المنشورات

ليس الواصل بالمكافِئ

من المفاهيم الخاطئة عند كثير من الناس قولهم: نحن نزور من يزورنا، ونقطع من يقطعنا، ولسان حالهم كحال الشاعر وهو يتمثل هذه الصفة الذميمة بقوله:
ولستُ بهيابٍ لمن لا يهابني ... ولستُ أرى للمرءِ ما لا يرى ليا
فإن تَدنُ مني تدن منك مودتي ... وإن تنأَ عنى تلقني عنك نائيا

قلت: وليس هذا فحسب، بل تعدى ذلك إلى المخاصمة والتهاجر والتدابر، وهذا المفهوم -بلا شك- مخالف للنصوص الشرعية الداعية للتواصل، وعدم التقاطع والتنافر، ولهذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" (1).
وهذا الحديث ينفي المكافأة في الصلة، ولكن يقرر أن أصل الصلة أن تصل من قطعك، ولا تقتصر بصلة من وصلك، فالناس درجات:
1 - واصل. 2 - مكافئ. 3 - قاطع.
وخيرهم الواصل؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك" (2).
وجاء في الحديث أن رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لي قرابةً أَصِلُهُم ويقطعُوني، وأُحسنُ إليهم وُيسيئون إليّ، وأحلُمُ عَنهُم ويجهلُونَ عليّ. فقال: "لَئِن كُنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُمُ المَلَّ، ولا يزالُ معكَ مِنَ الله ظهير عليهم ما دُمتَ على ذلك" (1).
قوله: (يجهلون عليّ) أي: يسيئون، والجهل هنا القبيح من القول.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "هو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته، وإدخالهم الأذى عليه (2).
وقيل: معناه أنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتُحقِّرهم في أنفسهم، لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كم يسف المل.
وقيل: ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالملِّ يحرق أحشاءهم، والله أعلم.
قال أبو العتاهية:
فكأنما الإحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الحكم
ما زال يظلمني وأرحمه ... حتى بكيت له من الظلم
قلت: ولا ننسى في هذا المقام عفو أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عندما حلف أن يقطع النفقة عن مِسْطَحُ بن أُثَاثَة، الذي أذاه في عرضه في حادثة الإفك، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - معروفًا بالإحسان، له الفضل والأيادي الجميلة على الأقارب والأجانب، وعندما ولَغَ مسطح في عرضه، لم يمنعه ذلك من معاودة إحسانه في سبيل الله لما نزل قول الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} [النور: 22].
وفي هذا الموقف درس وعبرة للذين يقطعون أرحامهم لتوافه الأمور من أجل كلمة أو زلة .. (1).
قال المقنع الكندي يصف علاقته مع قرابته، وكيف يسيئون إليه ويكرمهم:
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمّي لمُختلفٌ جِدّا
إذا قدحوا لي نارَ حربٍ بزندهم ... قدحت لهم في كلِّ مكرمةٍ زندا
وإن أكلوا لحمي وَفرتُ لحومَهُم ... وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا
ولا أحمِلُ الحقدَ القديمَ عليهمُ ... وليس رئيسُ القوم مَن يَحمِلُ الحقدا
وأعطيهمُ مالي إذا كنت واجدًا ... وإن قلّ مالى لم أكَلفهمُ رفدا











مصادر و المراجع :

١- مَوْسُوعَةُ الأَخْلَاقِ

المؤلف: خالد بن جمعة بن عثمان الخراز

الناشر: مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع، الكويت

الطبعة: الأولى، 1430 هـ - 2009 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید