المنشورات

عقبى اليمين على عقبى الوغا ندم ... ماذا يزيدك في إقدامك القسم

الوزن من أول البسيط.
المثل القديم: اليمين حنث أو مندمة, وكأن مراد الشاعر أن عقبى يمين الحانث على عقبى الوغا - أي ما تعقبه الحرب - ندم؛ لأنه لا يدري ما يكون. فكأنه يشير بترك الحلف لأن فعل الإنسان ما يريد لا يفتقر إلى يمينٍ؛ فإذا حلف أنه يفعل فإنه لا يعلم بأي شيء يجري القضاء.
وقوله:
وفي اليمين على ما أنت واعده ... ما دل أنك في الميعاد متهم
إذا كان الرجل عند صاحبه في صورة صادق فقال له: لأفعلن كذا؛ فقد غني عن اليمين؛ وإنما يحتاج إلى الحلف إذا ظن المحلوف له أنه غير صادقٍ فيما زعم.
وقوله:
آلى الفتى ابن شمشقيقٍ فأحثنه ... فتى من الضرب ينسى عنده الكلم
قوله: الفتى في صفة ابن شمشقيق كأنه هزؤ؛ أي: إنه ليس كذلك, وإنما جاء بذكره في أول البيت لأنه (193/أ) ذكر فتى في آخره, وهو يريد الممدوح أيضًا؛ فقد يقول القائل إذا ذكر عنده البخيل: ذلك الرجل الكريم, والسامع يعلم أنه يريد غير ذلك. يقول: آلى ابن شمشقيق فأحنثه فتى ينسى عنده الكلم من الضرب بالسيوف. والهاء في «عنده» راجعة على فتى الذي هو في آخر البيت.
وقوله:
وفاعل ما اشتهى يغنيه عن حلفٍ ... على الفعال حضور الفعل والكرم
وفاعل: نسق على فتى ينسى عنده الكلم, وفاعل ما اشتهى من الأمور, والوصفان للمدوح كما يقال: جاءني رجل حر ثقة وصادق. والمعنى بذلك واحد؛ أي هذا الرجل قد جمع هذه الأوصاف. وقوله: يغنيه عن حلفٍ: الهاء راجعة إلى فاعل؛ أي يغنيه أن يحلف؛ لأن الإنسان إنما يقسم على الشيء قبل أن يفعله, مثل أن يقول: والله لأقومن؛ اليمين وقعت قبل القيام.
وقوله:
كل السيوف إذا طال الضراب بها ... يمسها غير سيف الدولة السأم
ادعى أن السيوف تسأم إذا طالت المضاربة بها, وإنما يريد أنها تثلم وتحطم؛ فلو أنها تسأم لشكت ذلك, والشعراء يقدمون على ادعاء الأشياء المستحيلة, وهذا نحو قوله:
فقد مل ضوء الصبح مما تغيره ... ومل سواد الليل مما تزاحمه
وإنما أراد أنها تكثر الغارة في الصبح والسرى في الليل إكثارًا يمل مثله من يحس, وأما الصبح والظلام فما يشعران بما يكون فيهما من أفعال الآدميين.
وقوله:
لو كلت الخيل حتى ما تحمله ... تحملته إلى أعدائه الهمم
يقول: لو أن الخيل كلت حتى لم تستطع حمله إلى الأعداء لحملته إليهم الهمم, ولسي هذا المعنى مستحيلًا استحالة غيره؛ لأن كثيرًا من الناس يقصد عدوه وليس بالراكب, وقد كانت جماعة من العرب تغير على أرجلها كالشنفرى وتأبط شرًا والسليك بن السلكة.
وقوله:
أين البطاريق والحلف الذي حلفوا ... بمفرق الملك والزعم الذي زعموا
يقول: أين البطاريق وأيمانهم التي حلفوها بمفرق ملكهم؛ فلم يفوا بشيء منها؟ وهذه الأبيات شرح للبيت الأول.
وقوله:
ولى صوارمه إكذاب قولهم ... فهن ألسنة أفواهها القمم
في ولى ضمير يرجع إلى الممدوح, وجعل السيوف كالألسنة نطقت بإكذاب الأيمان, وجعل القمم لها أفواهما. والقمة: أعلى الرأس. والمعنى: أن السيوف لما وقعت في الرؤوس كانت كالألسنة نطقت بإكذاب الحالفين.
وقوله:
الراجع الخيل محفاة مقودة ... من كل مثل وبار أهلها إرم
الراجع الخيل: يعني به الممدوح؛ قد أحفاها السير فهي تقود ليزول عنها ذلك. و «وبار»: موضع كان مسكونًا ثم خلا من أهله, والعرب تضرب به المثل في البعد. وإرم هو: أبو عاد بن إرم سام بن نوح. والمثل يضرب بإرم في الفناء. قال الراجز: [الرجز]
من يلقني يود كما أودت إرم أي: خيل هذا الممدوح ترجع عن البلد الذي غزاه وهو مثل وابر خالٍ وأهله مثل إرم هالكون. وقال الأعشى: [مخلع البسيط]
إن لقيمًا وإن قيلًا ... وإن لقمان حيث ساروا
لم يتركوا بعدهم عريبًا ... فحدثت إثرهم نزار
ومر دهر على وبار ... فهلكت جهرة وبار
وقوله:
كتل بطريقٍ المغرور ساكنها ... بأن دارك قنسرون والأجم
شبه البلد الذي يغزوه بوبار, وأهله بإرم, ثم ذكر الموضع المغزو؛ وإنما هو موضع مثل به غيره. والهاء في ساكنها راجعة إلى تل بطريق, وأنثها على معنى البلدة والمدينة, ولو ذكر الضمير جاز. وقنسرون قد وافقت من العربية قوله: رجل قنسري أي مسن كبير.
قال الراجز: [الرجز]
أطربًا وأنت قنسري ... والدهر بالإنسان دواري
ويجوز أن يكون قنسرون في الرفع بواوٍ وفي النصب والخفض بياءٍ, ويجوز أن تقر الياء على حالها في الوجوه الثلاثة (193/ب) وتضم النون في حال الرفع, وتفتح في حال النصب والخفض. والأجم: شجر ملتف تكون فيه الأسد.
وقوله:
وظنهم أنك المصباح في حلبٍ ... إذا قصدت سواها عادها الظلم
يقول: ظنت الأعداء أنك مثل المصباح في حلب ومتى فارقتها أظلمت بلادها. ولم يكن الأمر كما ظنوه, ولست كالمصباح الذي يضيء موضعًا واحدًا, وإنما أنت كالشمس تعم كل بلدٍ بالضياء. وقد بين الغرض بقوله:
والشمس يعنون إلا أنهم جهلوا ... والموت يدعون إلا أنهم وهموا
وقوله:
فلم تتم سروج فتح ناظرها ... إلا وجيشك في جفنيه مزدحم
استعار لسروج ناظرًا وجعل له جفنين؛ وإنما يصف الممدوح بأنه أنجدهم إنجاذًا سريعًا؛ فكأن سروج لم تفتح ناظرها إلا وجيشك مزدحم في جفنيه.
وقوله:
والنقع يأخذ حرانًا وبقعتها ... والشمس تسفر أحيانًا وتلتثم
يقال: بقعة وبقعة وهي الموضع الواسع من الأرض. ويقال: ذهب فلان فما يدرى أين بقع؛ أي في أي بقعة من الأرض وقع. ويقال: سفرت المرأة خمارها إذا أزالته عن وجهها, واستعار ذلك للشمس, وجعل الغبار كاللثام. قال توبة بن الحمير: [الطويل]
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
وقوله:
سحب تمر بحصن الران ممسكة ... وما بها البخل لولا أنها نقم
شبه خيله وغبارها بالسحب فهي تمر بحصن الران ممسكة, وليس إمساكها من بخل, ولكنها نقم؛ فهي لا تمطر إلا في أرض العدو.
وقوله:
جيش كأنك في أرضٍ تطاوله ... فالأرض لا أمم والجيش لا أمم
يقول: كأنك في أرض تطاوله وهي واسعة جدًا, وعدد الجيش كثير فكلاهما غير أمم. والأمم: الشيء بين الشيئين, يقال: دار بني فلان أمم؛ أي: بين القريب والبعيد. قال الشاعر: [الهزج]
أطرقته أسماء أم حلما ... أم لم تكن من رحالنا أمما
وقوله:
إذا مضى علم منها بدا علم ... وإن مضى علم منه بدا علم
العلم من الأرض مثل الجبل, والعلم: علم الجيش معروف, وكلاهما من العلامة لأنه مؤد إلى العلم بالشيء. ولو قال: وإن بدا عالم منه بدا علم لكان أحسن في حكم الشعر, ولعل أبا الطيب كذلك قال لأن تكرير العلم في البيت كثير, وقوله في صفة الجيش: وإن بدا عالم يقلل تردد العلم, ويدل على كثرة الجيش.
وقوله:
وشزبٍ أحمت الشعرى شكائمها ... ووسمتها على آنافها الحكم
الشعرى: نجم يطلع في شدة الحر, وتنسب العرب إليها ذلك؛ فيقولون: يوم من أيام الشعرى. قال الشنفرى: [الطويل]
ويومٍ من الشعرى يذوب لعابه ... أفاعيه في رمضائه تتململ
وقوله: يذوب لعابه كقول الراجز: [الرجز]
وذاب للشمس لعاب فنزل ... وقام ميزان النهار فاعتدل
وهما شعريان: الشعرى العبور, وهي أضوأهما, والشعرى الغميصاء, وهي أقل منها صوءًا, ويقال: غميضاء بالضاد.
ومن أحاديث الأعراب أن الشعريين أختا سهيل. الشعرى العبور قد عبرت المجرة فهي تراه, وقد استعبرت من البكاء. والغميصاء لم تعبر المجرة فقد أغمصها بكاؤها؛ أي: جعل فيها غمصًا, وهو مثل الرمص. وإذا شبهت المرأة بالشعرى فإنما تعنى بها الشعرى العبور لأنها ذات الضياء والنور. قال الشاعر: [الوافر]
ألا قالت بهيشة ما لنفرٍ ... أراه غيرت منه الدهور
وأنت كذاك قد غيرت بعدي ... وكنت كأنك الشعرى العبور
والشكائم: جمع شكيمة, وهي حديدة اللجام. ويقال: فلان ذو شكيمة؛ أي: ذو شدةٍ. قال عمرو بن شأسٍ الأسدي: [الطويل]
وإن عرارًا إن يكن ذا شكيمةٍ ... تقاسينها منه فلا أملك الشيم
والحكم: جمع حكمةٍ, وهو ما يكون على أنف الفرس. يقول: قد جعلت الحكم في آنافها وسومًا.
(194/أ) وقوله:
حتى وردن بسمنينٍ بحيرتها ... تنش بالماء في أشداقها اللجم
يريد أن لجمها قد حميت فصارت كالجمر؛ فإذا أصابها الماء سمع لها نشيش؛ وهذا كما قال لبيد يصف ما صبه في حوض: [الرمل]
فهرقنا لهما في داثرٍ ... لضواحيه نشيش بالبلل
وقوله:
وأصبحت بقرى هنزيط جائلةً ... ترعى الظبى في خضيبٍ نبته اللمم
في ترعى ضمير يعود إلى الخيل, ويعني بالخصيب: الشعر.
وقوله:
فما تركن بها خلدًا له بصر ... تحت التراب ولا بازًا له قدم
يقول: ما تركن بهذه الناحية خلدًا - أي رجلًا - قد دخل في مغازة, كما يدخل الخلد في الأرض؛ إلا أن هذا الخلد يبصر وهو يشابه الخلد في اختفائه, ويخالفه في نظره. ولا بازًا له قدم؛ أي ولا بازًا - يعني رجلًا مثل الباز - يكون في أعالي الجبال؛ إلا أنه له قدم مثل أقدام الناس. يقول: يهرب فيقف حيث يقف البازي, إلا أنه ذو قدمٍ. وفي الباز لغة قد مضى ذكرها.
وقوله:
ولا هزبرًا له من درعه لبد ... ولا مهاةً لها من شبهها حشم
يعني بالهزبر: رجلًا مثل الأسد, ودرعه كاللبد عليه. واللبد: الشعر الذي يكون على كتفي الأسد. ويعني بالمهاة: امرأة جميلة شبهها بالبقرة الوحشية, وهي المهاة. وقد أكثرت الشعراء من ذلك. قال زهير: [الوافر]
تنازعت المها شبهًا ودر الـ ... ـبحور وشاكلت فيها الظباء
فأما ما فويق الجيد منها ... فمن أدماء مرتعفها الخلاء
وأما المقلتان فمن مهاةٍ ... وللدر الملاحة والصفاء
والمهاة التي ذكرها هي بنت رئيس, فلها حشم من جنسها. وحشم الإنسان, أصله: الذين يغضب لهم إذا لحقهم ضيم, ثم سمي الخدم حشمًا. ويقال: حشمت الرجل واحتشمته إذا أغضبته. قال الشاعر: [الوافر]
لعمرك إن قرص أبى خبيبٍ ... بطيء النضج محشوم الأكيل
وكان الأصمعي ينكر قول الناس: فلان يحتشم؛ أي يستحي, وغيره من العلماء يجيز ذلك.
وقوله:
ترمي على شفرات الباترات بهم ... مكامن الأرض والغيظان والأكم
شفرات: جمع شفرةٍ, وهي حد السيف. وشفير كل شيء آخره, ومنه شفر العين. ويقولون: لإلان على شفير أمر؛ أي: في آخره قد أشرف على غيره. ومنه قوله: شفر العطية إذا أقلها. وادعى الشاعر أن هؤلاء القوم المغرورين ترميهم على شفرات السيوف المكامن - وهي جمع مكمنٍ؛ أي الموضع الذي يستتر فيه الإنسان - وكذلك تفعل بهم الغيطان والأكم.
[و] لما كانت هذه المواضع لا تمنعهم زعم أنها كالرامية لهم إلى السيوف.
وقوله:
وجاوزوا أرسناسًا معصمين به ... وكيف يعصمهم ما ليس بنعصم
أرسناس: اسم نهر, أو موضع فيه نهر, والمعصم بالشيء: المتمسك به. قال طفيل الغنوي: [الطويل]
إذا ما غدا لم يسقط الرعب رمحه ... ولم يشهد الهيجا بألون معصم
يقول: أرادوا أن يعتصموا بأرسناس وهو لا يعصم نفسه فكيف يعصم سواه؟ ! .
وقوله:
تجعفل الموج عن لبات خيلهم ... كما تجفل تحت الغارة النعم
كان سيف الدولة قد عبر إلى الروم ماءً على الخيل سبحت بالفرسان فيه؛ فأراد أن الموج يتجفل عن لبات الخيل؛ فكأنه النعم إذا أغير عليه فجعل يتجفل.
وقوله:
عبرت تقدمهم فيه وفي بلدٍ ... سكانه رمم مسكونها حمم
يعني أن هذا البلد قد قتلت أهله فعظامهم رمم؛ أي بالية. وواحد الرمم: رمة. وقد أحرقت ديارهم فهذه الرمم في مثل الحمم وهو الفحم. قال طرفة: [المديد]
أشجاك الربع أم قدمه ... أم رماد دارس حممه
وقوله:
وفي أكفهم النار التي عبدت ... قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم
يعني بالنار: السيوف؛ لأنها معروفة قبل أن تعبد المجوس النار, وجعلها معبودةً لأنها تهاب ويغلب بها على الممالك, فيذل بها الأعزاء, فكأنها أرباب معبودة؛ وإنما يعني أصحاب السيوف فجعل الخبر عنها, وذلك كثير يسمون الشيء باسم ما قاربه ويصفونه بصفته.
وقوله: (194/ب)
قاسمتها تل بطريقٍ فكان لها ... أبطالها ولك الأطفال والحرم
قاسمتها؛ يعني السيوف, فكان لها أبطالها؛ أي قتلهم بها, فكأنها قاسمتك تل بطريقٍ, فكان لها الأبطال, ولك الحرم والأطفال لأنك سبيتهم.
وقوله:
تلقى بهم زبد التيار مقربةً ... على جحافلها من نضحه رثم
التيار: الموج, وزبده من زبد الماء, والمقربة: الخيل التي جرت عادتها بأن تقرب عند البيوت, وقد مضى ذكرها. والرثم: بياض جحفلة الفرس السفلى, وقد استعمل ذلك في الظباء. قال عنترة: [الكامل]
وكأنما التفتت بجيد جدايةٍ ... رشأٍ من الغزلان حر أرثم
وقوله:
دهم فوارسها ركاب أبطنها ... مكدودة وبقومٍ لا بها الألم
ابتدأ الشاعر بصفة خيلٍ من الخيل المعروفة, ولم يزل مستمرًا على ذلك إلى قوله: دهم فوارسها, ثم دل ذلك على أنه يريد السفن لأنه وصفها بالدهم؛ يعني أنها مطلية بقارٍ, وجعل فوارسها ركاب أبطنها فدل ذلك على أنه يريد السفن لا غير؛ لأن فرسان الخيل إنما يركبون ظهورها, وزعم أنها مكدودة, وهي لا تحس بذلك كما تحس الخيل.
وقوله: وبقومٍ لا بها الألم؛ أي إنما يألم الذين يمارسونها حتى تسير في الماء, وقد يجوز أن يكون في هذه الغزاة سبحت به الخيل في الماء, وأن يكون ركب السفن؛ وذلك في غزاةٍ واحدةٍ.
وقوله:
من الجياد التي كدت العدو بها ... وما لها خلق منها ولا شيم
يعني: السفن جعلها جيادًا؛ لأنهم ركبوها كما يركبون الخيل, ثم ذكر أنها ليس لها شبه من الخيل في الخلق ولا الشيم. والشيم: جمع شيمةٍ, وهو ماي ظهر من خلق الإنسان, مأخوذة من قولك: شمت السيف إذا سللته.
وقوله:
نتاج رأيك في وقتٍ على عجلٍ ... كلفظ حرفٍ وعاه سامع فهم
استعار النتاج للرأي؛ وإنما هو للحوامل كالناقة والفرس وغيرهما. يقول: إذا افتقر إلى رأيك جاء موفقًا مصيبًا مع عجلةٍ كلفظ الحرف الذي يعيه سامع فهم, فإذا سئل عنه أجاب من غير تلبثٍ.
وقوله:
وقد تمنوا غداة الدرب في لجبٍ ... أن يبصروك فلما أبصروك عموا
يقول: تمنوا لقاءك وقالوا: إن نظرنا إليه بلغنا منه ما نريد وحلفوا على ذلك بمفرق ملكهم, فلما أبصروك عجزوا عنك؛ فكأنهم عموا عن قصدك. وفي هذا المعنى شبه من قول جميل: [الطويل]
فليت رجالًا فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي, يابثين, لقوني
إذا ما رأوني طالعًا من ثنيةٍ ... يقولون من هذا وقد عرفوني
وقوله:
صدمتهم بخميسٍ أنت غرته ... وسمهريته في وجهه غمم
جعل الجيش كالفرس وجعل الممدوح له غرةً. والسمهرية - أي: الرماح - غممًا في وجهه. والغمم: شعر يغشى الوجه ومؤخر العنق. وبيت هدبة معروف: [الطويل]
فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا
وكأنه من قول الأول في صفة الجيش: [الوافر]
فلو أنا شهدناكم نصرنا ... بذي لجبٍ أزب من العوالي
وقوله:
والأعوجية ملء الطرق خلفهم ... والمشرفية ملء اليوم فوقهم
تقدير الكلام نصب ملء الطرق بإضمار فعلٍ كأنه قال: والأعوجية تردي, أو تركض في حال ملئها للطرق, والإضافة في ملء الطرق على نية الانفصال, كأنه قال: ملئًا للطرق؛ أي مالئةً, ونصب ملء اليوم على نحوٍ من هذا النصب.
وقوله:
إذا توافقت الضربات صاعدةً ... توافقت قلل في الجو تصطدم
أراد الضربات فسكن الراء ضرورةً. يقول: إذا توافقت الضربات في حال الصعود قطعت الرؤوس فاصطدمت في الجو.
وقوله:
وأسلم ابن شمشقيقٍ أليته ... ألا انثنى فهو ينأى وهي تبتسم
يقول: أسلم المولي أليته؛ أي الحالف يمينه فهو ينأى بالهرب, وهي تبتسم؛ أي تهزأ به وتضحك.
وقوله:
لا يأمل النفس الأقصى لمهجته ... فيسرق النفس الأدنى ويغتنم
(195/أ) يقول: قد أيقن بالموت فهو لا يأمل النفس الأقصى, فقد جعل يغتنم الأنفاس ويكررها.
وقوله:
ترد عنه قنا الفرسان سابغة ... صوب الأسنة في أثنائها ديم
يقول: طعنا بالرماح طعنًا متتابعًا كتتابع المطر في الديم, إلا أن الدرع ردت عنه. ووصف الدرع بقوله:
تخط فيها العوالي ليس تنفذها ... كأن كل سنانٍ فوقها قلم
هذه مبالغة في صفة الدرع؛ لأنه جعل الأسنة إذا مرت بها فكأنها أقلام لا تؤثر فيها أثرًا.
وقوله:
ألهى الممالك عن فخرٍ قفلت به ... شرب المدامة والأوتار والنغم
مقلدًا فوق شكر الله ذا شطبٍ ... لا تستدام بأمضى منهما النعم
يقول: ألهى الممالك - أي أصحابها - عن نصرٍ قفلت به من غزوك اشتغالهم بالخمر وسماع الغناء, وهذا كقوله في الأخرى:
ليس من عنده تدار المنايا ... مثل من عنده تدار الشمول
والنغم من قوله: ما نغم بكلمةٍ؛ أي ما تكلم بها, ثم سمي الغناء نغمًا؛ وإنما يراد ما حسن من الأصوات. ونصب مقلدًا على الحال, وصيره متقلدًا لشكر الله تحت تقلده بالسيف. والشطب والشطب: طرائق في السيف.
وقوله: لا تستدام بأمضى منهما النعم: شرح في هذا النصف مراده في النصف الأول, ولا يمكن أن يكون النصف الثاني صفةً لشكر الله وللشطب لأنهما مختلفان في الإعراب.
وقوله:
ألقت إليك دماء الروم طاعتها ... فلو دعوت بلا ضرب أجاب دم
يسابق القتل فيهم كل حادثةٍ ... فما يصيبهم موت ولا هرم
يقول: أطاعتك دماء الروم فلو دعوتها بغير السيوف لأجابتك؛ أي: لو قلت لها: هلمي أو انسفكي لفعلت ما تأمرها به من غير أن تسل سيفًا؛ فادعى أن القتل يسابق فيهم الحوادث, فما يمهل الشاب إلى الهرم, ولا يسمح للميت أن يموت بغير السيف.
وقوله:
نفت رقاد علي عن محاجرها ... نفس يفرح نفسًا غيرها الحلم
المحاجر: جمع محجرٍ وهو ما حول العين. فأما المحجر فهو ما يحجر من الأفعال. قال حميد بن ثور: [الكامل]
وهممت أن أخطو إليها محجرًا ... ولمثلها يخطى إليه المحجر
يقول: نفس هذا الممدوح عظيمة فلا تقتنع إلا بعظام المكارم, ونفس غيره دنية فهي تفرح بما تراه في الحلم وإن علمت أنه ليس بحق. ويحتمل معنى آخر وهو أن عليًا تنفي رقاده نفس شريفة, ونفس غيره ترضى بالنوم لأنه هدوء وراحة؛ وهذا أبلغ من المعنى الأول.
وقوله:
القائم الملك الهادي الذي شهدت ... قيامه وهداه العرب والعجم
أصل القيام أن يكون ضد القعود, ثم قالوا: قام الملك إذا صارت المملكة إليه, كما قال القائل: [الطويل]
إذا مات منا سيد قام سيد ... قؤول لما قال الكرام فعول
وقوله:
ابن المعفر في نجدٍ فهوارسها ... بسيفه وله كوفان والحرم
كان أبو الهيجاء والد سيف الدولة قد ولي الكوفة وحج بالناس وجرت له خطوب مع القرامطة. يقول: عفر في نجدٍ فوارسها؛ أي ألقاهم في العفر. وقد ذكر أبو الطيب هذا في قوله لسيف الدولة لما أوقع ببني كلاب:
بنو قتلى أبيك بأرض نجدٍ ... ومن أبقى وأبقته الحراب
وقافيتها من المتراكب.








مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید