المنشورات

الاعتراض والمراءُ والتجَاسُر:

لا سيما إذا عثر على زلةٍ، أو ظفرَ بخطأٍ، فيُبادر بعضُ الطلاب إلى الإنكار والاعتراض والنقد، وربما المراء، والعالم ليس معصومًا؛ ولكن الآفة إثبات الذوات، وتصيد الأخطاء، والتشنيع ونشرها في الآفاق.
وإياك إذا حضرت مجلس علم أن تكون مستغنيًا بما عندك طالبًا عثرة تشنعها، فهذه أفعال الأراذل الذين لا يفلحون في العلم أبدًا، وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين، فأما أهل البدع والضلالة، ومن تشبه بالعلماء، وليس منهم، فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيرًا من الاقتداء بهم.
وأما أئمة الهدى، فإنه يجب أن يعاملوا بالإكرام والاحترام والتثبت والتصويب بما يليق معهم من النصيحة العامة، وفي الوقت المناسب بما يحقق ثمرة النصيحة.

قال العلامة ابن العربي: وصلت الفسطاط مرة، فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجواهري، وحضرت كلامه على الناس، فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - (طلق وظاهر وآلى) فلما خرج تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة، فلما انفض عنه أكثرهم، قال لي: أراك غريبًا هل لك من كلام؟ قلت: نعم. قال لجلسائه: افرجوا له عن كلامه، فقاموا وبقيت وحدي معه، فقلت له: حضرت المجلس اليوم وسمعتك تقول: آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقت، وطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقت، وقلت: وظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لم يكن ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضمني إلى نفسه وقبل رأسي وقال لي: أنا تائب من ذلك جزاك الله عني من معلم خيرًا، ثم انقلبت عنه وبكرت إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيته قد سبقني إلى الجامع وجلس على المنبر فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته "مرحبًا بمعلمي افسحوا لمعلمي" فتطاولت الأعناق إليَّ وحدقت الأبصار نحوي، وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض والجامع غاص بأهله، وأسال الحياء بدني عرقًا، وأقبل الشيخ على الخلق فقال لهم: أنا معلمكم، وهذا معلمي، لما كان بالأمس قلت لكم: آلى رسول الله، وطلق رسول الله، وظاهر رسول الله، فما كان أحدٌ منكم فقه عني ولا رد عليَّ فاتبعني إلى منزلي وقال لي كذا وكذا، وأنا تائب عن قولي بالأمس وراجع عنه إلى الحق، فمن سمعه ممن حضر فلا يعول عليه، ومن غاب فليبلغه من حضر، فجزاه الله خيرًا، وجهد في الدعاء والخلق يؤمنون".
فانظروا -رحمكم الله- إلى هذا الدين المتين والاعتراف بالعلم لأهله على رؤوس الملأ، ومن رجل ظهرت رياسته لغريب مجهول العين لا يُعرف من هو، ولا من أين، واقتدوا به ترشدوا.
قلت: لهذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: 
تَعَمَّدني بِنُصحكَ في انفرادي ... وَجَنبني النصِيحَةَ في الجَمَاعهْ
فإن النُّصحَ بين النَّاسِ نَوعٌ ... مِنَ التوبيخِ لا أَرضى استمَاعهْ
وَإن خَالفتَني وَعَصِيتَ أمري ... فلا تَجزعْ إذا لم تُعطَ طاعَهْ
فالحذر من أن ينتقد العالم بأسلوب ينال من هيبته عند صغار الطلبة أو العوام، وليس المراد بترك الاعتراض على العلماء ترك الاعتراض بالكلية، بل المراد ترك الاعتراض في موضع الاحتمال والاجتهاد، وترك الاعتراض المقصود لذاته، وترك المبادرة إلى الاعتراض دون تثبت وتبين.










مصادر و المراجع :

١- مَوْسُوعَةُ الأَخْلَاقِ

المؤلف: خالد بن جمعة بن عثمان الخراز

الناشر: مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع، الكويت

الطبعة: الأولى، 1430 هـ - 2009 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید