المنشورات
علو الهمة:
الهمة لغة: "هي بالكسر: أول العزم، وقد تطلق على العزم القوي،فيقال: له همة عالية" (1).
أما في الاصطلاح:
"الهم: هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يُفعل، من خير أو شر" والهمة: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحية إلى جانب الحق لحصول الكمال له أو لغيره" (2).
قال ابن القيم: "والهمة فِعلَة من الهم، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خصوها بنهاية الإرادة، فالهمُّ مبدؤها، والهمة نهايتها.
قال صاحب المنازل:
"الهمة: ما يملك الانبعاث للمقصود صرفًا، ولا يتمالك صاحبُها ولا يلتفت عنها"
والمراد: أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلبًا صادقًا خالصًا محضًا، فتلك هي الهمة العالية التي "لا يتمالك صاحبها" أي لا يقدر على المهلة، ولا يتمالك صبره لغلبة سلطانه عليه، وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود "ولا يلتفت عنها" إلى ما سوى أحكامها، وصاحب هذه الهمة: سريع وصوله وظفره بمطلوبه، ما لم تعقه العوائق، وتقطعه العلائق، والله أعلم" اهـ (3).
قلت: فعلو الهمة يستلزم الجد، والترفع عن الدنايا ومحقرات الأمور.
عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله كَريم يُحب الكَرَمَ وَمَعاليَ الأَخلاقِ، وَيبغِضُ سَفسافَها" (1).
وسفسافها: أي حقيرها ورديئها، وشرفُ النفس أن يصونها عن الدنايا، والهمة العالية لا تزال بصاحبها تزجره عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل، حتى ترفعه من أدنى دركات الحضيض إلى أعلى مقامات المجد والسؤدد.
قال ابن القيم رحمه الله في (الفوائد 203): "فمن علت همته، وخشعت نفسه؛ اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه؛ اتصف بكل خلق رذيل".
وقال رحمه اللهُ في (الفوائد): "فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار؛ فالنفوس العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل، والنفوس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك".
قال ابن السَّمَّاك: هِمَّةُ العاقل في النجاة والهَرَب، وهِمَّة الأحمق في اللَّهو والطَّرب (2).
فإذا حرص المرء على اكتساب الفضائل، وألزم نفسه على التخلق بالمحاسن، ولم يرض من منقبة إلا بأعلاها، ولم يقف عند فضيلة إلا وطلب الزيادة عليها، نال مكارم الأخلاق.
* من أمثلة ساقطي الهمة:
1 - قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} [الأعراف 175 - 176].
هذه قصة رجل من بني إسرائيل آتاه الله آيات -وقيل اسم الله الأعظم- لكنه انسلخ منها، واستبدل الإيمان بالكفر، والفضيلة بالرذيلة، فصورته بشعة قبيح المنظر، منسلخ الجلد، وخلفه الشيطان يحثه ويتبعه، فهذا الفاجر المتبوع أخلد إلى الأرض والتصق بها، وسقطت همته بالذنوب والمعاصي، واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب في اللهاث الدائم، ومن طبع الكلب أنه يلهث دائمًا، وهذا الفاجر الجاحد التابع لهواه يلهث، لأن الشيطان يحثه على سيره المعوج.
قلت: فالعاقل لا يستبدل نعم الله عليه من الهداية إلى الضلال، ومن العفة إلى المآثم، والعاقل لا يخالط اللاعبين العابثين؛ لأن صحبتهم جرب، وعشرتهم داء.
2 - قال الفضيل بن عاصم: بينما رجل يطوف بالكعبة إذ بُصر بامرأة ذات جمال فأفتنته وشغلت قلبه، فأنشأ يقول:
ما كنتُ أحسبُ أن الحب يعرضُ لي ... عند الطوافِ ببيتِ اللهِ ذي السترِ
حتى ابتليتُ فصار القلبُ مختبلًا ... في حبِّ جاريةِ حوراءَ كالقمرِ
يا ليتني لم أكن عاينتُ صورتها ... لله ماذا توخاني به بصري
هذا نموذج واحد لمن سقطت همته، وساء خلقه، في أقدس بقعة في الأرض، وقد ابتلي بسوء النظر، والبلايا كثيرة، فالله المستعان.
مصادر و المراجع :
١- مَوْسُوعَةُ الأَخْلَاقِ
المؤلف: خالد بن
جمعة بن عثمان الخراز
الناشر: مكتبة
أهل الأثر للنشر والتوزيع، الكويت
الطبعة: الأولى،
1430 هـ - 2009 م
23 أبريل 2024
تعليقات (0)