المنشورات

عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران

الوزن من ثالث الطويل]
يقول: عدوك يذمه الناس, ولو كان القمران من أعدائك لكانا بين البشر مذمومين, وأراد بالقمرين: الشمس والقمر فغلب اسم القمر لأنه مذكر. وقيل في قول الفرزدق: [الطويل]
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
أراد إبراهيم ومحمداً عليهما السلام فضرب لهما المثل بالشمس والقمر.
وقوله:
ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
يقول: لله سر لا يشعر به المخلوقون, وهو فيما ظهر من علاك؛ وكأن في هذا البيت تعريضًا لأن المخاطب قد أعطي ما ليس له بمستحق. وجعل كلام العداة كالهذيان ليس له تأثير.
وقوله:
رأت كل من ينوي لك الغدر يبتلى ... بغدر حياةٍ أو بغدر زمان
فرق بين غدر الحياة وغدر الزمان, وإنما حمله على ذلك إقامة الوزن. والزمان غدره على ضربين: أحدهما: هلاك النفوس, والآخر: هلاك المال وزوال الدول وموت الأعزاء. وغدر الحياة داخل في غدره.
وقوله:
برغم شبيبٍ فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان
شبيب العقيلي كان من قوم يعرفون بالمستأمنة استأمنوا إلى سيف الدولة, وكانوا قبله مع القرامطة. وولي شبيب معرة النعمان دهراً طويلًا, ثم سار إلى مصر, ورأى أن يخرج على كافورٍ, واجتمعت إليه طائفة, وهجم بها دمشق ومعه عسكر. واختلف الناس في حديثه؛ فقيل: إن امرأةً ألقت عليه رحى يدٍ فصرعته, فلما صرع انصرف العسكر منهزماً. وقال من يدعي الخبرة بأمره: إنه كان قد حدث به صرع من شرب الخمر, وإنه عرض له في تلك الساعة فلم يدر أصحابه ما شأنه فانصرفوا وتركوه. وكان كافور قد أعد عسكراً ليجهزه إليه فكفي بالإقبال مؤونته.
وفي هذا البيت معنى حسن لطيف, وذلك أن الشاعر قال: كأن رقاب الناس قالت لسيفه: رفيقك من قيس عيلان وأنت منسوب إلى اليمن, فأفسدت بين شبيبٍ وبين السيف؛ لأن عادة من ينسب إلى قيس عيلان أن يتعصب على اليمن.
وقوله:
وما كان إلا النار في كل موضعٍ ... تثير غباراً في مكان دخان
شبهه بالنار التي تحرق, وإنما أراد أنه كان يوقد نار الحرب فكأن غبارها دخان نارٍ.
وقوله:
فنال حياةً يشتهيها عدوه ... وموتاً يشهي الموت كل جبان
(235/أ) أي إنه مات موتةً وحيةً ولم يمت حتف أنفه فيعاني العلل والأمراض.
وقوله:
نفى وقع أطراف الرماح برمحه ... ولم يخشن وقع النجم والدبران
أي كان شبيب يقاتل أمثاله من الناس. والنجم هاهنا يعني به الثريا دون غيرها, ويدل على ذلك ذكره الدبران معها. والعرب تتشاءم بالدبران لأنه يدبر الثريا, واسمه كأنه مشتق من الإدبار. قال عنترة: [الكامل]
يا دار ماوية بالسهب ... بنيت على خطبٍ من الخطب
بنيت على سعد السعود ولم ... تبن على الدبران والقلب
وإنما قالت العرب للدبران: حادي النجم لأنهم يزعمون أنه خطب الثريا ليتزوجها؛ فطلبت منه مهراً فذهب فجاءها بنجوم تسمى القلاص ودفعها إلى الثريا فكرهته هربت منه. وقد ذكرت العرب ذلك, قال بعض الشعراء: [البسيط]
أما ابن طوقٍ فقد أوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها
وقوله:
وقد قتل الأقران حتى قتلته ... بأضعف قرنٍ في أعز مكان
حكى الشريف أبو إبراهيم محمد بن أحمد العلوي نضر الله وجهه: أنه كان بحضرة كافور, وأبو الطيب ينشد هذه القصيدة, فقال أبو الطيب:
بأضعف قرنٍ في أذل مكان
فقال كافور وهو يتكلم كلام الخدم: لا والله إلا بأشد قرنٍ في أعز مكان. فروى الناس: بأضعف قرنٍ, وجعلوا مكان أذل: أعز.
وقوله:
ودى ما جنى قبل المبيت بنفسه ... ولم يده بالجامل العكنان
ودى من قولهم: ودى القتيل يديه إذا حمل ديته؛ أي ودى شبيب ما جناه بنفسه, ولم يده بالجامل, وهو جمع جملٍ على غير قياسٍ. ويقال: إبل عكنان وعكنان بسكون الكاف وتحريكها؛ أي كثير. قال الراجز: [الرجز]
إن ابنة القيسي سامت مهرا ... وعكناناً بازلًا وبكرا
وقوله:
أتمسك ما أوليته يد عاقلٍ ... وتمسك في كفرانه بعنان
هذا استفهام على معنى الإنكار. والتقدير أنه يقول: أحسنت إليه إحساناً أمسكته يده, وكان لا ينبغي أن يمسك في كفران ما صنع معه بعنانٍ. يقال: أمسك الشيء وأمسك به, وقد بين الغرض في قوله:
ثنى يده الإحسان حتى كأنها - وقد قبضت - كانت بغير بنان
يقول: ملأت يده بالإحسان حتى ثناها إلى ورائها, فكأنها لما قبضت ما وهبت لم يكن لها بنان تطبقه على الموهوب فأرسلته.
وقوله:
وعند من اليوم الوفاء لصاحب؟ ... شبيب وأوفى من ترى أخوان
قوله: وعند من اليوم الوفاء استفهام يدل على النفي؛ أي لم يبق في الناس وافٍ لمن يصحبه. وابتدأ في النصف الثاني: بشبيبٍ وجعل أوفى من ترى عطفاً عليه؛ والخبر قوله: أخوان؛ أي شبيب في الغدر وأوفى العالم سواء.
وقوله:
فما لك تختار القسي وإنما ... عن السعد يرمي دونك الثقلان
يقول: ما لك تخير القسي لترمي عنها الأعداء وعن السعد يرمي الثقلان دونك؟ يعني بالثقلين: الجن والإنس. وجاء في الحديث أنه صلى الله عليه قال: «أخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي». فالثقلان في الحديث تثنية ثقلٍ من قولهم: حط فلان ثقله؛ أي متاعه الذي يحمله؛ فأراد صلى الله عليه أن كتاب الله وعترته ثقلاه الذي يهمه حفظهما.
وقوله:
وما لك تعنى بالأسنة والقنا ... وجدك طعان بغير سنان
(235/ب) يقول: لم تعن بالقنا والأسنة وجدك - أي حظك - يطعن أعداءك بغير سنان؟ وأنكر عليه حمل السيف, وهو غني عنه لما يسعده من حدثان الدهر, فقال:
ولم تحمل السيف الطويل نجاده ... وأنت غني عنه بالحدثان
وقوله:
أرد لي جميلًا جدت أو لم تجد به ... فإنك ما أحببت في أتاني
يقول: الأقدار جارية بحكمك فإذا أردت شيئاً كان, وإذا نويت أن تعطيني شيئاً وصل إلي؛ وإن لم تجد به؛ لأن الأقضية تجري بمحبتك.
وقوله:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شيء عن الدوران
الناس يرفعون الفلك ولا بأس برفعه لأنه مؤد معنى قولك: لو الفلك الدوار مبغض أنت سعيه, لعوقه شيء منعه أن يدور. وكان ابن جني رحمه الله يختار النصب وهو مذهب النحويين, وليس الرفع بخطأ. ويجوز أن يضمر للفلك فعل ما لم يسم فاعله ويفسره ما بعده. والقافية من المتواتر.









مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید