المنشورات
الأدب مع الله تعالى
أعلى المراتب الخُلُق مع الله -سبحانه وتعالى-، والعاقل من يكون خُلُقه وأدبه مع الله تعالى وهو أصل كلّ أدب، بل لا يتَّصف أحد بأدَبٍ إن عَدِمَ "الخُلُق مع الله".
والأدب مع الله هو حُسْن الانقياد إليه بإيقاع كل حركة عدى مُقتَضَى تعظيمه وإجلاله، والحياء منه، وهذا يشمل: القلب، واللسان، والأركان.
وأدب القلب: هو الأصل والأساس لغيره، فمقتضاه أن يتَوجَّه إلى الله وحده محبةً، وخوفًا، ورجاءَ وتوكلًا واستعانة، إلى غير ذلك، وفي المقابل: فإن أَعظَم الإسَاءة أن يلتفت إلى غيره، أو يقصد سواه، وهو المتفرِّد بالخَلق، والرِّزقِ والمُلكِ والتدبير، وبيده وحده النَّفع والضّر، وإليه وحده مرجع الأمر.
وأمَّا أدب اللسان فمقتضاه: أن لا يقول إلا ما فيه تعظيمُ إلهه ومولاه، وأن لا ينطق إلا بما يحبه ويرضاه؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)} [الأحزاب: 70] ومن ذلك: ذكره، وتلاوة كتابه، والتسبيح بآلائه.
وفي المقابل فإن أعظم إساءة: الاستهزاء بآيات الله خوضًا ولعبًا، وسب الله العظيم، وسب آياته وشريعته، وهذا هو أعظم الجرم، وهو الكُفْر البواح.
وأعلى مراتب الأدب مع الله سبحانه التوحيد؛ قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].
ومن أعظم مظاهر سوء الأدب مع الله في الأفعال: المجاهرة بالعصيان، ومحاربة الرحمن، ورد أمر الله اتباعًا لأمر الهوى والشيطان، ومن ذلك: سماع الكذب، وأكل السحت، وهذا من أخبث صفات اليهود.
قلت: ومن الفهم القاصر عند البعض ظنّهم أنه لا أدب مع الله، بل الخُلُق يكون فقط مع الخَلق وليس الخَالق؛ ولهذا نبَّه العُلَماء على ذلك كثيراً، ومنهم العلامة محمد بن صالح العثيمين حيث قال: "إن كثيرًا من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق خاص بمعاملة الخَلقِ دون معاملة الخَالق، ولكن هذا الفهم قاصر، فإن حُسْنَ الخُلُق كما يكون في معاملة الخَلق، يكون أيضًا في معاملة الخَالق.
فموضوع حُسن الخُلُق إذًا: معاملة الخالق -جل وعلا-، ومعاملة الخَلق أيضاً، وهذه المسألة ينبغي أن يتنبه لها الجميع.
وحسن الخُلُق في معاملة الخَالق يجمع ثلاثة أمور:
1 - تَلقَّي أخبار الله عز وجل بالتَّصديق.
2 - تلقَّي أحكامة بالتَّنفيذ والتَّطبيق.
3 - تلقي أقْدَاره بالصَّبْر والرِّضَا" (1).
أنواع الأدب:
قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: "والأدب ثلاثة أنواع:
1 - أدب مع الله سبحانه وتعالى.
2 - وأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه.
3 - وأدب مع خلقه.
فالأدب مع الله ثلاثة أنواع:
أحدها: صيانة معاملته من أن يشوبها نقيصة.
الثاني: صيانة قلبه من أن يلتفت إلى غيره.
الثالث: صيانة إرادته من أن تتعلق بما يمقتك عليه" (2).
فالأدب مع الله سبحانه: إيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء والمراقبة.
ومقامات الأدب مع الله سبحانه كثيرة جداً، ومنها مقام المراقبة: بدوام علم العبد وتيقنهِ باطلاع الحقِّ -سبحانه وتعالى- على ظاهرهِ وباطنه (3).
فالعبد يخلو أحيانًا بما لا يراه أحد، فينبغي أن يحقق مقام المراقبة مع الله سبحانه دائمًا، فلا يجترح السيئات، ولا ينتهك الحرمات، فيستشعر أن الله مطلع عليه ومراقب له.
قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].
وقال سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52].
وقال تعالى: {أَلًا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلًا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)} [هود: 5].
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى-:
"يبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يخفى عليه شيء، وأن السر كالعلانية عنده، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر، وما يعلن وما يسر، والآيات المبينة لهذا كثيرة جدًا؛ كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: 16].
وقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235].
وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف: 7].
ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم، إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى.
واعلم أن الله -تبارك وتعالى- ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظًا أكبر، ولا زاجراً أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن، من أنه عالم بكل ما يعمله خلقه، رقيب عليهم، ليس بغائب عما يفعلون، وضرب العلماء لهذا الواعظ الاكبر والزاجر الأعظم مثلًا ليصير به كالمحسوس، فقالوا: لو فرضنا أن ملكاً قتَّالًا للرجال، سفاكاً للدماء، شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً، وسيافه قائم على رأسه، والنطع مبسوط للقتل، والسيف يقطر دماً، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته، فهل ترى أن أحداً من الحاضرين يهم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه، وهو ينظر إليه، عالم بأنه مطلع عليه؟! لا، وكلا، بل جميع الحاضرين يكونون خائفين، وجلة قلوبهم، خاشعة عيونهم، ساكنة جوارحهم؛ خوفاً من بطش ذلك الملك.
ولا شك -ولله المثل الأعلى- أن رب السماوات والأرض- جل وعلا- أشد علماً، وأعظم مراقبة، وأشد بطشاً، وأعظم نكالًا وعقوبة من ذلك الملك، وحماه في أرضه محارمه، فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه -جل وعلا- ليس بغائب عنه، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لانَ قلبه، وخشي الله تعالى، وأحسن عمله لله جل وعلا.
ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى أن الله -تبارك وتعالى- صرح بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملًا، ولم يقل: أيهم أكثر عملًا، فالابتلاء في إحسان العمل؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
وقال في الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} [الملك: 2].
ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خُلق من أجلها هي أن
يبتلى، -أي يختبر: بإحسان العمل- فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحة في هذا الاختبار" (1).
ذُكر عن أعرابي قال: خرجتُ في بعض الليالي المظلمة، فإذا أنا بجارية فأردتها عن نفسها، فقالت: ويلك أما كان لك زاجر من عقل إذا لم يكن لك ثانٍ من دين؟ فقلتُ: إنه لا يرانا إلا الكواكب، فقالت: فأين مكوكبها؟ (1).
قال الشاعر:
وإذا خلوتَ بريبةٍ في ظلمةٍ ... والنفسُ داعيةٌ إلى الطغيانِ
فاستحيي من نظر الأله وقل لها ... إنَّ الذي خلقَ الظلام يراني (2)
فالعاقل من يراقب ربه، ويحذر سوء المنقلب.
عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَعلَمَنَّ أقوَاماً من أُمتى يأتُونَ يومَ القيامةِ بحَسَنَاتٍ أَمثالِ جبالِ تِهاَمةَ، بِيضاً، فيجعلُها اللهُ هباءً منثوراً. أَمَّا إنَّهُم إخوانُكم ومن جلدَتِكم ويأخُذونَ مِنَ الليلِ كما تأخذُونَ، ولكنهُم، أقوَامٌ إذا خَلَوا بمحارمِ اللهِ، انتَهَكُوهَا" (3).
والعاقل من يعظم ربه في الغيب والشهادة، ويضع مقام الخشية نصب عينه دائماً، فيحلو في العيون، ويعظم عند مولاه.
قال القاسم بن محمد: "كنا نُسافر مع ابن المبارك، فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيءٍ فُضِّل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟، إن كان يصلي إنَّا لنصلي، ولئن كان يصوم إنَّا لنصوم، وإن كان يغزُو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنَّا لنحج.
قال: فكنا في بعض مَسيرنا في طريق الشام ليلةً نتعشَّى في بيتٍ إذ طَفئ السراجُ، فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يَستصبح، فمكث هنيئة، ثم جاءَ بالسراج، فنظرتُ إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضِّل هذا الرجل علينا، ولعله حين فَقدَ السراج فصار إلى الظُلمة ذكرَ القيامة.
قال المروَزِيِّ: وسمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبئةٍ كانت له (1).
قلت: وصدق الإمام ابن قيم الجوزية في قوله: "اعلم أن أشِعَّة "لا إله إلا الله" تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوتُ أهلها في ذلك النور قوةً، وضعفًا لا يحصيه إلا الله تعالى.
فمن الناس: من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف , .. نعم من قالها بلسانه، غافلًا عن معناها، معرضًا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها. راجيًا مع ذلك ثوابها حَطَّت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض" اهـ (ملخصًا) (2).
مصادر و المراجع :
١- مَوْسُوعَةُ الأَخْلَاقِ
المؤلف: خالد بن
جمعة بن عثمان الخراز
الناشر: مكتبة
أهل الأثر للنشر والتوزيع، الكويت
الطبعة: الأولى،
1430 هـ - 2009 م
23 أبريل 2024
تعليقات (0)