المنشورات

المجاهدة

المجاهدة لغةً: بذل ما في الوسع والطاقة (1).

أما في الاصطلاح:
أخذ النفس ببذل الطاقة، وتحمل المشقة، في دفع المضرة، وتحصيل المنفعة (2).
فالسالك طريق الإصلاح يسعى بمجاهدة نفسه لتحقيق هدفه، والوصول بها إلى مراتب العلا، وعليه أيضاً أن يجاهد كل ما يقطع عليه الطريق بمغالبته، "وقد ضربت لك مثلين فليكون منك على بال:

المثل الأول:
رجل خرج من بيته إلى الصلاة لا يريد غيرها، فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس، فألقى عليه كلاماً يؤذيه، فوقف ورد عليه، وتماسكا، فربما كان شيطان الإنس أقوى منه، فقهره، ومنعه عن الوصول إلى المسجد، حتى فاتته الصلاة، وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس، ولكنه اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول، وكمال إدراك الجماعة، فإن التفت إليه أطمعه في نفسه، وربما فترت عزيمته، فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجَمْز (أي: السير والهدو) بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل لما هو بصدده، وخاف فوت الصلاة أو الوقت: لم يبلغ عدوُّه منه ما شاء.
المثل الثاني:
الظبي أشد سعيًا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه" (1).

وهذا مثل ثالث:
المتسابقون في رياضة الركض، كل متسابق منهم يبذل أقصى ما يملك من الجهد لكي يفوز بالسباق.
وإنك لترى كل واحد منهم قد ثبت بصره على خط النهاية، فلا يلتفت يمنه ولا يسره حتى يحقق هدفه.
وكل متسابق من هؤلاء وضع في ذهنه لحظه التكريم، فلو التفت أحدهم إلى هتافات الجمهور، أترى أنه يسبق، ولو أنه نظر في عطفه وملبسه وجمال جسمه أتراه يحقق هدفه.
والآن أيها -الودود- هل أدركت خطورة القواطع من شياطين الأنس والجن، وأدركت خطورة النفس الأمارة بالسوء، والهوى، وقرناء الباطل، والبيئة السيئة، فهؤلاء قطاع الطريق، وأنت بينهم تسعى وتجاهد عدوك من أجل حليه الأخلاق وقلادة الأدب.
ولا يمكن لنائم أن يفوز بتاج الفضيلة، ومنح الأخلاق وهو مقصر في حياته منغمس في لهوه، ومتدثر في سهوه، يرجو الربح في ميدان السباق.
يحاول نيل المجد والسيفُ مغمدٌ ... ويأملُ إدراك العُلى وهو نائمُ
فالخلق الحسن نوع من الهداية، يحصل عليه المرء بالمجاهدة، وبذل الوسع، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
والمجاهدة لا تعني أن يجاهد المرء نفسه مرة، أو مرتين، بل تعني أن يجاهد نفسه حتى يموت؛ ذلك أن المجاهدة عبادة، والله تعالى يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 99].

تنبيه: العزم الأكيد على جهاد النفس لا يعني أن ينقض على النفس انقضاضًا حتى تتخلى عن جميع الصفات المذمومة، وتتحلى بالخصال المحمودة دفعة واحدة، فإن هذا مخالف لطبيعة البشر، وبخاصة أن كثيرًا من العادات والأفعال السيئة عندما يمارسها الإنسان مدة طويلة من الزمن، فإنها تصبح ثابتة في النفس مستقرة فيها، فلا بد من إرادة قوية، وجهد متواصل، وتدريب متكرر حتى تتخلى عنها، وتتحول من الشغف والتعلق بها إلى النفور منها والكراهية لها.
وأقربُ مثالِ لذلك الطفل الرضيع الذي اشتد تعلقه بالرضاعة، فلو أرادت أمه أن تفطمه دفعةً واحدةً، فإنها لن تتمكن من ذلك، وسيزداد تعلق طفلها بالرضاعة وتشوقه إليها، والاْسلوب الصحيح أنْ تحاول الأم بالتدرج وبمختلف الوسائل صرف الطفل عن هذا التعلق الشديد، وإِيجاد البديل الذي يستغني به عن الرضاعة، فإذا انفطم، كره أن يعود للرضاعة مرة ثانية ونفر منها.
والنفسُ كالطفلِ إن تهمله شبَّ على ... حبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وبهذا الأسلوب حرم الله سبحانه الخمر والربا، فتحطيمُ العاداتِ السيئة المتأصلة في النفس مع المبادرة إلى الأعمال الصالحة، أشبه بالتدريب الرياضي، والعادة -سواء كانت حسنة أو سيئة- فإنها تتكون في النفس، وتتعمق فيها مرة بعد مرة، ويعاني الإنسان في بدء الأمر من الاستمرار فيها، إذا لم تكن موافقة لحظوظ النفس، ولكنه مع التكرار والتدرج يألفها ويتعود عليها.
فالعاقل من يجعل طريقة هجر العادات السيئة، والإقلاع عنها مماثلة لطريقة تكوينها.
فإذا أراد العبد أن يستأصل عادة سيئة، ويزرع مكانها عادة حسنة، وخُلُقًا فاضلًا، فلا بد له أولًا من: تقوية الهدف الباعث، ثم العزم والتصميم، والثقة بالنفس، وعدم التردد حتى يصل إلى الهدف الصحيح، ويصبح ذلك ملكة وطبعًا مألوفًا.
قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: "المزاولاتُ تعطي الملكات، ومعنى هذا أن من زاول شيئًا واعتاده، وتمرن عليه، صار ملكة وسجية وطبيعة، كما أنه لا يزال يتكلف الحلم والوقار والسكينة والثبات، حتى تصير له أخلاقًا بمنزلة الطبائع .. فنقل الطبائع عن مقتضياتها غير مستحيل، غير أن هذا الانتقال قد يكون ضعيفًا، فيعود العبد إلى طبعه بأدنى باعث" (1).
قلت: هذا خاص في تغيير الطباع المستقبحة، وليست حجة لمن زاول المحرمات والكبائر، فإن الاقلاع عنها واجب كالزنا والسرقة والظلم وغيرهما، والتوبة منها واجب على الفور وتحقيق شروطها، وكلامنا في هذا الفصل كيف نكتسب الأخلاق الحسنة ونجتهد في تغييرها للأحسن.










مصادر و المراجع :

١- مَوْسُوعَةُ الأَخْلَاقِ

المؤلف: خالد بن جمعة بن عثمان الخراز

الناشر: مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع، الكويت

الطبعة: الأولى، 1430 هـ - 2009 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید