المنشورات

وجوب العمل بالقرآن الكريم:

فالعاقل من يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقف عند نهيه ويأتمر بأمره، ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، ويقيم حدوده وحروفه.
قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه 123: 126].
وقال سبحانه: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)} [طه99: 100].
وعن النَّواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: سَمِعتُ النبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "يُؤتَى بِالقُرآنِ يَومَ القِيَامَةِ وَأَهلِهِ الذينَ كَانُوا يَعمَلُونَ بِهِ، تقدمُهُ سُورَةُ البَقَرَةِ وَآل عِمرَانَ"،وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثَالِ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعدُ. قَالَ: كَأنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَو ظُلَّتَانِ سَودَاوَانِ بَينَهُمَا شَرْقٌ، أَو كَأنهُمَا حِزقَانِ من طَيرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَن صَاحِبِهِمَا" (1).

التلاوَةُ هي الاتباعُ:
قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121].
قال مجاهد: في قوله {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]، قال: يَعمَلُونَ به حَقّ عَمَلِهِ (2).
وقال عكرمة: يتّبعونه حقّ اتباعه (3)، وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} [فاطر: 29].
قلت: ومن معاني التلاوة: الاقتداء بالقرآن، والمتابعة، والعمل بموجبه
قال الراغب:
"تلا: تبعهُ متابعةً .. تارةً بالجسم، وتارةً بالاقتداء في الحكم، وتارة بالقراءةِ أو تدبُّرِ المعنى {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} [هود: 17]، أي يقتدي به، ويعملُ بموجبِ قوله {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 113]، والتِّلاوَةُ تختَصُّ باتِّباعِ كُتُبِ اللهِ المُنزّلَةِ تارةً بالقراءةِ، وتارةً بالارتِسامِ لما فيها من أمرْ ونهي وترغيبٍ وترهيبٍ، أو ما يُتَوَهَّمُ فيه ذلك، وهو أخصُّ من القراءةِ، فكلُّ تلاوةٍ قراءةٌ وليس كلُّ قراءةٍ تلاوةً، وأمَّا قولُهُ {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} فاتِّباعٌ له بالعلم والعمل" (1).
وقال السعدي في تفسيره: "أي: يتبعونه في أوامره فيمتثلونها، وفي نواهيه، فيتركونها، وفي أخباره، فيصدقونها ويعتقدونها، ولا يقدمون عليه ما خالفه من الأقوال، ويتلون أيضاً ألفاظه، بدراسته، ومعانيه، بتتبعها واستخراجها، ثم خص من التلاوة بعدما عمم الصلاة التي هي عماد الدين" (2).
وقال -رحمه الله-: "والتلاوة: الاتباع، فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، وهؤلاء هم السعداء" (3).
وقال في تفسير سورة العنكبوت: "يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله، وهذا الكتاب العظيم، ومعنى تلاوته، اتباعه، بامتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه، والاهتداء بهداه، وتصديق أخباره، وتدبر معانيه، وتلاوة ألفاظه، فصار تلاوة لفظه جزء المعنى وبعضه، وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب، علم أن إقامة الدين كلها، داخلة في تلاوة الكتاب" (4).
قال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله-:
"وهذه المُتابَعةُ هي التلاوةُ التي أثنى اللهُ على أهلها في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} [فاطر: 29]، وفي قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121] والمعنى: يتبعونَ كتابَ اللهِ حقَّ اتباعه، وقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 45]، وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل 91: 92].
فحقيقةُ التلاوةِ في هذه المواضعِ هي التلاوةُ المطلقةُ التَّامَّةُ، وهي تلاوةُ اللفظِ والمعنى؛ فتلاوةُ اللفظِ جزءُ مُسمى التلاوةِ المُطلقةِ، وحقيقةُ اللفظِ إنما هي الاتباعُ، يقال: اتلُ أثر فلانِ، وتلوتُ أثرهُ، وقفوتُهُ وقصصتُهُ، بمعنى تَبعتُهُ، ومنه قولُه تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)} [الشمس 1: 2]، أي: تَبعَها في طلوع بعد غَيبتها، ويُقال: جاءَ القومُ يتلو بعضهم بعضًا، أي: يتبع، ويُسمَّى تالي الكلام تاليًا، لأنَّهُ يُتبعُ بعضَ الحروف بعضًا، لا يُخرجُها جُملةً واحدةً، بل يُتبعُ بعضها بعضًا مُرتبةً، كُلَّما انقضى حرفٌ أو كلمةٌ أتبعهُ بحرفِ آخرَ وكلمةِ أُخرى، وهذه التّلاوةُ وسيلةٌ وطريقٌ.
والمقصودُ التِّلاوةُ الحقيقيةُ، وهي تلاوَةُ المعنى واتِّباعُهُ؛ تصديقًا بخبرهِ وائتمارًا بأمرهِ، وانتهاءَ عن نهيهِ، وائتمامًا به، حيثُ ما قادكَ انقدتَ معه، فتلاوةُ القُرآنِ تتناولُ تلاوةَ لفظهِ ومعناهُ، وتلاوةُ المعنى أشرفُ من مجرَّد تلاوةِ اللفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآن الذين لهم الثناءُ في الدنيا والآخرة،فإنهم أهلُ تلاوةٍ ومتابعةٍ حقًّا" (1).
والخلاصة أن التلاوة تعني المتابعة والعمل، وليس مجرد القراءة فقط، وهذا تفسير السلف أن التلاوة تعنى العمل، وهو تفسير باللازم.
قال ابن القيم: "التأمل في القرآن: تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر" (2).
ولك أن تتأمل هذا المشهد فيمن علَّمه الله القرآن، ثم لم يعمل به، ففي صحيح الإمام البخاري من حديث رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - الطويل "قَالا: "انطَلِق، فَانطَلَقنَا حَتى أتينَا عَلَى رَجُلٍ مُضطَجِعِ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجل قائم عَلَى رَأسِهِ بِفِهرٍ أَو صَخرَةٍ فَيَشدَخُ بِهِ رَأسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهدَهَ الحَجَرُ فانطَلَقَ إِلَيهِ لِيَأخُذهُ، فَلا يَرجِعُ إِلَى هَذَا حَتى يَلتَئِمَ رَأسُهُ، وَعَادَ رَأسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيهِ فَضَرَبَهُ، قُلتُ: مَن هَذَا؟ قَالا: انطَلِق .. قُلتُ: طَوَّفتُمَاني الليلَةَ فَأخبِرَانِي عَما رَأَيتُ. قَالا: نَعَم. الذي رَأَيتَهُ يُشدَخُ رَأسُهُ فرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ القُرآنَ فَنَامَ عَنهُ بِاللَّيلِ، وَلَم يَعمَل فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ" (3).
قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].
وعن أَبي مالكِ الأشعريُّ - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " .. وَالقُرآنُ حُجَّة لَكَ أَو عَلَيكَ" (4).
القرآن الكريم فيه العلم الذي أمر الله به، ونهى عنه، وتعظيم شعائره وعدم انتهاك محارمه، فالعمل به واجب.
وخلاصة القول، أن الأدب مع الله -سبحانه وتعالى- سعادة في الدنيا والآخرة، فلا يكون ذلك إلا بالقيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهرًا وباطنًا، وفي ذلك سعادة الإنسان ونجاته في الآخرة.












مصادر و المراجع :

١- مَوْسُوعَةُ الأَخْلَاقِ

المؤلف: خالد بن جمعة بن عثمان الخراز

الناشر: مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع، الكويت

الطبعة: الأولى، 1430 هـ - 2009 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید