المنشورات

ألا لا أري الأحداث حمدًا ولا ذما ... فما بطشها جهلًا ولا كفها حلما

(207/ب) الوزن من الطويل الأول.
وأري في البيت بمعنى: أعلم, وهي تستعمل كثيرًا على هذا الوجه. وأصل الرؤية في العين, ثم استعملت في العلم والاعتقاد والمشورة, ونحو ذلك. يقول: المسلم يرى أن الصلاة فرض أي يعتقد, وفلان يرى أن تفعل أي يشير عليك. والمعنى: لا أرى الأحداث أني أحمدها ولا أذمها لأنها إذا حدث فيها شر فلا علم لها بالجناية, وإن اتفق خير فليست بالمحمودة عليه لأنها لم ترده ولم تكن السبب في فعله.
وقوله:
إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى ... يعود كما أبدى ويكري كما أرمى
يقال: بدأ الشيء, بالهمز, وهي اللغة الجيدة. ويقال: أبدى في معنى بدأ وهي قليلة. ويقال: أكرى الشيء إذا نقص وأكري إذا زاد. وقد ذكرت هذه الكلمة في الأضداد, وكري الزاد إذا نقص, وأكرى الرجل إذا نقص زاده. قال الشاعر: [الوافر]
كذي زاد متي لا يكر منه ... فليس وراءه ثقة بزاد
وأرمى على الشيء إذا زاد عليه, والاسم منه الرماء. وفي الحديث: «إني أخاف عليكم الرما» أي الربا. والمعنى: أن الفتي كان معدومًا لا يعلم له شخص ولا يعرف له اسم وإلى مثل ذلك يعود.
وقوله:
بكيت عليها خيفةً في حياتها ... وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما
يقول: كنت أعلم أني لا بد لي من فراقها فكنت أبكي عليها, والفراق لم يكن.
وكانت هي من إشفاقها علي كأنها ثاكلة, وهذا نحو من قوله: [الخفيف]
من رآها بعينها شاقه القطا ... ن فيها كما تشوق الحمول
وقوله:
ولو قتل الهجر المحبين كلهم ... مضى بلد باقٍ أجدت له صرما
ادعى أن البلد الذي كانت فيه محب لها لما كانت عليه من الطاهرة وفعل الخير. وهذه الدعوى باطلة, ولكنها تجوز في أحكام الشعر.
وقوله:
منافعها ما ضر في نفع غيرها ... تغذى وتروى أن تجوع وأن تظما
يقول: هذه المرأة كانت ترى أنها تنتفع بنفع غيرها وإن كان نفعها إياه يضرها. والمراد: أنها كانت تطعم المساكين وتجوع وتظمأ وظمؤها في نفسها ري؛ وكأن هذا مأخوذ من قوله تعالي: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
وقوله:
أتاها كتابي بعد يأسٍ وترحةٍ ... فماتت سرورًا بي فمت بها هما
الترحة: الحزن, قال الشاعر: [الطويل]
وما فرحة إلا ستعقب ترحةً ... ولا عامر إلا قريبًا سيخرب
والأطباء يقولون: إن السرور إذا زاد جاز أن يقتل.
وقوله:
تعجب من خطي ولفظي كأنها ... ترى بحروف السطر أغربةً عصما
العصم: جمع أعصم, ويقال للغراب إذا كانت فيه ريشة بيضاء: أعصم. وأصل العصمة في الوعول والخيل وهو أن يكون في قوائمها بياض. وقد قيل: إن الغراب الأعصم الذي رجله بيضاء. وقال النمر بن تولب في الأعصم الذي هو الوعل: [المتقارب]
ولو أن من يومه ناجيًا ... لكان هو الصدع الأعصما
وقال أبو خراشٍ الهذلي: [الطويل]
تراه قريبًا يحسر الطرف دونه ... وإن كان طودًا فوقه فرق العصم
وقوله:
وتلثمه حتى أصار مداده ... محاجر عينيها وأنيابها سحما
يذكر أن هذه النسيبة لثمت كتابه؛ أي قبلته. ويقال: صار الشيء إلى كذا وكذا, وأصاره غيره. والمعنى أنها لم تزل تلثم السطور وتضعها على عينيها حتى اسودت أنيابها ومحاجرها. والسحم: السود, الذكر أسحم, والأنثى سحماء. يقال: أسحم بين السحمة والسحم. والسحم - في غير هذا الموضع - ضرب من النبت, قال النابغة: [الكامل]
إن العريمة مانع أرماحنا ... ما كان من سحمٍ بها وصفار
الصفار: يبيس البهمى.
وقوله:
رقا دمعها الجاري وجفت جفونها ... وفارق حبي قلبها بعدما أدمى
(208/أ) أصل رقأ الهمز. يقال: رقأ الدم رقوءًا, وكذلك رقأ الدمع. قال الشاعر: [الطويل]
بكى دوبل لا أرقأ الله دمعه ... ألا إنما يبكي من الذل دوبل
يقول: رقأ دمع هذه المرأة لأنها كانت تبكي من فراقي في أيام الحياة, فلما أصابها الموت رقأ الدمع وجفت منها الجفون, وفارق قلبها حبي بعدما أدماه.
وقوله:
ولم يسلها إلا المنايا وإنما ... أشد من السقم الذي أذهب السقما
المعنى: أنهما لم تسل حتى سلتها المنية, والذي يذهب السقم أشد منه؛ إلا أن الموت؛ وإن كان شديدًا؛ فإنه يؤدي إلى الراحة بمشيئة الله, وفي هذا المعنى طرف من قوله: [الكامل]
وشكيتي فقد السقام لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء
فهذا يشابه قوله:
أشد من السقم الذي أذهب السقما
وقوله:
طلبت لها حظا ففاتت وفاتني ... وقد رضيت بي لو رضيت لها قسما
يقول: سافرت عنها لأفيد مالًا يكون لهاحظًا وسعةً ففاتت هي وفات الحظ, وكانت راضيةً بي لو أني رضيت لها بذلك.
وقوله:
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها ... وقد كنت أستسقي الوغا والقنا الصما
يقول: أصبحت أقول: سقي قبرها الغمام لا أقدر على غير ذلك, وقد كنت قبل موتها استسقي الوغا, أي الحرب, والقنا الصم لأصل إلى مالٍ أنفعها به.
وقوله:
هبيني أخذت الثار فيك من العدى ... فكيف بأخذ الثار فيك من الحمى
يقول: لو قتلك عدو لجاز أن أطلب بثأرك, فكيف أقدر على أن آخذ ثأرك من الحنى القاتلة لك.
وقوله: فوا أسفا ألا أكب مقبلًا ... لرأسك والصدر اللذي ملئا حزما
يقال: أكب على الشيء إذا خفض رأسه وظهره إليه, وكب الشيء لوجهه إذا ألقاه عليه, ومنه قولهم: فلان يكب الإبل, أي يضرب عراقيبها فيكبها على وجوهها. قال الشاعر: [الطويل]
ولا عيب فينا غير أن حدايدًا ... نكب بها صهب العشار البهازر
أي الضخام من النوق. وقوله: اللذي حذف النون من اللذين, وقد مر ذكر ذلك.
وقوله:
تغرب لا مستعظمًا غير نفسه ... ولا قابلًا إلا لخالقه حكما
ولا سالكًا إلا فؤاد عجاجةٍ ... ولا واجدًا إلا لمكرمةٍ طعما
زعم أنه تغرب لا يستعظم شيئًا غير نفسه, ونصب مستعظمًا على الحال. وذكر أنه لا يقبل حكمًا إلا للخالق تعالت كلمته, واستعار للعجاجة فؤادًا كما يستعير الشعراء بعض الأشياء لبعض. وادعى أنه لا يستعذب شيئًا ولا يجد له طعمًا إلا أن يكون مكرمةً.
وقوله:
يقولون لي: ما أنت؟ في كل بلدةٍ ... وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
«ما» تقع على الصفات للآدميين كأنهم إذا قالوا له: ما أنت, فالمراد أي شيء أنت؟ فيقول: كريم, أو كاتب, أو شاعر, أو نحو ذلك. وما تبتغي؟ أي أي شرفٍ تروم؟ ثم ابتدأ الكلام فقال: الذي أبتغي جل أن يسمى, أي عظم أن يذكر.
وقوله:
كأن بنيهم عالمون بأنني ... جلوب إليهم معادنه اليتما
الهاء والميم من بينهم راجعة إلى الذين يقولون له: ما أنت في كل بلدة؛ يزعم أنهم يبغضونه كأن بنيهم قد علموا أنه سيوتمهم بقتل آبائهم.
وقوله:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
يقول: لا أستطيع أن أجمع بين الفهم والثروة التي يؤديني إليها الجد؛ أي الحظ, إذ كان أهل الفضل قد يكونون فقراء, وقلما رئي ملك عالم أو عالم ملك. وقد ضرب البحتري المثل بفقر الأنبياء صلى الله عليهم, ولهم الفضل الأعظم, فقال: [الكامل]
فقر كفقر الأنبياء وغربة ... وصبابة ليس البلاد بواحد
في الكتاب العزيز: {ووجدك عائلًا فأغنى} أي فقيرًا. وفي قصة موسى عليه السلام: {إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقير}.
وقوله:
ولكنني مستنصر بذبابه ... ومرتكب في كل حال به الغشما
الهاء في ذبابه راجعة إلى السيف؛ ولم يتقدم له ذكر؛ إلا أنه (208/ب) معلوم عند السامع, وإنما قيل لطرف السيف: ذباب لأنه يذب به الأعداء؛ أي يطردون, وإنما يكون ذلك من قبل أن تقع الملاحمة؛ فإذا كان ذلك فالمضاربة بصدور السيوف.
وقيل: إنما قيل له: ذباب لأنه له حدة تزيد على حد السيف, فشبه بذباب العين وهو إنسانها أي أفضل ما فيها. وقيل: إنما قيل له: ذباب من قولهم: بقي عليه ذباب من دينٍ؛ أي شيء قليل منه؛ فكأن هذا الشيء طرف من السيف قليل.
وقوله:
وجاعله يوم اللقاء تحيتي ... وإلا فلست السيد البطل القرما
أصل التحية أن تكون «تفعلةً» من الحياة, فيجوز أن يريد أن أجعله حياتي في الحرب - وقد مضى الكلام على التحية, ونقلها من حالٍ إلى حال - فيجوز أن يعني أنه يحيي بالسيف نفسه كما يحييها بالشيء الطيب الرائحة. ويحتمل أن يكون أراد: إني أجعله كالتحية لمن أقابل كما قال القائل: [الوافر]
تحية بينهم ضرب وجيع وقوله:
إذا فل عزمي عن هدى خوف بعده ... فأبعد شيءٍ ممكن لم يجد عزما
يقول: إذا فل عزمي خوفي بعد المطلوب - وأبعد مما أطلب إذا بعد ممكن؛ أي قريب - لم يجد عزمًا في طلبه. وقوله: ممكن يدل على أن الميم في «مكان» أصليه, والأشبه بمكان أن يكون مفعلًا من الكون.
وقوله:
وإني لمن قوم كأن نفوسنا ... بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
كان أبو الطيب له مذهب في أن يحمل الضمير على المعنى, كقوله في هذا البيت: كأن نفوسنا, ولو قال: كأن نفوسهم لرجع الضمير إلى قوم. وإذا قال: كأن نفوسنا فلم يرجع إلى قومٍ ضمير, وقد تردد نحو من هذا شعره, كقوله: [الكامل]
قوم تفرست المنايا فيكم ... فرأت لكم في الحرب صبر كرام
ولو قال: فيهم ولهم لكان ذلك أقرب إلى فهم السامع, وكأنه أراد بهذا القول: أنا نؤثر القتل لأن نفوسنا تأنف من سكناها العظم واللحم. والقافية من المتواتر.













مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید