المنشورات

كفي أراني ويك لومك ألوما ... هم أقام على فؤادٍ أنجما

الوزن من الكامل الأول.
النصف الأول يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مستغنيًا بنفسه, يقول: كفي لومك فإني أراني ألوم منك, أي ألومك أكثر من لومك إياي. وويك: كلمة لم يصرف منها فعل. وأصحاب اللغة يزعمون أن معناها التنبيه على الشيء كأنهم يريدون: «ألم تر» , وفي الكتاب العزيز: {ويكأنه لا يفلح الكافرون}؛ فذهب الخليل فيما يروون إلى أنه قال: وي على معنى التعجب, ثم قال: «كأنه لا يفلح الكافرون»؛ وهذا مخالف مذهب من يقول: ويك بلا أن, وقد جاءت مع أن المخففة ويك في قول الشاعر: [الخفيف]
ويك أن من يكن له نشب يحـ ... ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
فإذا جعلت وي كلمةً والكاف للخطاب وجب أن تفتح إذا خوطب بها المذكر, وأن تكسر إذا أريد بها التأنيث.
والوجه الآخر من الوجهين الجائزين في النصف الأول أن يكون متعلقًا بالنصف الثاني, ويكون هم مرفوعًا بقوله: أراني, كأنه قال: أراني لومك ألوم هم أقام على فؤادٍ أنجم. في أنجم ضمير يعود على الفؤاد؛ أي ذهب به كما يذهب السحاب المنجم؛ فيكون قوله: ألوما أي أحق باللائمة مني, وإذا حمل على القول الأول فهم مرفوع بابتداءٍ مضمرٍ أو فعلٍ أو خبر مقدم؛ كأنه قال: هذا هم, وأصابني هم, أو بي هم.
وقوله:
وخفوق قلبٍ لو رأيت لهيبه ... ياجنتي لظننت فيه جهنما
جعل المرأة كالجنة, وهي مأخوذة من قولهم: جن الأرض الشجر والنبت إذا ستراها, ويقال للبستان جنة لأن الشجر يغطيه, وقد جاء في الحديث: «أن امرأة الرجل جنته» وإنما تراد المرأة الصالحة, فأما المذمومة فهي غل قمل. قال جران العود, وذكر النساء: [الطويل]
ولسن بأسواءٍ فمنهن روضة ... تحف الرياض نبتها ما يصوح
ومنهن غل مقمل لا يفكه ... من القوم إلا الشحشحان الصمحمح
الشحشحان: الذي يدوم على الشيء, والصمحمح: الصلب الشديد. وجهنم: اشتقاقها من الجهامة وهي غلظ الوجه وكراهته. وقالوا: فلان جهم المحيا إذا كان كريه الوجه, فالنون على هذا زائدة. وقيل: الجهنام: البئر البعيدة القعر, فشبهت جهنم بها لبعد غورها. وقالوا: أحمر جهنام؛ أي شديد الحمرة فكأنهم أرادوا أن نارها حمراء. وكان بعض الشعراء في الجاهلية يزعم أن له شيطانًا يقول الشعر على لسانه يسمى جهنام. قال الأعشى: [الطويل]
دعوت خليلي مسحلًا ودعوا له ... جهنام بعدًا للغوي المذمم
وقوله:
يا وجه داهية الذي لولاك ما ... أكل الضنى جسدي ورض الأعظما
جعل اسم المرأة داهيةً, وأغلب الظن أنه اسم وضعه مشتق من الدهاء؛ أي إنها قد دهته, وهذا أشبه من أن تكون مسماةً بهذا الاسم, لأنه لم تجر عادته بذلك. وقال: لولاك, وقد مضى القول: إن الصواب: لولا أنت.
وقوله:
إن كان أغناها السلو فإنني ... أمسيت من كبدي ومنها معدما
ادعى أن الحب قد أذهب كبده على مذاهب الشعراء, وإنما يذكرون ذلك في التشبيب, يطلبون به الرحمة من قلوب الأحباب؛ فيدعون للكبد الذوب والشيب, وقد علموا أن ذلك كذب وافتراء.
وقوله: (213/أ)
غصن على نقوى فلاةٍ نابت ... شمس النهار تقل ليلًا مظلما
النقوان: تثنية نقاً وهو الكثيب من الرمل. ويقال: نقيان بالياء, وبالواو أكثر. ويحتمل أن يكونوا قالوا له: نقاً لأن المطر يصيبه فينقيه كما ينقي الثوب الغسل, ويكون هذا من باب قولهم للمنفوض: نفض, وللمنقوض: نقض.
شبه وركي المذكورة بنقوي رملٍ وقوامها بغصنٍ, وقد رددت الشعراء ذلك حتى ملته الأسماع. وجعلها كشمس النهار وشعرها كالليل المظلم, وقد كثر هذا الكلام في الشعر القديم. قال بعض المتقدمين: [الكامل]
بيضاء تسحب من قيامٍ فرعها ... وتغيب فيه وهو جثل أسحم
فكأنها فيه نهار مشرق ... وكأنه ليل عليها مظلم
وقوله:
كصفات أوحدنا أبي الفضل التي ... بهرت فأنطق واصفيه وأفحما
يقول: بهرت صفات هذا الممدوح فأنطق الواصفين فوصفوه حتى فحموا؛ أي انقطع كلامهم. يقال: بكى الصبي حتى فحم؛ أي: عجز عن البكاء. وقالوا: أفحم الشاعر إذا تعذر عليه قول الشعر. ويجب أن يكون هذا اللفظ أخذ من الفحم المعروف؛ لأنهم يريدون أن الخاطر إذا كان كالنار الموقدة فانقطع إلى أن صار كالفحم. قال الهذلي: [الطويل]
أصخر بن عبدالله إن كنت شاعرًا ... فإنك لا تهدي القوافي لمفحم
وقوله:
يا أيها الملك المصفى جوهرًا ... من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
جعل الممدوح خالصًا من جوهر من عز عن الجواهر والأعراض, وخلقها بالإرادة؛ فهذه مجاوزة إلى غير الفعل المحمود؛ فالقائل لها مذموم؛ وإن رضي الممدوح بذلك, فقد أقدم على أمرٍ يستعظم.
والملكوت: فعلوت من الملك, والتاء في ذات أصلها هاء ولكنها استعملت مضافةً؛ وهذه الهاء إذا اتصلت بالمضاف منعها ذلك من الوقف؛ لأن الناطق جرت عادته أن يصل المضاف بالمضاف إليه فشبهها المتكلمون بالتاء الأصلية؛ فقالوا: الصفات الذاتية. والنحويون يرون أن الصواب في النسب إلى الذات: ذووية, ولا يمتنع أن تشبه هذه التاء بالتاء الأصلية, كما قالوا: تمسكن المسكين؛ قأثبتوا الميم في الفعل الماضي كما يثبتون الميم الأصلية لكثرة ما لزمت الميم المسكين.
وقوله:
نور تظاهر فيك لاهوتيةً ... فتكاد تعلم علم ما لن تعلما
نصب لاهوتيةً على التمييز, ولا يمتنع أن يكون نصبها على الحال, وإن كان النور مذكرًا؛ لأنه يمكن أن تقول: قد تصور فلان رحمةً. ويجوز أن تنصب لاهوتيةً لأنها مفعولة له أي من أجله. وبعض الناس يروي: لاهوتيه بالإضافة إلى الهاء الراجعة على النور.
والناس يقولون: اللاهوت فيزيدون التاء, كما يقولون: الناسوت إذا أرادوا به الإنسان أو الإنسانية؛ وكذلك قولهم: طاغوت. والنحويون يذهبون إلى أن الطاغوت أصله: طيغوت أو طغووت؛ فقلبت عين الفعل ألفاً. وأقيس من هذا القول أن يكون طاغوت على فاعولٍ لأنهم قد حكوا: طغيت وطغوت؛ فكأنه في الأصل: طاغو فقلبت الواو الآخرة تاءً كما قلبت في تخمةٍ وهي من الوخامة, وتراثٍ وهو من ورث.
وقوله:
ويهم فيك إذا نطقت فصاحةً ... من كل عضوٍ منك أن يتكلما
في يهم ضمير يعود على النور, ويجوز أن تكون فصاحة منصوبةٍ على التمييز, وأن تكون مفعولًا لنطقت ومفعولًا له. يقول: يهم هذا النور أن يتكلم من كل عضوٍ فيك, ولا يقتصر على اللسان دون الأعضاء كلها.
وقوله:
أنا مبصر وأظن أني نائم ... من كان يحلم بالإله فأحلما
قال: أنا مبصر؛ أي أرى الشيء على حقيقته, وكأني في نوم, والنائم ليس بصره بثابتٍ. وتم الكلام في النصف الأول, ثم فسر الغرض بقوله: من كان يحلم بالإله فأحلما. من ها هنا: استفهام, ونصب أحلم لأنه جواب؛ وهذا كما تقول: من أمكنه أنيطلع إلى النجوم فأطلع إليها؛ أي إن ذلك أمر لا يستطاع.
وقوله:
كبر العيان علي حتى إنه ... صار اليقين من العيان توهما
قال: كبر بضم الباء في معنى عظم, وكبر بكسر الباء في معنى أسن. يقول: نظرت إلى شيء ولم أر مثله, ولم تجر العادة أن يصل إليه الإنسان؛ فاستعظمت ذلك حتى ظننت يقيني توهمًا.
وقوله: (213/ب)
حتى يقول الناس ماذا عاقلًا ... ويقول بيت المال ماذا مسلما
عظم الممدوح تعظيمًا يجب معه أن لا يكون خاطبه بقوله حتى يقول الناس: ماذا عاقلًا؛ وإنما تبع في ذلك الحكمي في قوله: [مجزوء الرمل]
جاد بالأموال حتى ... قيل ما هذا صحيح
ويجوز أن يكون أبو الطيب ظن أن القائل أراد: ما هذا صحيح العقل, ولعله لم يرد ذلك وإنما أراد: ما هذا الفعل صحيح. وقافيتها من المتدارك.










مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید