إلى أن أصل الصمصام مأخوذ من صمم السيف إذا قطع ولم يصب مفصلًا, وكان الأصل عندهم: صمم فجعلت إحدى الميمات صادًا كما قالوا: ترقرق الدمع, والأصل ترقق. يقول: (186/ب) أنت سيف فما تصنع بسيفٍ مثلك؟ وأحسن من هذا المعنى قوله في الأخرى: [البسيط]
انظر إذا اجتمع السيفان في رهجٍ ... إلى اختلافهما في الخلق والعمل
وقوله:
ملك زهت بمكانه أيامه ... حتى افتخرن به على الأيام
قال: زهت وهو يريد زهيت؛ وقد حكي: زها الرجل إذا ظهر فيه زهو, والقياس لا يمنع ذلك, وإذا وجد لزهت وجه فهو أحسن من زهت على ما لم يسم فاعله, وهي لغة طائية توجد كثيرًا في شعر طيئ وغيرهم. قال الشاعر: [الطويل]
ألا من رأى قومي كأن رجالهم ... نخيل أتاها عاضد فأمالها
أدفن قتلاها وآسو جراحها ... وأعلم ألا بد مما منى لها
أي مني لها. وهذا الشعر ينشد على لغة طيئ لما لم يسم فاعله, وذلك قوله: [الطويل]
فما وجدوا عصم بن عمروٍ بجبأٍ ... ولا ناظرًا سطر المقات إذا لقى
يريد: لقي.
ولكنه أشغى أصم مثقف ... يكرر إن نادى ويصمت إن دعى
الأشغى: المختلف الأسنان, والمثقف: الطويل في انحناء. وهو أصم لا يسمع فيظن أن الناس مثله, وإذا قال: يا فلان كرر النداء, وإذا دعي صمت لأنه لم يسمع.
وقوله:
مهلًا ألا لله ما صنع القنا ... في عمرو حاب وضبة الأغتام
حاب: أراد حابس فرخم في غير النداء. وبعض النحويين يجيز أن يرخم المنادى الذي يحمل على قولهم: يا حار في الشعر, ولايجيز الترخيم على قول من قال: يا حار, وبيت جرير ينشد على وجهين, وهو قوله: [الوافر]
ألا أضحت حبالكم رماما ... وأضحت منك شاسعةً أماما
وهذا ترخيم في غير النداء على مذهب من قال: يا حار, وكان محمد بن يزيد ينشد: [الوافر]
وما عهد كعهدي يا أماما
واختلفوا في قول ابن أحمر: [الوافر]
أبو حنشٍ يؤرثنا وطلق ... وعباد وآونةً أثالا
أراد: أثالة, وادعى من رفع هذا القول أن أسماء الرجال إنما جاء فيها أثال بغير هاء, وقبل هذا البيت: [الوافر]
أرى ذا شيبةٍ منهم كريمًا ... وآخر مثل صدر السيف نالا
ثم ذكر رجالًا فارقهم أو ماتوا فسماهم, وهم: أبو حنشٍ وطلق وعباد وأثالة. وأصحاب القول الآخر يزعمون أن قوله: أثالا معطوف على الألف والنون في قوله: يؤرقنا, واختلفوا في قول الآخر: [البسيط]
أودى ابن جلهم عباد بصرمته ... إن ابن جلهم أمسى حية الوادي
فذهب قوم إلى أنه أراد جلهمة فرخم في غير النداء على مذهب من قال: يا حار. وقال قوم: جلهم اسم أمه, ولم يصرفها للتأنيث. والأشبه بمذهب العرب أن يكون الترخيم على قول من قال: يا حار جائزًا في غير النداء لاسيما مع هاء التأنيث لأنهم يستجيزون حذفها كثيرًا؛ فأما قول زهير: [الطويل]
خذوا حذركم يا آل عكرم واذكروا ... أواصرنا والرحم بالغيب تذكر
فلا شك أنه أراد عكرمة بن خصفة بن الياس بن مضر فحذف الهاء, ويجوز أن يكون جعله اسم قبيلة فلم يصرفه.
والأغتام: كلمة يوصف بها الأغبياء الجهال, وهو مأخوذ من قولهم: يوم غتمٍ إذا كان يوم حر شديد. قال الراجز: [الرجز]
حرقها الحمض بأرض فل ... وغتم نجمٍ غير مستقل
فما يكاد نيبه يولي
وقوله:
وذراع كل أبي فلانٍ كنيةً ... حالت فصاحبها أبو الأيتام
يقول: تركت في هذه الأرض ناسًا مقتلين كأنهم أحجار, وفيها نجوم بيضٍ في سماء قتامٍ. وذراع كل أبي فلان؛ أي قتل من كان يكنى فصارت كنيته أبا الأيتام. ونصب كنيةً على الحال, ويجوز أن تنصب بإضمار أعني.
وقوله:
وكساك ثوب مهابة من عنده ... وأراك وجه شقيقك القمقام
يقال لابن الرجل: شقيقه لأن نسبه شق من نسبه. والقمقام: أصله في البحر يراد به كثرة الماء, ثم قيل للرجل السخي العظيم الشأن: قمقام.
وقوله: (187/أ)
فلقد رمى بلد العدو بنفسه ... في روق أرعن كالغطم لهام
في روق أرعن؛ أي في أوله, والغطم: البحر الكثير الماء, ولم يصرفوا منه الفعل.
وقوله:
قوم تفرست المنايا فيكم ... فرأت لكم في الحرب صبر كرام
قوم: جمع قائم كما قيل: راكب وركب, وأصل ذلك في الرجال, لأنهم الذين يقومون في الأمور دون النساء. وقامة الرجل: أعوانه الذي يقومون معه في الأمر. قال الراجز: [الرجز]
وقامتي ربيعة بن كعب ... حسبك ما عندهم وحسبي
فأما القامة في غير هذا الموضع فهي البكرة وآلتها. قال الراجز: [الرجز]
ألا فتًى يعيرني عمامه ... أحرق كفي رشأ القامه
وقال زهير في أن القوم الرجال دون النساء: [الوافر]
وما أدري وسوف إخال أدري ... قوم آل حصنٍ أم نساء
ولو صغرت قومًا لقلت: قويم كما تقول: ركب وركيب. قال الراجز: [الرجز]
بنيته بنيةً من ماليا ... أخشى رجيلًا أو ركيبًا عاديا
ومن قال في تصغير ركبٍ: ركيبون جاز أن يقول في تصغير قومٍ: قويمون, وقالوا في الجمع: أقوام, وجمعوا الجمع فقالوا: أقاوم وأقاويم. قال الشاعر: [الطويل]
فإن يعذر القلب العشية في الصبا ... فؤادك لا يعذرك فيه الأقاوم
ويروى: الأقايم. وقافيتها من المتواتر.









مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید