المنشورات

أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم ... علمت بما بي بين تلك المعالم

الوزن من ثاني الطويل.
وفي البيت معنى القسم لأن الإنسان يقول: أنا كافر إن كان كذا, وإذا حلف النصراني واليهودي فربما قالا: أنا حنيف مسلم إن كان كذا. والمعنى: أنه يريد: إن كنت وقت اللوائم علمت بما بي بين معالم الديار فأنا لائمي؛ وإنما يريد تبرؤه من اللوام وأن رأيه ليس كرأيهم.
وقوله:
ولكنني مما ذهلت متيم ... كسالٍ وقلبي بائح مثل كاتم
يقول: ما علمت بما بي بين تلك المعالم, ولكنني مما ذهلت - أي مما تغير عقلي - ظللت كأنني سالٍ؛ وأنا متيم. وقلبي بائح مثل كاتم؛ أي: لم أدر بما كنت فيه. وشدهت قريبة من معنى ذهلت؛ إلا أن أكثر ما تستعمل الشده فيما لم يسم فاعله.
وقوله:
وقفنا كأنا كل وجد قلوبنا ... تمكن من أذوادنا في القوائم
الأذواد: جمع ذودٍ, وقد استعمل الأذواد للإبل المركوبة وإنما يستعمل الذود للإبل الراعية, وهذا جائز على الاستعارة؛ لأن الأذواد يجوز أن تذلل فتصير عيرًا تحمل ميرةً, أو مطايا يسافر عليها الركبان. يقول: كأن وجد قلوبنا تمكن من قوائم مطايانا فهي لا تقدر على البراج.
وقوله:
ودسنا بأخفاف المطي ترابها ... فلا زلت استشفي بلثم المناسم
يقول: دسنا بأخفاف المطي تراب هذه المعالم؛ فلازلت أستشتفي الله سبحانه بأن ألثم مناسم هذه المطي أرجو البرء والخلاص مما أنا فيه.
وقوله:
ديار اللواتي دارهن عزيزة ... بطول القنا يحفظن لا بالتمائم
يقول: هذه المعالم ديار اللواتي دارهن عزيزة, وتحفظ بالطولى من القنا لا بالتمائم؛ لأن بعض الناس يعلق على الأطفال التمائم خشية العين والجن فيما يزعمون. قال ابن ميادة أو غيره: [الطويل]
أحب بلاد الله ما بين منعجٍ ... إلي وبصرى أنيصوب سحابها
بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وقوله:
حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أجسامهن النواعم
هذه مبالغة يخرج بها المعنى إلى الإحالة, ولو أن غانيةً ينقش الوشي في جسدها مثله لم يكن للرجال فيها غرض؛ لأنها خارجة عن حال الآدميات. وقد وصفت الشعراء في القديم النعمة ولم تبالغ هذه المبالغة. قال امرؤ القيس: [الطويل]
من الخفرات البيض لو دب محول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا
وقال حسان: [الخفيف]
لو يدب الحولي من ولد الذ ... ر عليها لأندبتها الكلوم
والذر والنمل لهما قرص ليس للوشي.
وقوله:
ويبسمن عن غر تقلدن مثلها ... كأن التراقي وشحت بالمباسم
الغر: جمع أغر وغراء؛ وإنما عدل إلى الغر عن الدر لأن الدرة ربما كانت عظيمة فلان يحسن أن تشبه بها السن (196/أ) , وسكن ياء التراقي للضرورة وقد كرر مثل لك. وواحد التراقي: ترقوة, وقالوا في جمعها: ترائق قلبوها عن التراقي, وأنشد أبو عبيدة: [الطويل]
هم زودنوني يوم قو حرارةً ... خلال الحشى تجول بين الترائق
وقوله:
فما لي وللدنيا طلابي نجومها ... ومسعاي منها في شدوق الأراقم
طلابي مبتدأ, ونجومها خبره, والمعنى: الذي أطلب نجومها فأقام المصدر مقام المفعول, فكأنه قال: مطلوبي نجومها, ولو نصب نجومها لجاز كما تقول: ضربي فلانًا, وهذا مثل قولهم: رأي عيني فلانًا يفعل كذا. قال الراجز: [الرجز]
ورأي عيني الفتى أخاكا ... يعطي الجزيل فعليك ذاكا
فيكون المعنى مؤديًا قوله: رأت عيناي أخاك, ويجوز أن يكون خبر رأى مضمرًا؛ كأنه قال: رأي عيني كائن أو واقع, ويجوز أن يكون طلابي بدلًا من الياء في «لي» فينصب نجومها لا غير. يقول: ما لي وللدنيا أطلب فيها معالي الأمور ومسعاي في شدوق الأراقم؛ أي في مواضع الهلكة التي لا تؤدي إلى فائدة.
وقوله:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
قد وصفت الشعراء إفراط الحلم وأنه ليس بمحمود. قال الجعدي: [الطويل]
ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
وقال الأفوه: [الرمل]
يحلم الجاهل في السلم ولا ... يقر الحلم إذا ما القوم غاروا
ورثي الأحنف بن قيس وقد قاتل يومًا قتالًا شديدًا؛ فقيل: أين الحلم يا أبا بحر؟ فقال: عند الحبى؛ أي إن القوم إذا جلسوا في مجالسهم, وشدوا حباهم فذلك الوقت الذي يحمد فيه الحلم.
وقوله:
وأن ترد الماء الذي شطره دم ... فتسقي إذا لم يسق من لم يزاحم
عطف قوله: وأن ترد الماء على قوله: أن تستعمل, وحث على ورد الماء الذي شطره دم؛ أي نصفه, وأشار بالزحام على الورد إذا لم يسق المزاحمون؛ وقد وصفت الشعراء أنفسها بمسامحة الشريب في الماء. قال الشاعر وذكر الإبل: [البسيط]
ولا تسفه حول الماء عطشتها ... أحلامنا وشريب السوء يحتدم
أي يشتعل غيظه كما تشتعل النار. وكان الضعاف منهم والنساء اللواتي لا رجال لهن يرشون الساقي ليسقي لهن. قال الشاعر: [الطويل]
سيكفيك سقيًا رجل ظبيءٍ وعلبة ... تمطت بها مصلوبة لم تحارد
مصلوبة: أي ناقة سمتها صليب. وتحارد: أي يقل لبنها.
وقوله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
فليس بمرحومٍ إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
هذان البيتان فيهما حث على سفك الدم وقلة الرحمة, وأحسن القائل على الإحسان في قوله: [البسيط]
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
ويجوز أن يغفر للحطيئة بقوله: [البسيط]
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقوله:
إذا صلت لم أترك مصالًا لفاتكٍ ... وإن قلت لم أترك مقالًا لعالم
وإلا فخانتني القوافي وعاقني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم
ادعى أمرين عظيمين: أنه إذا صال لم يترك مصالًا لفاتكٍ من الناس, وإن قال لم يترك اللعالم مقالًا, ثم أتبع بقوله: وإلا فخانتني القوافي؛ أي إلا أكن كذلك فخانتني القوافي التي هي لي وافية. دعا على نفسه أن تخونه إن كان كذب فيما زعم
وقوله:
عن المقنتي بذل التلاد تلاده ... ومجتنب البخل اجتناب المحارم
المقنتي: المفتعل من اقتنى الشيء إذا جعله قنيةً وقنيةً, ونصب تلاده لأنه جعل الاقتناء مؤديًا تصيير الشيء فكأنه قال: إلى الجاعل بذل التلاد تلادًا له؛ أي يهب ماله التلاد ويجعل بذله تلادًا له.
وقوله:
تمنى أعاديه محل عفاته ... وتحسد كفيه ثقال الغمائم
يقول: عداة هذا الممدوح يتمنون محل عفاته؛ أي سؤاله؛ أي إنهم إذا حلوا محل العفاة أمنوا من بأسه وصار إليهم من العطاء ما لا يصل إليهم بالحرب, وهذا نحو من قوله: [الطويل]
ينام لديك الرسل أمنًا وغبطةً ... وأجفان رب الرسل ليس تنام
وادعى أن ثقال الغمائم تحسد كفيه, وإنما يدعي أن عطاءه أكثر من عطائها؛ فكأنها تحسده لعجزها عن ذلك, والحسد لا يكون في الغمائم.
وقوله: (196/ب)
وذي لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناجٍ ولا الوحش المثار بسالم
يصف جيشًا بالعظم؛ يقول: إذا طار ذو الجناح أمامه فليس بناجٍ لأن الرماة كثيرة في الجيش, وإن ثار وحش أدرك فأخذ.
وقوله:
تمر عليه الشمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم
يعني أن الجيش قد ارتفع غباره فالشمس لا تصل إليه إلا أن تدخله من بين ريش الطير التي تتبعه لتصيب من لحم القتلى.
وقوله:
إذا ضوؤها لاقى من الطير فرجةً ... تدور فوق البيض مثل الدراهم.
هذا نحو قوله في الأخرى: [الوافر]
وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيرًا تفر من البنان
وقوله:
ويخفى عليك الرعد والبرق فوقه ... من اللمع في حافاته والهماهم
هذا معنى غريب لأنه زعم أن السماء إذا رعدت أو برقت أخفى لمع هذا الجيش برقها وغلبت هماهمه رعدها. والهماهم: جمع همهمةٍ وهو صوت يرتدد في الصدر ولا يفهم.
قال الراجز: [الرجز]
إنك لو شاهدتنا بالخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
وأدركتنا ابالسيوف المسلمه ... لأهم نئيت خلفنا وهمهمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وقوله:
وطعن غطاريفٍ كأن أكفهم ... عرفن الردينيات قبل المعاصم
هذا معنى في نهاية اللطف والحسن, وقد سلمه من الكذب دخول التشبيه, ولولا ذلك لكان كذبًا. ولبعض شعراء المغرب الذين جاؤوا بعد أبي الطيب بيت يشاكل معناه هذا المعنى ولا تشبيه فيه فهو كذب محض, وذلك قوله: [الطويل]
وعلمتموه الضرب قبل فطامه ... ففي فمه ثدي وفي كفه نصل
[وقوله: ]
حمته على الأعداء من كل جانبٍ ... سيوف بني طفج بن جف القماقم
طفج: اسم أعجمي, وقد استعملته الشعراء المحدثون بتشديد الجيم وتخفيفها, يقولون: طفج وطفج, وقد مضى القول في أن العرب تجترئ على تغيير الكلام الأعجمي, وليس في العربية «الطغج» فيكون اشتقاقه موافقًا لطغج. فأما جف فأعجمي إلا أنه وافق من كلام العرب ما اشتق من الجيم والفاء المشددة نحو: جف يجف ونحوه.
وقوله:
هم المحسنون الكر في حومة الوغى ... وأحسن منه كرهم في المكارم
الكر: رجوع بعد انصراف, فيقال للرجل إذا لقي القوم في الحرب ولم يكن لقيهم قبل ذلك: حمل عليهم, فإذا انصرف ثم رجع قيل: كر, ولذلك قال امرؤ القيس: [الطويل]
مكر مفر مقبلٍ مدبرٍ معًا ... كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل
وقال عامر بن الطفيل: [الطويل]
أكر عليهم دعلجًا ولبانه ... إذا ما اشتكى وقع الرماح تحمما
استحسن الشاعر كرهم في الحرب وفضل عليه في الحسن كرهم في المكارم.
وقوله:
حييون إلا أنهم في نزالهم ... أقل حياءً من شغار الصوارم
هذا لفظ يستحسن في صناعة النظم وليس له صحة في الحقيقة؛ وإنما يقال: هذا أفعل من هذا إذا فضل أحد الشيئين على الآخر, وفي كل واحد منهما شيء من تلك الفضيلة, فإذا قلت: زيد أكرم من عمرو فقد فضلت زيدًا ولم تخل عمرًا من الكرم. وقوله: أقل حياءً قد حكم على أن في السيوف حياءً إلا أنه قليل, والسيف لا يوصف بهذه الصفة إلا أنه سائغ في الشعر.
وقوله:
سرى النوم عني في سراي إلى الذي ... صنائعه تسري إلى كل نائم
يقول: إن النوم سرى عني لأني سهرت في سراي إلى هذا الممدوح الذي صنائعه سارية إلى كل نائم.
وقوله:
وفارقت شر الأرض أهلًا وتربةً ... بها علوي جده غير هاشم
الأجود أن تكون الهاء في بها راجعةً إلى تربةٍ, وتكون الجملة في موضع نعتٍ لها. وقوله: بها علوي أقر له بالعلوية, ثم نفاه عن هاشمٍ أن هذا المذكور ينتسب إلى علي بدعواه, وليس هو من ولده. وهاشم بن عبد مناف واسمه عمرو, يقال إنه سمي هاشمًا لأن قومه أصابهم جدب فهشم لهم الثريد. وأصل الهشم أن يكون في الشيء اليابس مثل قولهم: هشم الشجرة؛ إلا أن الشاعر استعمله في الثريد, وهذا الشعر ينسب إلى عبدالله بن الزبعرى, وهو: [الكامل]
كانت قريش بيضةً فتفلقت ... فالمخ خالصه لعبد مناف
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
وقوله:
بلى الله حساد الأمير بحلمه ... وأجلسه منهم مكان العمائم
هذا البيت إن لم يوصل بما بعده احتمل أن يكون إخبارًا أو دعاءً؛ وكونه إخبارًا أبلغ في المدح؛ لأنه يخبر بشيء قد وقع وكان. (197/أ) والدعاء بالشيء يدل على أنه لم يكن بعد, ومما يدل على أنه دعاء مجيء الفاء في قوله:
فإن لهم في سرعة الموت راحةً ... وإن لهم في العيش حز الغلاصم
ولو أنه بالواو لكان ذلك دليلًا على أن في البيت دعوةً على الأعداء. وحز الغلاصم عبارة عن الموت؛ لأن الغلصمة إذا حزت فلا حياة. ويقال إن الفرزدق سمع بعض الشعراء ينشد: [الطويل]
وما بين من لم يعط سمعًا وطاعةً ... وبين تميمٍ غير حز الغلاصم
فقال له: لتتركنه لي أو لتتركن عرضك, فقال: خذه لا بارك الله لك فيه. وهذا البيت موجود في شعر الفرزدق, وسبحان من يعلم حقائق الأمور.
وقوله:
كأنك ما جاودت من بان جوده ... عليك ولا قاتلت من لم تقاوم
يقول: إذا هم الإنسان بأمر ولم يفعله فكأنه لم يهمم به, وإذا اجتهد في طلب شيءٍ ولم يدركه فكأنه ما طلبه. وهذا البيت مخاطبة لسامعٍ غير الممدوح. يقول: كأنك يا إنسان إذا جاودت غيرك فغلبك في الجود لم تجاوده, وإذا قاتلت من لم تقاومه فكأنك لم تقاتله. وقافيتها من المتدارك.











مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید